نصوص أدبية

في رثاء الفيلسوف

ليس للموت تلك الفلسفة العميقة التي تطيح بمغزى الحياة. لكن لو مات الفيلسوف فله قطعاً هذه الخاصية النادرة، إذ يصبح للموت مغزىً واضحٌ يشير إلى أنَّ جوهر الحياة نفسها كائنٌ في الموت نفسه، لأنَّ هذا الأخير كائنٌ حيٌّ بالكامل، وهو قادرٌ على تبرير نفسه في كلِّ آن.

الموت ليس واحداً، فهناك موتٌ أحمر، هذا الموت مختصٌّ بذوي الحظوظ التعيسة في الحياة من جهة العجز عن الحصول على  قرص الخبز، وهناك موتٌ أزرق، وهذا الموت له طبيعةٌ خاصةٌ من جهة أنه متعلقٌ بذوي الملكات الضعيفة في مجال ما يقومون به من أعمالٍ، وهناك موتٌ أسود، وهذا الموت بالذات مدَّخرٌ لمن لا يبكون وهم يشاهدون العالم يسير إلى حتفه على الرغم من أنه مبتهجٌ جداً بالكارثة.

لكنَّ هناك موتاً آخر، موتاً ليس حائزاً على لونٍ محددٍ بالذات، بل هو موتٌ أبيض وأحمر وأسود وأزرق في الآن نفسه، أي أنه يحمل تلك الألوان التي يتكوَّن منها طيف الشمس جميعاً، فيشترك في مثل هذا الموت صنفان:

الصنف الأوَّل: الأنبياء. فهم يموتون على حين غرَّةٍ، غالباً ما يموتون وهم يشمون عطر العالم كالوردة، وفي أحيانٍ قليلةٍ أخرى يموتون وهم قابضون على كتلة العالم كلِّه كما يقبض المضطرُّ على كتلة الجمر.

الصنف الثاني: هم الفلاسفة. فهؤلاء لهم أسلوبهم في جعل وجودهم ضرورياً بالنسبة لهذا العالم، وحينما يصلون إلى هذا المستوى من الضرورة يقرِّرون الإعتزال فجأةً، لأنهم واثقون من أنَّ معنى الضرورة هو أن يكون الشيء موجوداً لمدَّةٍ محدودةٍ ريثما يمتلك تلك الصفة، فإذا بلغها صار لزاماً عليه أن ينزوي بعيداً، كي ينعدم أمام العيون مجال الرؤية تماماً، فلا يعود بالإمكان النظر إلى العالم إلا بوصفه حلماً في قبضة الكابوس.

***

لا بأس، لا بأس أيها الفيلسوف، فأنت الآن رهن التراب، كما إنَّ الدود له مهرجانٌ مهيبٌ فوق الفم، ومن الطبيعيِّ أن يستقرَّ أخيراً هناك وسط الجمجمة.

بالنسبة لي أفضل أن أكون نخلةً فوق قبرك مباشرةً، لأمدَّ جذوري بعيداً بعيداً حتى أستمدَّ الغذاء من ذلك الكيان.

هل تعلم لماذا أيها الفيلسوف تحدوني هذه الرغبة إلى أن أكون فوق قبرك غرساً من النخيل؟!

لو كنت غرساً من النخيل في أرض قبرك أيها الفيلسوف لرأى العالم كيف يكون البلح في الأعذاق بشارةً بميلاد الأنبياء مرَّةً أخرى، كلهم يولدون مرَّةً أخرى بلا استثناء، حتى من كان منهم غابراً جداً إلى حدِّ أنه اختفى ليس من ذاكرة الأرض فقط، بل من ذاكرة الكواكب التي من المفترض أن تكون منازل الأنبياء بعد الموت.

بلحي إذ أكون النخلة فوق قبرك أيها الفيلسوف يشير إلى حقيقة أنَّ الأرض أمٌّ تعقُّ أبناءها على الدوام، ليس باختيارها طبعاً، بل لأنَّ غريزتها منذ بدء الخلق صُمِّمت على أساس أن تكون هكذا راغبةً بلحوم أبنائها، حتى إذا ما أكلتهم بكت عليهم قليلاً ثمَّ فكَّرت بأن تلد سواهم من الأبناء مجدَّداً، لتطعم نفسها بعد أن تسقي جمال وجوههم عصارة الموت الزؤام.

***

الآن أيها الفيلسوف عليك أن تموت، وعليك أن تحتفظ بالسرِّ جيداً، فلا تقل إني وجدت فضاءً أرحب في الموت، ولا تقل كذلك إنَّ الموت في حقيقته عين الحياة، فإذا خانك الصبر فقلت ذلك سهواً، أو عمداً من أجل غايةٍ ما، فعليك أن تلطِّف من حدَّة الصدمة في هذا الأمر، فتقول مثلاً إنك قصدت من كلِّ هذا معنىً مجازياً مفهوماً بالنسبة للعقلاء، أي أنَّ الحياة تبقى أعلى منزلةًُ من الموت على هذا الأساس، لكنَّ على الذين يحبون الحياة أن يطهروها من الأرجاس، فإذا لم تطهر كان الموت أرقى من هذا الباب، وإلا فلو زعمت أنَّ الموت

يكتنز المعنى الواقعيَّ للحياة على وجه الحقيقة، فهذا يعني أنَّ الناس لو اقتنعوا بهذا الزعم يكون من الأفضل بالنسبة لهم أن يموتوا، وأن يجهزوا على أنفسهم وأبنائهم وزوجاتهم في نفس الآن، ولن يكون ميسوراً لهم أن يتحملوا رباطة جأشك في أن ترى الحكمة أن تعيش وطر الحياة كاملاً، لكي يتركز إكسير الحياة في الموت من الجانب الآخر، حتى إذا ما عرفت أضداد الموت من أصناف الحياة، وقارنت بينهما بمنهجٍ صارمٍ لا يتنكر للعرفان طبعاً، أدركت بهذا الموجب الوجه الحقيقيَّ للحياة في قلب الموت، وفي هذا خيرٌ كثيرٌ بالنسبة إلى الفلاسفة، لكنَّ فيه شراً مستطيراً بالنسبة إلى السواد الأعظم من الناس، فاحفظ السرَّ أيها الفيلسوف، فما أنت بأقلَّ شأناً من أيِّ عارفٍ في العالم، إذ يضطرُّ أحياناً إلى أن يكون ملامتياً، فلا يصلِّي أمام الناس في محرابٍ، خشية أن يصاب عرفانه كلُّه بالإحباط.

***

الموت ليس نهاية العالم، بل هو البداية التي لا تشير إلى النهاية مطلقاً، هذا ما يقال –عادةً- عندما يكون المرء مسجّى على فراش الإحتضار.

بيد أنَّ الفيلسوف يعلم أنَّ للموت فلسفةً أخرى غير هذه، فعلى سبيل المثال لا الحصر، يمكن أن يقال عن الموت إنه الرجل الناضج ذو الشباب السرمديِّ الخالد، وأنَّ الحياة كانت قبله مجرَّد طفلٍ نما وترعرع منه هذا الشابّ، هذا أيضاً يقال في معرض تقديم العزاء، لكن ليس لأيٍّ كان، بل يقال لعائلة الفيلسوف فقط، حين يكونون هم أيضاً من الفلاسفة، أما لو كانوا لا يفقهون شيئاً من الفلسفة، فيصار إلى تقديم العزاء بالطريقة الأولى، مع تنميق الكلمات ما أمكن، وتطعيمها بما يوحي بأنَّ فقيدهم لم يكن إنساناً عادياً، بل كانت له خصوصية الإنتماء إلى معشر الفلاسفة.

***

لكن مهلاً، فلعلَّ الموت هو الحية التي هجمت على آدم في الجنة من أجل الإغواء، ولقد كان آدم مبتهجاً بها جداً كما نعلم، إلا أنه صار يتقزَّز منها ويراها مصدراً لكلِّ الشرور والألم بعد حادثة الإغواء فقط، لكنَّ آدم لم يكن ملتفتاً إلى المهمة المزدوجة للأفعى، فلقد كان الوجه الآخر لحادثة الإغواء هو أن تقوم مرَّةً أخرى بإغوائه، أي أنها ستقوم بإراءة نفسها لآدم لا على شاكلتها الجميلة الأولى، بل ستري نفسها لآدم هيأتها القبيحة جداً بعد أن توحَّدت بها شجرة الحياة، فإذا ما رآها آدم على تلك الهيأة نفر منها، ولم يعلم أنَّ الحية الآن هي الحياة السرمدية ذاتها، وليست كما كانت في السابق مجرَّد نارٍ تلتهم الأعواد الندية لشجرة الحياة.

المهمّ، عليك أيها الفيلسوف أن تنتبه إلى هذه النقطة بالذات، وهي أنَّ الموت فنٌّ كبيرٌ في الحقيقة، فنٌّ متشعِّبٌ جداً، ولا يموت الناس موتاً واحداً، ومن الطبيعيِّ أن تختار موت الفيلسوف، لكن عليك وأنت تختار هذا النمط الخاصَّ من الموت أن تنتبه إلى أنَّ موت الفيلسوف نفسه وجبة طعامٍ دسمةٌ، إلا أنها موضوعةٌ على خوانٍ ليس عليه جرعة ماءٍ، وعلى هذا الأساس لا بدَّ لموت الفيلسوف أن يستغيث بالعارف كي يفيض عليه من الماء الزلال البارد، وفي هذه الحالة فقط سيكون لذلك الطعام معنىً في نظر الفيلسوف هناك، أقصد هناك في عالم الموت.

***

محمَّد عابد الجابريّ رجلٌ لا يطاق، وهكذا هو شأن كلِّ فيلسوفٍ عظيمٍ طبعاً، لكنَّ الرجل أصبح عاقلاً جداً في نهاية الحياة، حتى أنه ربما صار مقروءاً من خصومه كثيراً، بينما تجنَّب مريدوه السابقون أن يقتنوا مؤلفاته اللاحقة.

لا بأس، فالرجل كان يشعر بالمسؤولية تجاه العالم، وكان ينظر صوب الضفَّة الشمالية للمتوسُّط فينبهر بما يراه هناك من مخلوقات الخيال وقد أصبحت أمام العين واقعاً مرئياً، ثمَّ ينظر صوب الضفَّة الجنوبية من المتوسُّط فلا يرى إلا عالم الخيال نفسه، وقد ظلَّ على حاله خيالاً، ولم يترك منطقة البرزخ إلى حيث الواقع نفسه هو التجسيد الأعلى للخيال.

من هنا فإنَّ محمد عابد الجابريّ لم يكن رجلاً عادياً في الحقيقة، بل كان رجلاً أشبه ما يكون بكولومبس، أي أنه استطاع أن يكتشف تلك القارَّة الرهيبة، ليس في الجانب الآخر من الأطلسيّ، لكن هنا في نفس هذا الجانب من الأطلسيّ، حيث كان التراث سجلاً مغلقاً، وكانت فيه من القارّات الحديثة ما لو دخلها الإنسان لرأى فيها من الأعاجيب ما يجعل عقل الإنسانية مضاعفاً، إلى درجة أنَّ الخصومة بين الله والشيطان ستكون مظهراً من مظاهر ألوهية الإنسان لا غير.

 

[email protected]

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1398 الاحد 09/05/2010)

 

 

في نصوص اليوم