نصوص أدبية

البذرة التي أكلها الغراب

الجو مكفهر والريح مشحونة بمطر أسود، لا أحد يدري متى تنتهي هذه الحرب المجنونة، وهل هي حرب واحدة، إثنتان، ثلاثة...إنها حروب متصلة وكأنها حرب طويلة كحرب البسوس اشتعلت منذ عشرات السنين وما زالت مستعرة ووقودها البشر والبشر فقط  ولا غيرهم فالحجارة باتت لا تشتعل في العراق،....إنها اللعنة وعندما تحل اللعنة، فلا مناص من أن تبتلع الآثم والمؤمن، البريء والمذنب، إنها اللعنة التي تورق لعنات واللعنات تورق لعنات، وهذه اللعنة المنتصرة تعبد المدينة بالدماء واللصوص والمقابر، والمقابر تفتح شدقيها وذراعيها للجثث والعويل والنباح، المدينة صامتة ولقد رحل سكانها بعد أن سقطت أوراق من الطائرات تأمر الناس أن يتركوا بيوتهم كي ينزل الجيش ويطهر المدينة من المتمردين الغوغاء.

 

- وهل بقي جيش؟ ...

كانت تتساءل المرأة العجوز التي بقيت في البيت مع حفيدتها المعوقة، ألم تقصف الطائرات الأميريكية الجيش المنسحب وتبيده، لقد أجابتها ابنتها قبل أن تترك البيت مع زوجها وأولادها:-

- إنهم الحرس الجمهوري وقوات النخبة

لتسأل مستغربة:-

- وماذا كانوا يفعلون هل كانوا نائمين والبلاد حرقتها قوات التحالف واحترق الزرع والضرع

فقال لها زوج ابنتها :-

- إن هؤلاء لم يشاركوا وبقوا كي يحموا الطاغية من السقوط، وهاهم جاءوا كي يطهروا البلاد من من الثوار، وهو يقول عنهم إنهم متمردون وغوغاء

فقالت العجوز:-

- عجبا أي متمردين وأي غوغاء وهم ثاروا أصلا ثأرا لكرامة الجيش التي مرغها الطاغية في الوحل في حروبه المجنونة

فقال لها نسيبها :-

- يا عمتي الحرب انتهت ...الحرب انتهت والطاغية لا يزال حي يعيش ....الحرب انتهت والطاغية ما زال يعيش، يا لبؤسنا فالطاغية حي لم يمت، والثوار حرقوا علم السلطة ودوائر أمنه ومخابراته، حرقوا منظماته الحزبية الشيطانية وقتلوا مناصريه الحزبيين وهرب الرفاق كما كان متوقعا لهم كما أن الكثير من مناصري الطاغية قد انظموا للثوار فهم كانوا ناقمين عليه أيضا، فقالت العجوز:-

- كيف يثق الثوار بمناصريه،  يجب ألا يثق بهؤلاء أحد...يجب ألا تثقوا بهم، لا تثقوا بهم فهم قتلة ومجرمون.

 

كم يوما سأبقى مع هذه الطفلة المعوقة، كيف سأعتني بها لقد ترك الجميع البيت، ولا أدري متى سيعودون، لقد خرجوا مشيا على الأقدام فليس هنالك سيارات ولا وسائط نقل، فالحياة معطلة وليس هنالك وقود والأمريكان قصفوا كل شيء، قصفوا محطات الوقود والكهرباء والمياه، قصفوا الجسور وأبراج الاتصالات، ماذا سنأكل ونشرب؟ ماذا سأعطي لهذه الطفلة  إذا جاعت، ياربي أرحمنا، لا أدري بمن أفكر، هل أفكر بنفسي أم بأبنتي وزوجها وأولادها الفتيان، الذين تركوا البيت ولا أدري ما الذي سيحيق بهم.

 

فتحت باب البيت الرئيسي  ا لترى ما الذي يجري في الخارج، لم تجد شيئا يذكر سوى بعض الشباب الملثمين الذين يجوبون المنطقة، كانوا يحملون بعض الرشاشات، وكانت تصم اذنيها بعض الاطلاقات المتفرقة من هنا وهناك، يبدو أن المحلة كانت خالية من الناس فالكل قد غادر، استجابة لتحذيرات الحكومة المتهاوية، كانت الحوامات الحكومية تطير في سماء المدينة، وتسقط المناشير، غلقت الباب وراءها، دخلت للغرفة وجدت حفيدتها غارقة في البكاء، كان البيت مظلما فحاولت أن تزيح ستارة الشباك قليلا كي يدخل شيئا من النور للغرفة، ثم جلبت قدح ماء للطفلة، جلست قربها فسقتها ماء، سكتت الطفلة عندما شاهدت جدتها، كان عمرها لا يتجاوز الثلاثة سنوات، لكنها لا تستطيع الحركة لوجود خلل ولادي في العمود الفقري يمنعها من الحركة والكلام، سرعان ما ابتسمت الطفلة وأخذت جدتها تناغيها ببعض الكلمات كي لا تعود للبكاء أو تطلب أمها، لقد تركوا لها بعض الأرغفة، ولكن البيت كان شبه خال من طعام، قامت لتبحث عن علبة الحليب كي تطعم الطفلة.

 

صعدت لطابق البيت الثاني بحثا عن علبة الحليب، إذ لم تجدها في المطبخ، دخلت الغرفة، وأخذت تبحث في الخزانة وتحت المناضد، فجأة سمعت صوت عربات وجلبة في الخارج وإطلاق نار، أزاحت الستارة قليلا، فشاهدت عربات الجيش ورجال مدججون بأسلحتهم في نهاية الشارع،  كانت ملابسهم خضراء مرقطة، وفي رؤوسهم يعتمرون بيريات بنفسجية،  هالها المنظر عندما رأتهم يقتحمون البيوت بيتا بيتا بحثا عن أي شيء لا تدري، كان الرجال الملثمون قد اختفوا، ولكنها شاهدت رجال الجيش يأخذون بعض الشباب ويصعدونهم في سيارة زيل عسكرية بعد أن يكتفونهم، كان الأمر مرعبا بالنسبة لها، هل يا ترى سيأتون إلى بيتها ويفتشون عن شيء ما، فالبيت ليس فيه سلاح ولا رجال، كانت تشعر بالأسى لأن هذا الجيش العظيم تحول إلى أداة بيد طاغية مهزوم لقتل وأسر أبناء الشعب، كم كان رائعا لو انظم الجيش لثورة الشباب وخلصوا بلدهم من ظلم الطاغية المهزوم، كانت متعجبة من هذا الجيش، أليس من واجبه أن يحمي الشعب، لم لا يعمل انقلابا وتقديم الطاغية للمحاكمة مع زبانيته كافة، كانت تتساءل هل حقا هذا هو الجيش الذي قام بثورة الواحد وأربعين، هل هذا هو الجيش الذي قام بثورة ثمانية وخمسين، لقد صار جيشا من المرتزقة يقوده مجموعة من الصبية المغرورين، لقد اندحروا في حرب الثمان سنوات وهاهم يندحرون في حرب الكويت واليوم يهجمون على الشعب الذي بكى دما على هزيمتهم، إلى أين يقودنا قادة هذا الجيش، كانت تردد مع نفسها قائلة:- حقا فالنار لا تخلف إلا رمادا، لقد نزلت دمعة ساخنة على ظاهر كفها وهي ترى الشباب يساقون إلى أقدارهم .

 

عندما نزلت إلى الطابق الأرضي، تناهى إلى سمعها طرقا شديدا على باب المطبخ، هرعت لتستطلع الأمر، ولما فتحت الباب شاهدت ابن جيرانهم "حسين" مخطوف الوجه ومضطربا، فقالت له:-

- ما بك يا ولدي

- لقد دخل الجيش بيتنا، وقبضوا على أخي محمد، وهربت أنا

- أدخل يا إبني ولا تخف، أين اهلك إذن، هل تركوا البيت

- نعم ..نعم لقد غادر أبي وأمي وأخوتي وأخواتي

- ولم لم تذهبا معهم؟

- محمد مريض جدا، بقيت معه لم استطع أن أتركه لوحده

كان محمد وحسين أخوين توأم، محمد في الصف الثاني هندسة مدنية، وحسين كان في المرحلة الثانية فنون جميلة، كانا لا يتفارقان ولا يستطيع أحد ان يميزهما عن الثاني، كان والدهما يخاف عليهما ولم يسمح لهما بالمشاركة في الانتفاضة، لأنه كان يشعر بعدم وجود دعم وليس هنالك قادة حقيقيون يمكن أن يلتف حولهم الناس، كان يحس بأن الانتفاضة ولدت مذبوحة، وسيقتل الثوار عاجلا أم آجلا، والأسلم البقاء في البيت كي تنقشع الأمور، ولكن دم الشباب الحي يمور في عروقهما كانا يريدان المشاركة إلا أنهما نزلا عند رغبة والدهما وبقيا في المنزل.

 

بالرغم من أن وجود حسين أضفى شيئا من الطمأنينة عليها إلا أن المرأة العجوز كانت خائفة من مجيء الجيش لتفتيش البيت، لا شك أنهم سيأخذون حسين، كانت ترى الخوف في عينيه بل كانت ترى الموت مرتسما على وجهه، إنفطرقلبها له عندما شاهدته يبكي على أخيه بحرقة وهو يردد :-

- يإلهي أنقذ أخي من هؤلاء المجرمين، فلا قيمة لحياتي بدونه

كان صوت الرصاص ملعلعا ودوي القنابل يأتي من بعيد، وهي لا تدري أين ستخبئ هذا الفتى ذا العشرين عاما، وكيف ستنقذه من هؤلاء المرتزقة الأذلاء. كان لسان حالها يقول إنها تعيش لحظاتها الأخيرة، فهؤلاء سوف لن يرحموها لأنها خالفت الأوامر وبقت في البيت وثانيا لأنها تتستر على حسين.

ارتأت العجوز أن تنقل الطفلة من الغرفة إلى هول البيت لأنه أكثر أمنا لهم، سيكون فوقهم سقفان  وسيحيط بهما جداران، حيث كانوا جميعا ينامون ويجلسون فيه أثناء القصف الأمريكي، وطلبت من حسين أن يحمل الطفلة إلى الهول، وفعلا  حمل حسين الطفلة وجلس على بساط في الهول وجلست العجوز قرب حفيدتها الممدة، كانت تفكر أين تخبئ حسين في حالة مجيء الجند، وكيف تتصرف معهم، كان حسين غير عابئ بما يجري حوله فهو في ذهول، لكنه فجأة باغت المرأة العجوز قائلا:-

- أريد ورقة وقلما

يبدو أن طلب الفتى فاجأهاا، فنظرت في عينيه مستفسرة، لكنها وجدت في عينيه توسلا شفيفا رق له قلبها، فقامت لتبحث عما يريد، جلبت له  قلما رصاص وورقة، دسهما في جيبه ولم ينبس ببنت شفة.

 

ارتعبوا عندما سمعوا صوت رشاشات وإطلاق نار وصوت تحطم زجاج جاء من الصالة المجاورة لهم، ثم سمعوا صوت الباب الحديدي للبيت وهو يفتح بقوة،طلبت من حسين أن يصعد للطابق الثاني ويختبئ، ولكنها فجأة تذكرت بيت الدجاج في مؤخرة البيت  وفعلا قادته إلى هناك وقفلت الباب ورجعت مسرعة للمطبخ وكان الجند يحاولون كسر باب المطبخ، وهنا سمعت أحد الجنود يقول :-

- لا تطلق النار أرى إمرأة عجوز في الداخل

فتحت الباب فدخلوا بدون استئذان، وهم مدججون بالسلاح، فبادرها الملازم الأول

- من معك

- أنا وهذه الطفلة المريضة.

- لماذا لم تتركي البيت

- أنا امرأة كبيرة وهذه الطفلة معوقة

ثم أشار إلى الجنود

- فتشوا البيت

فتشوا الغرف، وبعثروا الأثاث والملابس، صعدوا للطابق الثاني وعملوا الشيء ذاته، كان الضابط يفحص الجدران والغرف، وكان يبدو غيرمتيقن ألا وجود لأحد مع هذه العجوز،  ولكنه شعر وكأنها تخفي شيئا، وعندما نزل الجنود من الطابق الأول أخبروه بعدم وجود أي شخص في البيت وفي السطح، إلا أنه فجأة قال للجنود

- فتشوا خلف البيت

وهنا جفلت العجوز وكأنها قد أصيبت برصاصة.

- لا يوجد لدينا  شيء سوى  بيت الدجاج

- سنتأكد أيتها الحاجة إجلسي ولا تتكلمي

وعندما وجدوا الباب مقفلة، طلبوا منها المفتاح، فاخبرتهم بأن المفتاح مع زوج ابنتها وهم قد تركوا البيت نزولا عند أوامرهم، لكنهم لم يقتنعوا فرموا النار على الباب وكسروا القفل وذهبوا ليتأكدوا بأنفسهم، وهنا سألت الضابط قائلة:-

-عن ماذا تبحثون

- عن الغوغاء

- أية غوغاء فليس لدينا غوغاء

فقال لها مستنكرا

- ألا تعرفين الغوغاء؟، هؤلاء الذين قتلوا الرفاق وأطلقوا سراح المسجونين وسرقوا دوائر الدولة ولطخوا صور السيد الرئيس بالخراء

- إنهم فتيان صغار، وثاروا من أجلكم، ومن أجل كرامتكم، ألم يمرغها الرئيس بالوحل وأنتم تدافعون عنه

وهنا صعق الضابط وكأنه ابتلع خنجرا مسموما، فقد كان جواب العجوز غير متوقع، ولأول مرة شعر الضابط أنه فعلا بلا شرف، ولو كان لديه شرف عسكري لقاتل ومات وهو يدافع عن بلده، وليس وهو يقتحم بيوت أبناء شعبه، عندما شاهدت العجوز وقع كلماتها عليه،عاجلته قائلة

- ألا يستحق رئيسكم الخراء، إنه يستحق أكثر من ذلك، فالذي يجلله العار، ويوقع وثيقة الاستسلام في خيمة سفوان ترى بماذا نكافئه.

لقد كانت كلمات العجوز فصيحة وبسيطة، جعلت الضابط يخرج منهزما من أمامها، لقد هرب وهو يأمر جنوده بالانسحاب إلى خارج البيت، لكن انتصار العجوز على هذا الضابط المنهزم لم يدم سوى ثوان، إذا رجع الجنود ممسكين  بحسين، وهنا انقضت عليهم وهي تحاول انتزاعه من بين مخالبهم، إتركوه يا أو لاد القحبة، أتركوا أولادنا يا أولاد القحبة...هنا ارتبك الجنود ولكنهم دفعوها بعنف وأخرجوا حسين، ثم انقضت عليهم مرة ثانية، وهي تمسك بيد حسين وهي تقول خذوني ولا تأخذوه فهو لم يفعل شيئا، ولكن الجنود دفعوها بعنف فوقعت في أرض المطبخ، كان بكاء الطفلة يتصاعد  في داخل الهول وتصرخ، لقد شعرت العجوز بالدماء تغطيها ولكنها سرعان ماقامت راكضة وراء الجنود، وهي تصرخ أرجوكم أتركوه، إنه لم يفعل شيئا، وعندما شاهدت الضابط الذي أهانته، ركضت إليه وهي تقول أرجوكم لا تقتلوه أرجوكم أتركوه، ولكن كل توسلاتها لم تنفع فقد صعدوا حسين في الزيل العسكري وكان مملوءا بالفتيان الصغار، والشباب ولكنها شاهدت حسين وهو يبتسم لها عندما تحركت السيارة وهو يمسك بكف أخيه محمد.

في منتصف العام 2003، كان هنالك رجل مع امرأتين عجوزين يبحثون في المحاويل بين الأجساد والهياكل العظمية التي وجدت في المقابر الجماعية، كانوا يبحثون عن شابين يلبس كل منهما بيجامة زرقاء وتي شيرت أبيض، كان الناس في هرج ومرج يتباكون بحثا عن جثث أبنائهم وأزواجهم وذويهم، قالت إحدى المرأتين  إنني أشم رائحة كنت قد افتقدتها من إثنتي عشر عاما، وعندما كشف التراب عن الأجساد ظهر هيكلان عظميان متشابهان في الحجم وفي الطول، وكانت في صدغ كل منهما ثقب كبير، وجدت بقايا من بيجامة زرقاء في ساق أحد الهيكلين وبقايا من تي شيرت أبيض على الهيكل الآخر وهما متعانقان. وكانت عظام الهيكلين ملتفة واحدة حول الأخرى ولا يمكن فصلهما، كان صعبا أن يعرف من هو حسين ومن هو محمد، وعندما رفع الهيكلان، شهدت العجوز شيئا أبيض في جيب ال تي شيرت، سحبته وكانت ورقة قد اصفر لونها مكتوب عليها بالقلم الرصاص، فأعطتها للرجل العجوز فقرأ وهو ينحب :-

(والديّ العزيزين، إغفرا لي، كان باستطاعتي أن أنقذ نفسي من الجنود، ولكني لم أستطع أن أتحمل أن ترياني وقد هربت وتركت أخي محمد لمصيره، أنا سعيد لأني سأموت مع أخي، فقد حكمت علينا محكمة عسكرية في معسكر المحاويل بالاعدام رميا بالرصاص بتهمة المشاركة في الانتفاضة، وسينفذون حكم الاعدام بنا غدا عند الفجر... صليا لنا...  حسين / في الخامس والعشرين من آذار من العام 1991 م).

أبو ظبي

‏الجمعة‏، 30‏ نيسان‏، 2010

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1400 الثلاثاء 11/05/2010)

 

 

 

في نصوص اليوم