نصوص أدبية

زاد المسافر

كانت لديه رؤية خاصة بذلك. تكاد تكون حالة اشتياق لأن يفتح الحقيبة (السوت كايس) . ثم يبدأ بترتيب الثياب الخفيفة في الخزانة، أولا حسب النوع، ثم حسب اللون.  طقس خاص . يؤديه بورع وتبتل. بشيء غير قليل من الخشوع والانتظام.

و مع أنه لا  يعرف اسم هذه المدينة، فهي عبارة عن محطة للتوقف، اغتنم فرصة تباطؤ قطار العمر عندها، وهبط منه، نحن أحيانا نقفز من قطار العمر دون أن نخطط لذلك.

اقترب من عتبات الفندق الأبيض . ربما هذا ليس هو اسمه. ولكن كل إطاره أبيض. وأخذ من غرفة الاستقبال نظرة عامة. كانت تخلو من الموظفين. ولكن بمقدوره أن يلاحظ أجهزة كومبيوتر وكاميرات وأدوات للكلام الأتوماتيكي. ابتسم لهذه الخاطرة. هي تعريب طويل للإنترفون. وانتبه كيف أنه لم يتخلص من الشوائب الرومنسية، حتى بعد دخول الألفية الجديدة. برأيه كان يحارب إيقاع العصر السريع والمختزل بمثل هذا الإطناب، البلاغة طريقة مشروعة نقهر بها الموت.

** 

تابع طريقه. تحدوه نفس الرؤية، غرفة تشعر فيها أنك مع ذاتك، وبإمكانك أن تعبر عن عواطفك الجوهرية، لتعوض بها عن الألم القديم المجهول.

غالبا ما تستوقفه هذه العبارة. ما معنى الألم في هذه العصور الحيادية الجوفاء. في حياة تتخلى عن أـبنائها بكل سهولة. نظرة واحدة إلى ألبوم الصور الذي يحمله أينما ذهب، يؤكد له كم هي الحياة عبثية.. وكيف أنها فوضى غير مضمونة العواقب. فالوجوه القديمة ، والتي يعرفها جيدا، تهبط من القطار وتتوارى ولا  حاجة به لتوضيح معنى العبارة الأخيرة الغامضة.

** 

مرة أخرى تمهل لدى اقترابه من الفندق الرمادي. ولعل ليس هذا هو اسمه أيضا. كان في الفندق ما يتسبب له بالحيرة. فهو غير واضح تماما. لا يسلم مقاليد ذاته من النظرة الأولى. ولذلك يصعب عليك أن تقع في حبه مباشرة. وهو يدعوك دائما لمزيد من التفكير في الاحتمالات. ترى هل غرفه مجهزة بالمرافق . المقصود طقم الاستحمام والمرايا التي تعكس الصور كما هي. ولا سيما الستارة التي تعزل حوض الاستحمام عن جرن غسل اليدين والتي تمنع البخار من تغطية صفحة المرآة . هو يحب أن ينظر في زجاج المرآة، ليرى وجهه الميت والغابر، والذي تلاشت منه الانطباعات.

** 

شعر بالإرهاق في طريقه. فهو يحمل غير الحقيبة السنوات المنصرمة من عمره . إنها تتكاتف ضده. وتحول بقايا المسافة لتحقيق الرؤيا إلى بذرة من الذنوب أو الأخطاء. أصلا الهدف من رحلته هذه أن يهرب من صوت ذنوبه. كان خافتا في البداية ولكن عقيرته الآن مسموعة. وعما قريب سيتحول مع كل خطوة أخرى إلى نميمة.

تصادف مروره بالقرب من ضفة نهر غير موجود على الخريطة، فتوقف. ورمى بنظراته إلى الضفة الأخرى.. بعيدة ومجهولة ويكتسحها الضباب الذي يصعد من صفحة هذا النهر . فتنهد من قلب مكلوم. لماذا لا نقول كسير. وهو يفكر بأفضل طريقة للعبور.

ربما يجد خلف الطرف المعاكس زاد المسافرين . فندق يحقق له رؤياه.

 

أيلول  2009 

 

من مجموعة قيد الإعداد بعنوان (بيت فرويد)

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1407 الثلاثاء 18/05/2010)

 

في نصوص اليوم