نصوص أدبية

مـدارج العـودة (1)

وبدأت صور المكان ووجوهه تطل أمام عيني من الشوارع التي تتفرع عن المدينة والتي أغادرها مع الساعات الأولى لليوم الجديد  ... 

 

حين جبت هذه الشوارع  عادت إلى ذاكرتي مقولة المؤرخين الذين رأوا أن تاريخ  القصرالشامخ في المدينة خلاصة تاريخ اسكتلندا . وهو عبارة على كرسي مرتفع شيد فوق ربوة يمكن ملوك اسكتلندا من مشاهدة المدينة . وحين تجولت في "شارع الأمراء" الذي يعد قبلة للسياح في العالم والذي يتميز بحيوية تجارية شدني طابعه المعماري القديم وحدائقه المتعددة إذ تجتمع في هذا الشارع ملامح التاريخ الملتصق بالماضي، المنفتح على إطار طبيعي، وقد سار مرتادوه  في اتجاه وجهة معينة تنفض عنهم غبار الاختناق وتمدهم باكسير الحياة ...

 

أغادر الشارع الرئيسي على ايقاع المزود الاسكتلندي الذي بقي صداه يتردد في ذلك اليوم الاحتفالي ، الايقاع هو ما تبقى من  صدى لهذه المدينة الكبيرة التي تولي اهتماما إلى كل المظاهر الاحتفالية سواء كانت دينية أو تجارية أو فلاحية أو فنية أو على هامش الأيام التي تخصص للأماكن ...  يوم الاحتفال  لم تمنع  الأمطار الغزيرة الصغار صحبة عائلاتهم من الالتفاف بالشارع الرئيسي الذي مرت منه مئات السيارات والشاحنات الزاخرة بشبان وأطفال يرتدون أزياء تقليدية وأخرى رسمية، يرمون أكياس الحلوى والشكولاطة للأطفال، كما عبرت جوقات موسيقية وفرق راقصة، تؤدي عروضا استعراضية، يتجلى عبرها التراث الفني الاسكتلندي .

 

 الطائرة المقلعة من المدينة نحو لندن تحلق على علو منخفض مما جعل البناءات تتراءى كأشكال هندسية مصغرة لملامح المدن ... أودع المدينة لكن صورها تتشكل في ذهني من جديد، ما أثارني - حقا - أن أصافح المجتمع الاسكتلندي الموغل في الفرادة، المتجذر في أعماق الماضي، والمنفتح على متطلبات الحياة المعاصرة ... أصافحه وقد تركت ذاتي هناك، مع هؤلاء الأشخاص المتسمين بحب الاطلاع والرغبة في الحديث حيث يتحولون إلى كتاب مفتوح عند حديثهم عن أنفسهم وابتداع كل المفاتيح التي تحل رموز الآخرين، ولعل ذلك ما جعل من المصافحة الحميمية تحتفظ بحرارتها  لتجعل كل إنسان خارطة ناطقة بالفعل ...

 

باغتني وجه تلك الجارة المعلمة التي اعترضتني في الطريق، أوقفت سيارتها ودعتني إلى الصعود لتوصلني  . بدت متوددة وهي تتمنى لي إقامة طيبة، أما زوجها الذي كنت أهاب نظراته الباردة والتي كنت أقرأ فيها ميولا سادية فقد بدا يبتسم بتودد فبدد مخاوفي وقد انبسطت على وجهه ابتسامة عريضة .. وتساءلت بيني وبين نفسي هل في الأمر جانب كوميدي أم المعنى يوحي بالبلاهة ؟ ... السيد تومي أيضا أستاذي في حصة التصوير الفوتغرافي  لم يتوان عن التشاور مع زوجته لايصالي للمنزل حين وجدته ينتظرها في محطة الحافلات حيث كانت سيارته معطبة . بدت ملامحها مريحة وهي تتحدث عن جمال بلادي وروعة بحارها ودفئها .... سألتني عن رأيي في اسكتلندا، قلت إن أهلها طيبون، متوددون، ومهذبون ... فأول السمات التي يستشها الأجنبي لدى هؤلاء هي الوداعة والهدوء والجدية والعمل ...

 

 عادت إلي ذهني ملامح تلك الوجوه السباقة في إلقاء التحية وقد ارتسمت عليها بشائر المودة كسائر الأسكتلنديين الذين لا يشعرونك بالغربة حين يبعثون فيك حميمية عائلية من الصعب اكتشافها لدى أي شعب آخر ... لكن ما سر ذلك القلق الذي يتراءى رماديا في لون السماء، لم تخمشني تلك الأنات وتمزق صرخة الروح سكينتي ؟ .. ذلك ما كتبته على أوراقي وسلمته إلى الأستاذ ايفان  ليخبرني أن ما كتبته عميقا، لكنه لم يحلل تلك الوحشة التي تسري بين ضلوعي، بل سألني عن كيفية نطق الحروف بالعربية، بدأت بحرف القاف، فلم يتمكن من نطقه، وحاول بعض الطلبة القادمين من أوروبا وآسيا ترديده دون جدوى .. تتسارع القاف على لساني، وقد كنت على قلق . حاولت استبدال الحرف بآخر وهو ع، فرددوا : ه، ها، ها، انطلقت ضحكاتهم ساخرين من أنفسهم ومن عدم قدرتهم على نطق هذه الحروف .. على السبورة وأنا أرسم الحروف بالعربية، تمكن ايفان من ترديد كلمة الطباشير بالعربية مع تضخيم نطق حروفها، وقال إن له رغبة في تعلم اللغة العربية لكنه وقع في فخاخ النطق  مما جعله يرى نفسه في صورة الضحية  وقد انطبق الفخ على لسانه ... في الأثناء بدت الضحكات الساخرة جرعات للسخرية السوداء حين تتحول الضحكة إلى استعارة لليأس وغياب المعنى .. وحين تبتلع صديقتي الفلسطينية مرارة الحرقة إزاء الحرب التي شنها الطيران الاسرائيلي على غزة ... كانت تضحك وتبكي حين تحولت الضحكة إلى ضحية يمعن الجلاد في التنكيل بها ..

 

في مطار "جاتويك" تخترق الخطوات المتسارعة مخيلتي، تمنحني متعة الاكتشاف وأنا التقط المعاني الهاربة .. وبدأ الطريق من نهاية السلم، وكان من الصعب أن أتساءل عن بداية الطريق .. ولم ينبر لي إلا في نهاية سلم الطائرة المقلعة من المطار . تقرع ساعة الرحيل أبواب نفسي، تزحف علي الفوضى وتنتشلني من لحظة التركيز، تحاصرني متاهات الفوضى، أسئلة الرحيل، حتمية الموت المؤجل . المضيف يشرح للركاب كيفة التصرف في حالة تعرض الطائرة إلى حادث، ولا أحد يستمع إلى ما يقول، بعض الركاب نكسوا وجوههم في صفحات كتاب أو جريدة أو مجلة، والبعض أداروا وجوههم للنوافذ البلورية، والبعض ينظرون إلى حركات المضيف دون أن يقووا على ابتلاع معنى الخوف . يبدو أن تفاصيل محاولة النجاة تربكنا كركاب، تحبس وعينا على مقاعدنا حيث يشد الواحد منا إلى الحزام بهشاشة إلى مكان وجوده المادي الذي يستمر إلى حين نهاية الرحلة  .. تكتظ ذاكرتي بالتفاصيل، تختزل الومضات الخاطفة، وتتسع وتتدفق وتستحيل إلى عوالم زاخرة بالحركة ..... تقلع الطائرة، تترنح ذاكرتي لتتصور في صورة هؤلاء الاسكتلنديين المقبلين على شرب الخمور وخاصة الويسكي الذي تنتجه مصانع اسكتلندا، لكنهم يحتفظون بهدوئهم وإن تمايلوا وترنحوا في مشيتهم آخر الأسبوع كلما عادوا ثملين من الحانات ... أما هؤلاء الفلسطينيين فلم يعرفوا معنى الثمالة أبدا، الحذر، اليقظة، الهرب من الموت الذي يلاحقهم في عيني كل جندي حاقد ... هؤلاء يعيشون الموت في كل لحظة وكل ثانية وفي كل رمشة عين لا تنام ...

 

الدقائق تتسع وتمتد على فاصل زمني يتسع لثلاث ساعات، ساعات يودع فيها الركاب علاقتهم بالأرض، بالأشياء الحسية .. هذه الطائرة ككل طائرة معرضة للسقوط في أي وقت، تسرب إلينا ناقوس الخطر بأننا قد نفقد علاقتنا الحسية بالأشياء  . أعود إلى مرافئ العوالم الداخلية، والنظر إلى الركاب كأطياف قد يستحيلون إلى ظلال في أي لحظة .. تحلق الطائرة ، أرتفع على تلك الأمكنة المعلبة التي تحركت بين أشكالها، ويباغتني شعور مختلف، لا أدري إن كان يخفف عني هاجس الخوف، أم يفتح صوره المتدفقة، لتربط ذاكرتي تلك الصور البهيجة التي عايشتها في فضاءات اسكتلندا وكأنني أشد إلى أمكنة شدتني وجذبتني إلى بسط الجمال وإلى ربوع الومضات الورائية المحتفلة بمشاهدها الفسيفسائية حيث يمتزج الجمال الطبيعي بالهندسة المعمارية الكلاسيكية، والعصرية أحيانا، تضفي على الجمال الطبيعي مسحة ثقافية تعيد تشكيله وإعطائه بعده الفني فيعدو أكثر جاذبية، فلا تنفك الكاميرا على تسجيل مدى مهارة الإنسان هناك والتي نحتت الجمال بروح جمالية كامنة لديه ، ولكن وراء هذا الجمال دخان كثيف غزا سماء فلسطين وقنابل فسفورية حارقة  تبدو للاسرائليين بديعة المنظر وهي تتساقط كبانوراما من الأضواء، ككتلة من الضوء التي تخترق البحر وتغوص في أعماقه ... الصورة التي بدت جميلة لهم  بدت حارقة ومميتة  لغيرهم، فقد قتلت تلك القنابل الفسفورية الأطفال والشيوخ والنساء، وبترت الأعضاء وهدت المنازل فوق رؤوس أصحابها ... اختفت عن ذاكرتي صور الأطفال الذين يلتقطون الحلوى والشكولاطة إلى أطفال يغير الطيران الحربي على مدارسهم  ... و حل محل المزود الاسكتلندي صراخ الثكالى والأيتام في فلسطين ......

 

في الطريق المؤدية للشمال عبر مئات الكيلومترات، لا تنقل العين إلا لوحات خضراء مختلفة الدرجات، يتنفي داخلها النمو العبثي للنباتات والأشجار فالآلة تتدخل لتحافظ على جمال المشهد الطبيعي بمنتهى " الحرفية " التي تنقط حروف " الخلق الفني " . والآلة لا تكتفي بتشذيب النباتات  وانما تستجيب إلى رؤية فنية . وأمام هذه اللوحات الطبيعية التي رسمها الانسان بالأشجار والنباتات والأخشاب، تبدو حاجة السكان هناك أكيدة لمعايشة ذواتهم .

 

 

فما إن ترسل الشمس أشعتها الدافئة - ويحصل ذلك في أحيان قليلة - حتى يلوذ الكثير بالحدائق والغابات عبر سياراتهم أو دراجاتهم، وترى البعض يسيرون مسافات طويلة أو يتسلقون الروابي والهضاب : عجوز وزوجها يسيران ببطء، شبان وشابات  يمارسون رياضة العدو، كهل اختار مشاهدة بعض البناءات الأثرية التي شيدت على الروابي من مقعد على ضفاف بحيرة، أطفال صغار رفقة آبائهم، شخص يطالع كتابا قد ينسجم موضوعه مع إطار تأملي جمالي ... أما من اختار البقاء بالمنزل، سيعود حتما إلى آلته الكهربائية لتشذيب أعشاب حديقة المنزل أو الأحواض التي تحيط به  وسقي الورود أمام الباب الخارجي والتي لا يتوان أحد على قطفها، رغم أن الاسكتلنديين مولعون بإهداء باقات الورود عند زياراتهم سواء تمت بمناسبة معينة أو غيرها ... وذلك ما حدا بي إلى التخمين بأن الثقافة لدى هؤلاء حاضرة بالفعل لدى قدرتها الفائقة على تشكيل الطبيعة البكر، فتحولها من المادة الخام إلى قطع فنية نابضة بالمعنى، ولها قدرتها على تشكيل سلوك الأفراد ليحافظوا على علاقاتهم الدائمة بالجمال ..فيبدو الجمال كإطار موشى بمعالم التاريخ، فعل فيه الانسان وأعطاه من العمق ما جعله مجسدا أمام العين المجردة والروح الخفاقة مما أكد لي أن الإنسان هناك كائن ثقافي، تاريخي وجمالي . ولكن الطريق إلى فلسطين يكاد يكون عصيا هذه الأيام، حتى اللأطباء فيعسر دخولهم، والمساعدات الإنسانية لا تصل للضحايا، والبوابة أغلقت بإحكام في وجه الداخل والخارج ...

 

ارتجت الطائرة بعنف فارتج شريط الصور، وبدت على وجوه الركاب علامات الشحوب، ارتجت الطائرة ثانية فغاص قلبي في ذلك البحر العميق الذي تمر الطائرة فوقه . المضيفة تخبرالركاب بأن الطائرة تواجه عاصفة ضارية، وعليهم أن يسلكوا سبل النجاة التي شرحها المضيف قبل الإقلاع، زاغت الأبصار وهي تتفحص الأطياف العزرائيلية التي باتت تهدد الجميع، ترتج الطائرة وتغيب صور الذاكرة، ما الفائدة من استرجاع تلك الصور حين يزول الوجود المادي، ويتجسد الموت كلوحة سريالية ؟ .   لم يبق لي غير قراءة القرآن والقيام بواجب الشهادة والرضى بالميتة التي قدرها الله لي . فهل أكون  شهيدة كالفلسطنيين الذين يباغتهم الموت فجأة .........

 

أرى صورة الموت تلاحقني، مخلوقات طويلة، نحيلة، صفراء، طويلة الشعر، تحملني إلى عالم ما وراء الجدار وتحاصرني هواجس الكوابيس . هل أنا حية أو ميتة ؟ نائمة أم مستيقظة ؟ حائرة أم مطمئتة ؟ إن ايقاعات نفسي لا تهدأ .. والأمواج الصاخبة ما فتئت تقرع أذني وتقذف جسدي . الأسى يمزقني، يفتتني لكني أرفض الانسحاق وأناهض كل مقهور بكى من الوجع ولم يصرخ في وجهه . ما أقبحه موت متغطرس كالبحر الثائر . متجهم حين تتعالى أمواجه فيزداد صخبا، وأجدني أجدف يمنة ويسرة لأقاوم معنى ممتدا، كبيرا دون بداية أو نهاية . هو الخط، هو اللامحدود، هو أن أكون دون حدود أو قيود أو أساس .   ما أقسى لحظات مظلمة تحولت إلى مارد يعيش على حطام نفس عربية ليزعزع يقينها . استحالت الروح المتشبثة بالجسد إلى شريط طويل التحم بعيني والتصق بهما، فدبت الحركة بعيني وصارت تجذب الشريط الروحي فتتفصد الحركة في الجسد وتهرب الكائنات العزرائيلية الصفراء بعيدا ..

 

 لكزني أحدهم  بمرفقه، صرخت وقد شعرت بالطائرة تتدحرج، .تراءى لي وجه المسافر الذي يجلس بجانبي وقال بلغة أنجليزية : أفيقي، لقد وصلنا إلى بلدك . فتحت لي كلماته بابا جديدا ألج عبره أرضية ثابتة، زالت كل الصور وأنا أغادر مطار قرطاج نحو المنزل الأول . كان هذا الحلم مرايا الموت المهزوم ... لقد توقف الطيران الاسرائيلي عن القصف بعدما رسم لوحته العبثية ........

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1411 السبت 22/05/2010)

 

في نصوص اليوم