نصوص أدبية

حكايات ليست من زمن الزعيم

اللعبة وتكتسب مهارات اضافية تؤهلك التفوق على الطريدة . التردد في اللحظة الحاسمة هو ضياع الفرصة والتي ربما لا تعوض ثانية، واحيانا ينقلب السحر على الساحر !!!

عند باب احد البنوك الدسمة، يقف كهل انيق يراقب من زاوية بعيدة مرتادي البنك، يمتلك من الفراسة ما يؤهله من تخمين ثراء الطريدة ونسبة الشحم بين احشائها، ولا يستغرق ذلك سوى لحظات، حتى تكون خطة الهجوم قد اختمرت في ذهنه وغالبا ما تكون خاطفة وناجحة . ذات انقضاض مباغت على احد الطرائد توقف الكهل عن التسديد في اللحظة الحاسمة وأستعاض عن خطف الحقيبة بقبلة ساخنة على جبين الرجل العجوز والذي اخذ يمسح نظارته بمنديل ورقي بغية التعرف على صاحب القبلة ومبادلته الحفاوة والترحيب . قال الكهل: اظنك لم تعرفني يا استاذ، قال العجوز باستغراب وهو يتأبط حقيبته بحذر: لا والله يا عمي !!، قال الكهل: انت رشيد مدرس الرياضيات، وانا سعد الحمار كما كنت تنعتني، ابتسم العجوز ثم قال: الحمار .... الحمار .... ولكني اعرف الكثير من الحمير، آه .... آه ... نعم سلوم الحمار .... لم غيرت اسمك الى سعد، الم تكن سلوم الحمار ؟؟، قال الكهل: بلى، يا استاذ للضرورة احكام، ولكن هل لك ان تخبرني عن السبب الذي دفعك الى تسميتي بالحمار؟؟، رد العجوز وهو يهم بالاستناد على احد الكتل الكونكريتية، اسمع يا رجل انا بألكاد تعرفت عليك فكيف لي ان اعرف لم كنت حمار !!! . ولكن اسمع .... تذكرت .... تذكرت .... نعم، انت سلوم الذي كان يجمع النقود من الطلبة الفقراء ويضعها في صندوق خط عليه بحروف بارزة (ادفع فلسا تقتل صهيونيا) ..... هه ...هه ... هه ... هاه !!!، هل ما زلت يا سلوم الحمار حمارا ؟؟؟،سلوم هل تعرف اين ذهبت المبالغ المدفوعة ؟؟، سلوم انت لص والمدير لص والفراش لص، ساقاضيكم جميعا، اعلم يا سلوم لم يمت ولا صهيونيا واحدا، ولو كان المليون دينار يقتل صهيونيا وليس الفلس، لانقرض بني صهيون عن بكرة ابيهم، نحن الذين نموت كل لحظة بالمجان وليس الصهاينة، انت لص قديم ولص الساعة، ولا تعرفون غير مهنة اللصوصية، سابلغ عنك الانتربول، ودائرة البلدية، ودائرة الانواء الجوية، ووزارات الحمير....................... !!!

تعالى صوت العجوز على سلوم الحمار، والذي اطلق رجليه للريح بعد ان شاهد شرطيا يقترب منهما، خوفا من ان يطالبه بحصته من صيد ثمين مفترض .

  

-  التشويه هو التغيير نحو الاسوء، هواستبدال الشكل او الصيغة الجميلة المتعارف عليها بأخرى تختلف عن صيغة الخلق الاولية المتكاملة، وغالبا ما تكون ذات مواصفات مثالية وجمالية مقنعة . والعبث بالحياة وبجمالياتها هو جوهرالتشويه وذروته، ويبدأ عند الإنسان في مراحل مبكرة من الطفولة، ويتصف بمحدودية الاشياء المعبوث بها او ضحايا هذه النزعة نتيجة الحذر والمراقبة . وبتقدم العمر، تضمحل النزعة العبثية التدميرية، وتحل محلها نزعت الخلق والبناء، دون التحرر كليا من تلك النزعة وبدرجات متفاوتة (النفس امارة بالسوء)، والسوء هو التشويه بانواعه، هو التزوير، والكذب، والاغتصاب، والسرقة، والحروب .......... !!! . وفي غياب الرادع، تتسع دائرة النزعة التشويهيه عند آخرين ولن تتوقف، بل تتطور بصيغة عدوانية مرعبة منتجة فشلا شخصيا أولا، يقود إلى آخر جماعي هو الموت بعينه او ما يشبهه .

في احد مصانع تطوير الصواريخ، توقف احد الفنيين طويلا عند مجموعة من الصواريخ المطورة والتي من المأمل ان تزهق اعداد كبيرة من الارواح، تدمر اعدادا هائلة من البيوت وتجرف البساتين . توقف وهو يحاورها متخوفا ومندهشا من امكانياتها التدميرية المطورة، والتي ستسهم في اضافة تشويهات جديدة للحياة لم تكن تنقصنا نحن المساكين المشوهين اصلا .

قال لصاحبه: نحن نصنع وسائل الموت والتشويه وندخرها في مخازن لاشخاص يزرعون الحقول الان، أوهم في بيوتهم او مدارسهم او لنائمين مع زوجاتهم يحلمون بطفل جميل، او لحبيب ينتظر من حبيبته رسالة تبعث في روحه نسغ جديد للحياة، هي لرجال يكرهون الحرب، يحلمون بقسط طفيف من بمبالغها الخيالية لشراء أحذية لأطفالهم الأبرياء الحفاة .

 وقبل أن يكتمل تقريره الفني عن السلاح المطور، اكتمل تقرير صاحبه بسرعة تفوق سرعة الصاروخ المختبر، وبطاقة تدميرية هائلة .

 

-     الانهيار هو السقوط  وعدم التماسك، تتوارى الصورة السابقة وتبرز اخرى مغايرة غير مألوفة، كأن تكون ركام او فوضى .... او جنون !!! . وعدم التماسك او الهشاشة هو محصلة لأخطاء مختلفة، البعض منها ظاهرة للعيان والاخرى تبحث عن تفسير . فالمعالم التاريخية المتبقية للحضارات المختلفة هي شواهد ودليل على القوة والسقوط، نعرف نحن الوارثون لها  بعضا من مبرراتها، والاخرى غابت عنا، او هي خاضعة للأجتهاد لحد الساعة .

التوثيق التاريخي وخاصة النزيه منه ساعد على فك الكثير من الرموز المبهمة لنشوء وانهيار الحضارات، منه المدون على الجدران بهيئة رسومات او رموز او غيرها ... وكم كانت تلك التوثيقات متعبة وتتطلب زمن ليس بالقصير لانجازها وحتى التي كتب منها على القرطاس، تطلبت جهود ليست بالهينة ربما اخذت سنين طويلة .

في العصر الحديث، وخاصة في زمن انبثاق الثورة المعلوماتية الحديثة من تكنولوجيا المعلومات ومن حواسيب وفضائيات وشبكات الانترنيت ووسائل الاتصال السريعة الاخرى، اصبح من اليسير الحصول على المعلومة المطلوبة بمجرد الضغط على زر لا أكثر، تحصل من خلال تلك الكبسة على ما تروم دون عناء يذكر، ويمكن توثيق الاخر منها بالصورة والصوت (الفيديو تيب، اليو تيوب) . وهذا ما مكن المختصين من توثيق الصورة والمعلومة والخبر والرأي في ابعد نقطة على كرتنا  الارضية بسهولة، بل امتد الى كواكب اخرى !!! .

في مطلع عام 2003 ولغرض الاستفادة من التكنولوجيا الحديثة في التوثيق، اشتريت جهاز ’فيديو تيب’ حديث ليكون رفيق لي في محنتي ومعين في توثيق ما سيدور من احداث مقبلة ساخنة، بل ملتهبة، ستعصف بالعراق والمنطقة والعالم اجمع . تم تسجيل ما يقارب من   ( 350 ) ساعة من احداث مرعبة، شملت التحضيرات لاحتلال العراق وما رافقته من تصريحات ومواقف وتحليلات وتوقعات وصور.... !!! . والمضحك المبكي هو ان ما نسبته 80% منها كان زائف ( بزنس) لا يزال يدر ارباحا خيالية على اصحابها !!!  ومن قنوات فضائية مختلفة، وكم توثيقي لا بأس به اثناء دخول قوات التحالف وما رافقها من احداث مأساوية  .

موت ... أنقاض ... فوضى ... جنون ... ذاك هو السقوط  !!! . لا غرابة في كل ما يخلفه الاعصار من دمار . ولكن، وانا اراجع عرض حوادث الكارثة ’لغاية في نفس يعقوب’، والتركيز على ادق التفاصيل وبالسرعة البطيئة للمشهد المأساوي ومقارنتها بحاضر لا تختلف صورته عن واحدة من مشاهد الامس وربما اكثر أثارة وحزن وجنون . أستوقفني مشهد لإمرأة تهرب بأطفالها وهي مذعورة على طريق صحراوي في محافظة البصرة، توقفت طويلا عند ذاك المشهد وانا ادون بالصورة فقط الأنهيار المروع لاخطر الوحدات التركيبية للمجتمع وياليتني اعرف ما يدور في خلدها. هل سينصف التأريخ المرأة المذعورة، حين يدونه المدونون وينصف الجموع الهاربة خلفها في مشهد تدمى له القلوب وهم يعيشون في عصر التوثيق الالكتروني الدقيق، أم أن الحاكم بأمر الله سيصدر فرمان يعيد فيه كتابة التأريخ، ويلبِس المزورون المرأة المرعوبة وقومها أزياء الهنود الحمر بواسطة ’الفوتو شوب’........، ويكُذبون كل ما حدث !!! .

البناء هو نقيض للهدم، والتماسك هو ضد الانهيار ...... لم أسجل في ارشيفي التوثيقي ساعة زمنية واحدة تبرهن على أعادة البناء والتماسك، وهذا امر مؤسف . لا زالت المرأة راكضة، هاربة بأطفالها، ومشاهد الحرائق من خلفها، لم تكن صورتها من الماضي المؤلم حتى نقبره، بل هي مشهد مرعب من كرنفال الكوابيس المستمر .

سأحرق ال (350) ساعة من زمن الحريق .... فألسنة النيران آتية ....... على كل الازمان !!!!!! .  

 

مهدي الشمسي

22- 5 - 2010          

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1412 الاحد 23/05/2010)

 

 

 

في نصوص اليوم