نصوص أدبية

مدارج العودة (2)

وقال إنني ولا شك مشتاقة لرائحة البلاد بعد الغربة، فقلت ان لا شيء يضاهي أوتار الحنين التي تشدني إلى تونس، رغم أنني تركت عائلتي في الواجهة الأخرى، وراء البحر.. وبقيت أحدق في مشاهد الطريق وهي تركض في مخيلتي، ألاحق بعضها بذاكرتي، وأكتشف البعض الآخر برؤيتي المكتشفة .... ولكن تركيزي على الشريط الذي سأنجزه حول حياة البسطاء، ما جعلني أطلب من سائق التاكسي أن يمر في طريقة الى الضاحية من إحدى الأحزمة الخلفية للعاصمة ... فاستفهم عن حب اطلاع عن السبب، فلم أجد عبارة أجيبه بها غير الصمت....

 

الأنهج ضيقة، والمباني متلاصقة. المباني في ذلك الحي لا تشبه بعضها إلا من حيث الضيق، وكل شخص يصمم منزله على هواه. على جانب الطريق دكان صغيرلاسكافي عجوز يدق المسامير على حذاء قديم وأمامه طاولة متآكلة شاحبة يكاد السوس ينخرها وقربه علبة اللصق والقالب وصندوق المسامير. وعلى الجانب الاخر دكان لبيع الخبز الملاوي الذي تعده تلك المرأة التي تغطي جسدها طبقات من الشحم وهي تخبز العجين بأصابعها الغليظة ثم تكوره وتمدده وترميه في الطبق، يلتهم أحدهم الخبزة ساخنة غير مبال بالصبية الراكضين وراء الميترو يقذفون شبابيكه البلورية بالحجارة. ابتعدت سيارة الأجرة عن المكان وقال السائق إنه لا يستطيع الدخول في هذا الحي، وانحرف ليسلك الطريق الرئيسية للضاحية..... وشعرت بدوري أنني أبحث عن مكان أكثر بساطة وأمنا وانفتاحا..... لتصوير الشريط، فأخبرني السائق أن الطريق الى الشمال الغربي سينفذ بي الى مكان طبيعي وبسيط... وأنه بامكانه مساعدتي... سلمني رقم هاتفه، فرحبت بتعاونه...

 

 وصلت إلى مدينتي، فبقيت أتأمل المنازل التي أحاطت بها الحدائق الواسعة، وانبعثت منها روائح الزهر.. فالحي لا يخلو من تلك المنازل ذات الأسقف القرميدية التي اشتراها سكانها بثمن بخس إثر الاستقلال والتي تشبث بها بعض سكانها الفرنسيين والايطاليين الذين طاب لهم العيش في تونس وأبوا الرحيل عنها.. والمنازل الكبيرة الحديثة البناء التي تحيط بها الحدائق... انعكست الشمس على القرميد الأحمر فازداد توهجا، وانبعث من شكله الهرمي بريق ذي لون حار....

 

 أمام باب منزل عائلتي أشرقت الشمس مضمخة بالدفء والحنين في مخيلتي. في الحديقة اكتسحني المعنى. وتذكرت مشاهد الطفولة...أن يكون المنزل على هضبة مرتفعة وتمتد أمامه ربى الاخضرار وقد نبتت عليها الحشائش ذات الزهرات الملونة والنوار المزركش، وتنبري الحديقة الكبيرة التي تتفتح فيها الورود، وتبني العصافير أوكارها على سقف الأشجار، تفرش أجنحتها وهي تطرب السامع بشدوها.. أرى عبرها اتساع الحلم في تحليقها في أجواء الحديقة، وأستشعر أنني فقدت صوتي وأنا أستمع إلى عزفها الأشبه بالسمفونية يطربني حد النخاع وقد استحال الحلم إلى جمال والصمت إلى تجل...

 

عادت لي محطات طفولتي وشبابي في هذا المنزل، كلما نهضت صباحا على صوت فيروز ينبعث من المذياع مع إشراقة الشمس، ويفتح الظلام أزراره ليكشف الضياء الذي بدأ يسكن أعماقي يغزل من خيوط الشمس صورا منبثقة من لحظاتي الخاصة، وتتنامى الصور وتلتصق ببعضها كتلك اللوحة المسمارية التي صنعتها بمفردي أيام الطفولة لأشد المسامير بخيوط حسب الأشكال التي انبثقت إلى مخيلتي، أو كبذرة المشمش التي بذرتها في التراب، وذلك الغصن الذي وشيت برحيقه كفي ثم غرسته، ليينع الإحساس وتنبري لوحة رسم عليها البستان بالشكل الذي يتناغم مع الحلم.

 

وشعرت أن الجمال ما فتئ يتغلغل بين شراييني...كنت كمن يرسم جذور الجمال، وتنمو على أصابعه رسومات الورد التي تحاكي النرجسة والقرنفلة والأقحوانة، وأتنفس شذاها ليتوه خيالي بين طيات الأحلام الساحرة... وحين يبارك المطر تلك البذرة أو ذلك الغصن كنت أقرأ في سفوح الصور البعيدة روائح الثمرات في الصباحات الممطرة بالشذى.. وتنبري كلمات تغرس الخيال على الأنامل فأكتفي بكاتبتها على كراس خاص بالبوح الذاتي، اقرأها مع بزوغ الشمس حين تنتشر أشعة الشمس في أرجاء الغرفة، وتضيء جذور الإلهام، ويزرع فيها الشوق للحياة، ويبث فيها رؤياها ويفتح لها سجلات الذات المبدعة التي يهتز لها طربا قلب الإنسان...

 

في الممر بدت لي طفلة تجري، وتختفي في الشرفة، اعتقدت أن أشعة الشمس عبثت بعيني... لكن صورة الطفلة أشرقت من جديد كخيوط الشمس الأولى... تفتحت كزهرة مثيرة... وهي تركض في الحديقة... دخلت المنزل فاجأتني صورة تلك الطفلة على اللوحة الكبيرة المعلقة في البهو... الطفلة المتأملة، بدت غريبة وهي تتأمل البحر والجبال عند المغيب وكأنها تتساءل عن جدوى الليل والنهار... الطفلة المتأملة كانت محاطة بالآلات الموسيقية، وأدوات الرسم، والكتب القديمة، فبدت كأنها تذوب في كل الأغاني، وتتوه في ألوان اللوحات وصورها، فيبحر بها الخيال، وتتقادفها الرؤى... تغوص في أعماق كل الوجوه التي تعترضها... وكل الخرافات والحكايات... باحثة عن معنى حركها بعنف.

 

 ما إن جلست على أول كرسي اعترضني حتى رأيتها تقترب من المكتبة.... تتصفح الكتب، اقتربت منها لأشدها من الخلف، لكنها ركضت واتجهت نحو المرآة وغابت صورتها هناك بعدما تصفحت الكتب وتاهت في معاني الأفكار، وتفاصيل الأحداث، ولكن لا جدوى من البحث خارج سطور الذات... لقد اكتشفت هذه الحقيقة حين أردت أن أخترق المرآة، وأحتضن صورتي، فأدركت أنني كنت أبحث عن نفسي.

 

ارتخيت على الكرسي ممنية النفس أن خيال الطفلة قد لعب بعقلي، وفي كل غفوة، كانت الطفلة تلف بي كالفراشة لا تنهل إلا من رحيق الحلم، ولا تحلق إلا حول الضياء... فلم تمش قط في الدروب المستقيمة بل تلف وتلف... إلى أن ترهق فكرها، ورغم ذلك فأنا لا أنام إلا لأستيقظ على وقع مشهد مثير....

 

 كنت بحاجة للاغتسال وتغيير ملابسي للنوم قليلا والاسترخاء من عناء الرحلة... لتتراءى لي تلك الطفلة مساء تنام في العتمة، تناديها الدروب ويغريها السبيل. لقد خيرت المشي في اتجاه الشعلة الغامضة... ونهضت على صور الحلم، فاختارت الإبحار في الثنايا... إذ ظنت أن هذه الصور مسرح آخر تختبر فيه وجودها.... انها اقتنعت أن لا انتماء إلا لعالم المتغيرات... وغادرت المنزل نحو الطريق...

 

 بحثت في ذاكرتي عن وجه تلك الطفلة، عن كل الوجوه التي راودتني... وتتبعت تصاميم بناءات فاجأتني... فبدوت لنفسي كتلك الطفلة التي خيرت كتابة أبجديات حريتها فمشت طويلا على ايقاع رؤاها... وهي تطمئن نفسها باكتشاف موطن حلمها... إنها تجده حقيقة تنزوي وراء جدران عقلها... كم توغلت في الغابات والجبال، كم عبرت القناطر والبحار... ورغم ذلك مازالت تفك الرموز وتحل الضفائر، إذ تهوى ذلك الشعر الغجري الممتد كذلك المعنى المتموج الذي يتناهى إليها.. كموسيقى الشعر....

 

 حين فتحت جهاز التلفزة، لأشاهد آخر الأخبار، بدت لي مشاهد الدمار التي خلفتها الحرب على غزة مريعة... وراعني أن يتكرر مشهد الطفل الذي سملت عيناه وهو يتحدث عن الحرب، لم أعرف كيف يستمد الواحد منا صورة الأمل من طفل مسمول العينين وهو يتحدث بثبات... فقد كان كمن يرسم كامل مساحة اللوحة سوداء، فيرى فيها الشؤم الذي ينذر بالخراب والبؤس المنهك، وكان يرى نفسه يبتسم ويضحك وهو يتحدى كل العواصف وكل البراكين، ويبحث عن غياهب المعنى، وخطر له أن يبدد العتمة، ويرسم الابتسامة عله يقاوم تلك الصور الرهيبة التي تقرع ذهنه... لم أعرف كيف تدفق الضياء عبر ابتسامته، وكأنه يشعر بالراحة والأمان والحنان وكأنه ولد من جديد في كون غابت فيه صور الدمار... فقد بدا كالجنين... يتحسس ببهجة مدى العناية المخصصة له وترقب نزوله ليضيء وجوده السعادة...

 

 استرجعت كابوس الموت الذي باغتني في الطائرة... حيث كنت أصارع صخبي وتعبي وتيهي حين تناثرت هواجسي وتداعت حيرتي إثر مشاهداتي للحرب على غزة.. شعرت بالبهجة تكمن في أعماق الطفل وفي حركاته وأحداقه... فلم تتحطم سفينة حياته، فمازالت تبحر به في بحور الذات لتمنحه راحة البال وسكينة الوجدان. فإذا آلمته صورة تشرق في قلبه شمس البداية. فيتفنن في وصف معاني الحياة عبر ابتسامته العريضة، وينشد أغاني العشق ويكتب الوجد بالأحلام الوردية... فهذه الحالة رغم غموضها... كانت تحملني إلى دروب الاكتشاف التي يطؤها خيالي وصار يناديني لألجها. وها أن ابتسامته كضياء القمر.. لقد فتحت بابا في اللون الأسود، لتنبلج ألوان الأمل تهبه بداية جديدة وتخلصه من عتبات الضجر، وصارت ذاته لوحة بيضاء، ناصعة، نقية، تجسد عمق بدايته...

 

كان الإحساس الذي تركته في الطفلة الضوئية وذلك الطفل، يترجم كل ما أشعر به، وأفكر فيه، وصارت الحياة كشعاع ينبلج من قاع البهجة. فعلا : الزمن يتواصل، وكل شيء يتحرك، والأحلام تتفتح وتتلون وتثمر من جديد... وأنا في حضرة ذاتي، أمسك بقلمي لأجسد ما يعيش داخلي، أحس به ولا أدفنه في طي النسيان. وحين تواجهني الحروف، وتحييني الكلمات أحاول دفع حياتي بسيل معاني وفيض أعماقي. عندئذ أجد نفسي أمام سجل البوح، فأتصفحه ورقة ورقة. وأقرأ كلماته حرفا حرفا، وأحس بعباراته كما لو أني طفلة لم يؤثر في الزمن، ولم تسء لي صور الدمار...

 

وحده الضياء الكامن في الذاكرة يزيح الصور القاتمة، ويستأصل الشجن من النبرات، ولا يكف عن الخفقان وعن دفع حركة الجسد... أما العتمة فهي لا تحرض على المواجهة.. انها تفتح الوجع ولا تسكت رنين الروح الحائرة. فما أجلها لحظات تجلت ضياء....

 

في الصباح أشرقت الشمس مضمخة بالدفئ والحنين. انبرت صورة الشجرة الخضراء من وراء بلور النافدة، وقد شمخت أراقها وتداعت، وتفرعت أغصانها، قطفت غصنا ووضعته بين صفحات قصة شرعت في كتابتها، ولم أكد أكتب سطورا قليلة حتى تجمد قلمي تاركا العنان لذاكرتي التي تصفحت أبعاد اللون الأخضر الذي بد مغريا حد الخصوبة.

 

بدا لي أن أسلك طريق القرية لأزور عمتي قبل الاتجاه الى الشمال...

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1413 الاثنين 24/05/2010)

 

في نصوص اليوم