نصوص أدبية

العيب

حين إلتقيتها أوّل مرّة كاد الخجل يسلبها قدرة التعامل مع الآخر، حتى ظننتُ إنها تعاني من نقص حاد في ثقتها بنفسها بحيث لم تقو على رفع عينيها أمامي لفرط حيائها .. وأنتهت بعد ثلاث لقاءات الى أن تصارحني بجرأة لا مثيل لها برغبتها بي كرجل وإنسان .. خاصة وإن ظروفها الشخصية محاطة بمخاطر جمّة أهمّها إن زوجها مسؤول في الحمايات الخاصة لرأس النظام .. ممّا أضطرني الى أن أطلب منها مغادرة الكاليري فوراً، ممّا جعل عينيها تبرقُ بوعد إنتقام قد تنفذه في قابل الأيام .. هكذا قرأت نظرتها وهي تهمُّ بالمغادرة  ذلك اليوم .

وحين رويتُ لنصير قصّة هذه المرأة الخطيرة، وأبنتُ له مخاوفي منها، جاءني ردّه مفاجأً .. إذ قال ..

ـــ مخاوفكَ أهون بكثير من مخاوفي ..

ـــ كيف؟!

ـــ لقد جاءني أحّدهم مساء أمس، وكان يضمرُ شرّاً، وطلب منّي بصيغة تهديد واضحة أن أقطع علاقتي بساهرة تماماً، ولمّا حاولتُ أن أنكر هذه العلاقة وأبرّأ نفسي من هذه التهمة قاطعني بحدّة وأعلمني بحقيقة وقعت كالصاعقة على رأسي وهي ان شقيق زوجها عضو في أعلى قيادة في الحزب الحاكم كما أخبرني بأنهم كانوا يتابعون لقاءاتنا منذ فترة وأكّد بأن تلك اللقاءات كانت مثيرة للشبهات، وحذّرني من النكران أو الأستمرار في هذه العلاقة والاّ ستكون عاقبتي وخيمة كما قال، وطلب مني أخيراً ان أستفيد من هذا التحذير وأن أعود الى رشدي .

وبصراحة أنا الآن محطّم ومهزوم وفي حيرة من أمري .. فلا أنا القادر على ترك ساهرة بعد أن ظهرت في حياتي كأنّها قدري الجديد المفعم بالحب والصبوات والذي لوّن معتمات أيامي .. ولا أنا القادر على تحمّل تبعات إستمرار علاقتي بها بعد أن جاءني هذا التهديد الجدّي وهذا الوعيد بالأقتصاص المخيف .. فكيف .. كيف أتدبّر ما ستؤول إليه أيامي المقبلة .. وكيف سأفاتحها بالأمر؟ .. لربّما ستتهمني بالجبن إذا ما لمست مخاوفي .. كيف سأخبرها بأن كل شيء إنتهى ونحن في أبهى حالات المبتدى؟ .. من أي وجرٍ خرج لي هذا الذئب البشري ذو العينين الفاقعتين والصوت المتعثّر بحرف الراء؟ ..

قطعتُ سلسلة تساؤلاته الحائرة ..

ـــ لماذا لا تأخذ إجازة لمدة إسبوعين أو أكثر دون أن تعلمها بذلك، وإذا ما سألت سنقول لها حصل له امر طاريء تطلّب سفره، وكذلك ستبرد حرارة هذا التهديد وستطمئن القلوب بأنك فعلاً أنهيت كل شيء .. وعند عودتك سنجد لها حلاًّ في وقتها.

ـــ وهل تتصوّر إنها ستقتنع بهذه البساطة بقضية السفرة المفاجئة، وانا الذي أخبرها يومياً عن كل تفاصيل حياتي حتى وصل الأمر أن أعلمها حتى بلون جوربيّ كل يوم ..

ـــ للضرورة أحكام يا اخي ..

ـــ دعني أفكّر بالأمر مليّاً قبل أن أقرّر ماذا سأفعل ..

ـــ انت حر ..

          ×          ×           ×

 

علم حسن بالذي جرى لكلينا أنا ونصير مع جنان وساهره، فكتب قصيدة أسماها (العيب)، وحين عاتبناه على ما لمسنا في قصيدته من سخرية لاذعة وتهكّم بموقف كلٌّ منا الذي إنطوي على إنهزامية واضحة وهروب أمام أوّل مواجهة قد تتسبب بأذى لأحّدنا كما فسّرها هو .. رفع صوته عالياً ..

ـــ أنتما فقدتما أجمل فرصتين للأنتقام من الفاشست وكلابهم المسعورة .. لقد أتت نسائهم إليكما على طبق من ذهب، وعرضن عفّتهنّ عليكما، فلماذا فرطتما بمثل هذه المنحة القدرية العظيمة، واختبأتما خلف مخاوفكما كسنجابين مذعورين بدلاً من أن تثأرا لألاف الضحايا ومئات النساء اللاتي أريقت دماء طهارتهنّ في الأقبية الموصدة فحملنّ العشرات منهنّ سفاحين لوّثوا أثدائهنّ وأحضانهنّ .. كان المفروض أن تستجيبا لدعوات شهواتهنّ وأن تريقا قذارتكما في أرحامهنّ وتسجّلا بذلك موقف أخلاقيٌّ تباركه كل الأعراف البشرية وحتى الشرائع السماوية ! .. لكنّكما مع الأسف الشديد جبنتما وضيعتما .....

وقبل ان يكمل عتابه وشتائمه .. صرخ به نصير ..

ـــ حسن ... أحتفظ أنت بشجاعتك وإقدامك ... قبل اسابيع رويتَ لنا قصّة تسلّقك النخلة الوحيدة في بيتكم كقردٍ لوّح له أحّدهم من بين سعفاتها بقشر  موز، لتختبأ بين أعذاق التمر خشية أن يراك أزلام الجيش الشعبي، فيتم سوقكَ في أحد قواطعهم ... هل نسيت ذلك؟  أم أن عنترياتك وفروسيتك الخاوية لا زلت تسيحها علينا فتلوّث أرداننا بها وتسلبنا حتى اللحظات الرائقة النادرة؟  كف عن هلوساتك وثرثراتك الفارغة .. أتريد منّا  أن نثأر من النظام وكل مؤسسّاته القمعية المخيفة، ومن جلاّديه فوق أسرّة حجرات خلوتهم الزوجية بعلمهم؟! .. أليس هذا الجنون بعينه؟ حتّى لو كان كلٌّ منا أبو زيد الهلالي أو الرجل السوبر .. هل تتصوّر أن نفكّر لحظة بالأقدام على إرتكاب مثل هذا الفعل؟ الذي لا يقدم عليه الاّ من به لوثة عقلية أو أصابه خبلٌ مفاجيء .

أحمرّت وجنتا حسن وبدا وكأنه مقبل على خوض حوارات منفعلة ...

ـــ ذلك ليس هروباً، بل شطارة وحسن تدبير للنجاة من شراكهم وإقحامي في معركة تافهة أنا لست مؤمنا بها .. لو كانت معركة وطنية حقيقية ضد إسرائيل مثلاً، لكنتُ اوّل المتطوعين، وعليكما ان تراجعا سجل الفدائيين الذي فتح للتطوّع في ملعب الكشّافة بعد نكسة حزيران 67  لوجدتما إسمي من بين العشرة أسماء الأولى، لكنّ هروبكما من دعوات مجّانية لمضاجعة نسوة فاتنات يمثّلن شرف النظام المصون ! وقلبه الأخلاقي النابض وعفّته المقدّسة .. هو الجبن بذاته ..

هنا لم أقو على السكوت والأنصات لدعوات حسن لأرتكاب المعاصي والآثام ..

ـــ حسن .. هل أنت جاد فيما تقول أم هي مزحة من مزحك الثقيلة؟  أم إنّك لا تنتمي الى هذا البلد أصلاً وكأنّك زائر من كوكب آخر لا تدري بما يجري هنا .. وكأنك لا تعلم أن ضحك المرأ في قاموس النظام جنحة، وإن أقل عقوبة في شريعته هي الأعدام .. أتريد منّا نحن الذين لا نمتلك سلاحاً سوى فرشاتنا وعصّارات ألواننا وكمٌّ هائل من مخاوف متوارثة عبر مئات السنين هي عمر العراق، أن نتجرّأ ونستبيح عفّة النظام الدموي المخيف؟ هل تريد منّا أن نذاب في أحواض السيانيد ونتبخّر كبقايا سيجارة تلفظ انفاسها الأخيرة .. أرجوك حسن إذا كنت جادّاً فيما تقول أن تراجع نفسك .. أنا واثق ستضحك حتى تنقلب على قفاك من شدّة الضحك !

وقبل أن يشرع حسن بالرد سمعنا صوت سعيد وهو يتهلل بالبشر على غير عادته كأنه إنساناً آخر، وقد همّ بالدخول ..

ـــ أيها الرفاق .. باركوا لي نجاتي من المحرقة .. لقد نقلت الى وحدة إدارية في بغداد .. سوف تروني كلّ يوم حتى أجعلكم تقرفوا من مرآي .. سوف أجعلكم تتثاقلوا حتى من ظلّي على الأرض .. أيها الرفاق .. لقد أصطفّ القدر والحظ الحسن لأوّل مرة معي .. وها أنا أمامكم الآن سالما معافى لم تستطع خمس سنوات من الجحيم أن تنال منّي .. خمس سنوات وأنا على السواتر الأمامية  لم تتمكّن ملايين الصواريخ والقذائف وشواجير الرصاص التي كانت تنهمر على رأسي كالمطر القاتل من أن تصيبني حتى بخدشٍ صغير .. ليس أمامكم سوى أن تنهالوا عليّ بالقبل يا أجمل المجانين !!

أنهى سعيد خطبته ونحنُ نستمع إليه وقد فتحنا افواهنا من غرابة المفاجأة بين مصدّقين ومكذبين .. ثم صحونا فجأة ونهضنا مسرعين إليه وقد طبع كلٌّ منا أكثر من قبلة على وجنتيه .. قال حسن وهو يحتضنه بشدة ..

ـــ أحقّا سعيد هذا الخبر؟ أفي مثل هذا الظرف العسير تنقل الى وحدة إدارية في بغداد؟ إخبرنا .. هل تحررّت الفاو ونحن لا ندري وقد كافأوك على صبرك وصمودك  أم ماذا؟

أخذ سعيد نفساً طويلاً بعد أن إسترخى على كرسي قريب من مكتب نصير وأبتسم ثم قال ..

ـــ ثقوا لست أدري حتى هذه الساعة من كان وراء نقلي ... تصوّرا من بين مئات الألوف من الجنود الذين ذابت سباباتهم على أزندة بنادقهم وهم يترقبون كلّ لحظة موعداً لهجوم، والذين أسملت عيونهم على احلام مطفئة يعد أن يأسوا من الحياة تماماً، يتم نقلي الى بغداد والحرب لازالت مستعرة وفي أوج حالات الصراع من اجل تحقيق مكسب على الأرض حتى ولو متر واحد .. أليس هذا ضربٌ من المستحيل؟

قدّمتُ سيجارة له، وسألته معاتباً ..

ـــ ولماذا انتظرت الى هذه الساعة التي قارب الدوام المسائي على نهايته لكي تأتينا وتبشّرنا بهذا الخبر السعيد .. لماذا لم تأتي مباشرة من سواترك الأمامية وأنت معفّرٌ بتراب أرضنا هناك كي نشمّ عطرها بثيابك؟

ـــ أردتُ أن أغتسل من رائحة البارود والعرق وأن أأتيكم إنساناً تفوح منه روائح الحياة وطلعها وأزاهيرها .. أي تراب هذا الذي تتحدّث عنه؟ ترابنا أم ترابهم .. لقد اختلطت الأرض حتى لم نعد نميّز أين نحن هل في أرضنا أم في عمقهم؟

ولكي أجعل تلك الليلة ليست كباقي الليالي إحتفاءاً بالعزيز سعيد، دعوتهم كي نقضي أمسيتنا في بيتي بعد ان أغلقت كل البارات بأوامر من رأس النظام بحجة الحملة الأيمانية التي أراد بها شفاعة الله من ذنوب لم تعد دفّتيه قادرة على حمل ثقلها وفضاعة مآسيها وصورها المرعبة .. تركنا الكاليري سابحاً في ظلمته وبقيت عيون الناس الموزعين على اللوحات المعلّقة  على جدران القاعة مفتوحة على سعاتها كي تشبع من عتمة المكان، فغدا سيضمُّ الجميع أبداً سديمي الظلام .

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1407 الثلاثاء 18/05/2010)

 

 

في نصوص اليوم