نصوص أدبية

هراء

ــ وهل جاء في الخبر أيضا، أنه كان من الورع إلي درجة أنه كان يحدث بين الكأس والكأس توبة؟!

صحت في جدّي كطائر جريح:

ــ وهل كان ذلك الملك الصالح سكيرا؟

ربت جدي على كتفي، أجلسني بجانبه، ثم قال لي مؤكدا:

ـــ أجل يا بني... لم يكن صلاح ملوكنا يحول بينهم وبين السكر!

ـــ ....؟

ـــ ثم ألم أشرح لك منذ مدة قول الشاعر:

ملوكنا الصالحون كلهمو

زير نســاء يهشّ للزيرة

وذلك حين سألتني عن معنى زير نساء، وقد أفدتك ايضا بأن الزيرة من أسماء الخمر؟

هرش جدي قفاه ثم أضاف:

ــ بالمناسبة، البيت السابق لأبي العلاء المعري رحمه الله .

صحت من قهري:

ــ المعرّي ليس حجّة، وقد كفره العلماء، فكيف تترحم عليه؟!

 قال لي جدّي باسما:

ــ لقد كفره علماء من أشباه القرضاوي والشعراوي .

ثم وهو يجذبني من أذني جذبا رفيقا :

ــ ثم هل تطمع يا لكع بن لكع، أن يمجد شاعر معارض قد نذر حياته لتعرية الحكام؟!

ـــ ...

ــ ألم يتمنّ المعريّ الموت لا لشيء إلاّ لأنه يعيش في ظل نظام ملكي سخيف؟ وذلك حين قال:

صـــــار الأمـــــير أبا مري

ثـــم أورثــــــــها مـــــريّا

دعا لي بالحياة أخو وداد

رويدك انك تــــدعو عليّا

فما كان البقاء لي اختيارا

لو أن الأمر مردود إليـّـــا

ـــ ....

قال جدي وهو يتأمل طائر حسّون حطّ على مزهرية فارغة كانت على حافة النافذة:

ـــ رحم الله المعري، فقد كان مكتئبا على الدّوام، لأن إسلامنا صار يسير على رأسه، فالحكّام الذين جعلهم الشرع الحنيف أجراء لدى الشعب، قد حوّلوا الأمة الي عبيد، كلّ ذلك بسبب الطاعة غير المشروطة التي فرضها ابن حنبل والشافعي وسواهما على تلك الشعوب المسترقة. فقال رحمه الله متذمرا:

ملّ المـــقام فــــكم أعاشــــر أمة

أمرت بغير صلاحها أمـــــراؤها

ظلموا الرعيّة وأستجازوا كيدها

و عدوا مصالحها وهم أجراؤها

ـــ ...

ــ كما شبه المعري العظيم حكام عصره بأنهم شر الناس، كما شبههم ايضا بالكواسر، لسطوهم على الأموال وعلى عينك يا تاجر، كما تسطو الكواسر على فرائسها في وضح النهار فقال:

أرى أمراء الناس يمسون شرّهم

إذا خطفوا خطف البزاة اللـوامع!

ـــ ....

ـــ ثم هل تطمع يا بني في غير تكفير مثقف ملتزم مثل المعرّي، وقد خوّن الفقهاء وجعل مصيرهم جهنم، ليس لسكوتهم عن الظلم فحسب، بل بتنويم الجماهير بمرويات نبوية تخالف دين الإسلام الذي أوعد مهادني الظلمة بنار جهنم؟

ـــ ...

ـــ ألم تقرأ يا لكع قوله تعالى ( ولا تركنوا الى الذين ظلموا فتمسكم النار).

ــ ....

ـــ ولأجل وقوف سواد الفقهاء الي جانب ملوك الجور قال رحمه الله:

ولا آمن على الفقهاء حبسا

إذا ما قــيـل للأمناء جوزوا

 ثم هو يتناول كتابا قريبا منه:

ـ

ــ دعنا الآن من المعري..

ــ ثم وهو يبحث عن صفحة أشّرها مسبقا:

ــ سأقرأ عليك ما كتبه بن كثير، وهو مؤرّخ ملكيّ الهوى.

ثم وهو يقرأ:

ــ " وقد كان جعفر البرمكي ــ وزير هارون ــ يدخل على الرشيد بغير إذن، حتى كان يدخل عليه وهو في الفراش مع محظياته... وكان عنده من أحظى العشراء على الشراب المسكر. فإن الرشيد كان يستعمل في أواخر ايام خلافته المسكر".

ـــ ...

ــ ثم اسمع ماذا كتب ابن كثير وهو يحدثنا عن الرشيد الذي أراد ذات سكر ملكي إرغام إحدى جواري قتيله جعفر على الغناء، فأبت إخلاصا لسيدها... كتب بن كثير يقول" فارتعد الحاضرون وأشفقوا على الجارية، وأقبلوا عليها يسألونها أن تغني لئلا تقتل نفسها( لعلمهم بدمويّة الرشيد الذي كان يا ولداه، يصلّى مائة ركعة في اليوم!) فتغنت الجارية بشعر فهم الرشيد أنها تتأسف فيه على فقد مولاها المغدور) فوثب الرشيد وأخذ العود من يدها وأخذ يضرب بها وجهها ورأسها حتى تكسّر، وأقبلت الدّماء وتطايرت الجواري من حولها، وحملت الجاريــة مــن بـين يديه، فماتت بعــد ثلاث"!

ـــ ....

ـــ ورغم دمويّة الرشيد وخلاعته المعلنة، فإنه لم يعدم فقيه سلطان سلفي كابن العماد الحنبلي ليكتب عنه مؤرخا:" وكان ـ الرشيد ـ كثير البكاء من خشية الله "!

 

حين لاحظ انكساري وخيبة أملي، خصوصا وقد كنت أردد أمامه ما حفظته من كون عصر الرشيد قد شهد نهضة علمية جعلت المؤرخين يطلقون عليه العصر الذهبي، قال لي جدي مشددا هجماته:

ــ اذا كان الوزير، وهو الرجل الثاني في الدولة، يعزل ويعذب ثم يقتل دون محاكمة في زمن الرشيد، فكيف تسمى عصره ذهبيا؟

ثم بلهجة مواسية:

ــ العصر الذهبي هو أولا وأخيرا هو عصر حقوق الإنسان.. هو عصر محمد والراشدين من خلفائه ومن تبعهم بعدل وشفقة على المسلمين الي يوم يقوم الناس لرب العالمين.

ثم وهو يجذبني إليه :

ــ والآن،أخبرني يا بنيّ، وبكل صدق... هل تستطيع مقاومة إغراء قرص بلاي ستيشن حديث قد حصلت عليه منذ دقائق؟!!، وهل تستطيع مقاومة إغراء شريط فيديو يروي أدق تفاصيل حياة رونالدو أو زين الدين زيدان أو أي لاعب مفضل لديك؟!!، وهل تستطيع هجران D.V.D يضم أحدث وأنجح أفلام جون كلود فندام؟!!!، وهل تستطيع ترك بيتزا شهية وشوكولاطة سويسريّة على الطاولة؟!!!... هل تستطيع صرف النظر عن كل تلك المغريات التي كدّست أمامك، لتنصرف عنها الي صلاة ركعة إضافية واحدة بعد صلاة الفريضة!؟

حين أطلت سكوتي، بفعل تأثري الشديد وإحباطي الأشدّ بما سمعت عن هارون الرشيد، دفعني جدّي حتى أوقعني على ظهري، جثم فوق صدري، أمسكني من معصميّ، قال لي وهو يرجّني بعنف:

ــ هيّا اخبرني يا لكع بن لكع.. هل تستطيع ذلك... قل لي هل تستطيع ذلك؟

قبل أن أجيب، قال لي جدّي وهو ينهض عنيّ:

ـــ والله لو صليت الفريضة مع وجود واحدة من تلك المغريات لكنت بطلا، فما بالك بتلك المغريات وهي مجتمعة!

 

لكم كان جدّي محقا، فكم من مئة مرة كذبت عليه حين أخبرته بأنني قد صليت في غرفتي، في حين كنت مشغولا بالتفرّج وللمرة السبعين على أقراص بلاي ستيشن قديمة؟( سأخبركم عن سرّ مخجل: ذات مرة إستغرقتني اللعبة بصفة جعلتني أؤجّل الذهاب الي دورة المياه دقيقة بعد دقيقة، حتى وجدت نفسي غارقا في بولي ... كنت وقتها في الثانية عشر من عمري!)

 

تنهد جدّي، كست سحنته علامة حزن دفين، أطرق طويلا ثم قال:

ــ أي بنيّ، إذا كان جبّار بني العباس يملك جيشا حقيقيا ومتعدّد الجنسيات من النساء الحسناوات والجواري الفاتنات، فكيف يستطيع صلاة مائة ركعة في حضورهن؟

ـــ ...

ـــ فلو سلمنا انه نجا من فتنة النساء وسحرهن، وهو الشاب الشهواني البطّال والمتخم أكلا وموسيقى، وان كان من الصعب التسليم بذلك، فكيف ينجو من تأثير الخمرة التي تجعل المرء يرى الديك حمارا وماما تيريزا بريجيت بردو؟

ـــ ...!!

ــ أي بني، لقد بدأ شاربك يظهر، لأجل هذا لا بأس بأن أخبرك...

ثم وهو يلتفت ذات اليمين وذات الشمال ليتاكد من خلو المكان:

ــــ سأخبرك رجلا لرجل كما يقال... بأنني لم أصلّ في شهر عسلي مع جدتك ركعة إضافية واحدة!

كنت أغطي وجهي حياء من جدّي، حين أضاف قائلا:

ــ هذا على الرغم من أن جدتك رحمها الله، وغفر الله لوالدتي، كانت ورغم استنجادها بالمساحيق... لا تختلف عن سعلاة حقيقيّة !

 

أوسلو 17/9/2009

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1404 السبت 15/05/2010)

 

في نصوص اليوم