نصوص أدبية

مدارج العودة (3)

وأستعين بها في بعض الأمور... القرية التي تدخلها تكون قد وطأتها حين ترى أشجار الكالاتوس تحف الطريق المؤدي اليها من الجهتين، ثم تنعرج نحو اليمين وتمر على جسر وادي مجردة، وقبالة الجسر يوجد مصنع الشاشية. هذه القرية التي يحدها البرج وهو ذلك المبنى الأثري الذي يربى فيه الجواد البربري، لها مدخل أشبه بباب الولوج اليها، منه يحط القادمون والمغادرون... وتصطف المقاهي هل جانبي الطريق وروادها يراقبون الغادي والراحل....

 

 كان باب دار عمتي شبه مفتوح ولكن لا أحد بالداخل، الأكيد أنهم في الضيعة الجبلية... لم يبق في هذا الحوش غير صور الذاكرة بدورها... على يمين المدخل يوجد الاسطبل وككل مدخل هناك حكاية تستثير قشعريرة الخوف.. أيام طفولتنا تتحدث عمتي عن الرهبان الذي يسكن اصطبل الحوش. هو أسود اللون، كبير الرأس، ضخم الجثة. برز لها صيفا حين بقيت ساهرة بمفردها وسط الدار. خرج من الاسطبل وغادر من الباب الخارجي وحين لحقت لتطل عليه وجدته أمام عربة الحصان، حاول الهجوم عليها لكنها صرخت فهب زوجها وأولادها، وحين هموا بالالتحاق به لم يعثروا له على أثر. الشباب الساهرون تحت الجدران لم يروه يمر. هو رهبان وقد ذاب، نعم ذاب صاحب الجثة الضخمة. وكنت أسائل عمتي : "لماذا لحقت به ؟"، فترد "لأن الرهبان صنفان : صنف يؤذي وصنف يثري. لو كان كريما لصافحني بيده اليمنى ولما استغنيت، لكن حظي النكد شاء أن يكون الرهبان فقيرا..

 

 في قرارة نفسي كنت هلعة وفي ذات الوقت كان ذهني الذي طالما طالع القصص البوليسية والألغاز يرى في ذلك الرهبان مجرد لص تسلل إلي اسطبل البقر المسالم. قطيع البقر الذي يعود بمفرده في المساء من الضيعة إلى الدار، ويكون ابن عمتي يتبعه من الخلف ودون أي توجيه يعرف الطريق، ويجد الباب الخارجي مفتوحا ويدخل إلى الاصطبل. أذكرمرة كنت فيها في السقيفة وشعرت بجسد يلتصق برأسي، التفت فوجدت البقرة التي تتقدم القطيع واقفة ورائي وكانها تدعوني بتلك الحركة أن ازيح لها الطريق بينما البقر وراءها واقف ينتظر أن ابتعد...

 

جلست وسط الدار قرب حوض النعناع والاكليل.. قرب هذا الحوض تفرش عمتي المرقوم وتضع الشعير على الأرض وتدوسه. تتجمع نسوة العائلة ينقين الحبوب ويفرزنها، وتحمل الحبوب إلى الطاحونة، وتصير دقيقا يوضع في براميل كبيرة، ويتجمع النسوة من جديد ليكسكسن كسكسي العولة، ولكل واحدة منهن غربالها الخاص ولكل واحدة دورها، ويقضين ثلاثة أيام في الغربلة وتحويل الدقيق إلى الكسكسي و يتدفق الحديث وتعلو الضحكات، فيما تعتكف ابنة عمتي الكبرى على طبخ كسكسي العولة، وكل من يدخل عليهن عليه أن يذهب للدكان القريب ويشتري ما يبارك له للعولة. فبعد حصد القمح والشعير تحت الشمس المتوهجة التي تغزل أحلام الأطفال في حضور موسم الحصيدة، تحيك النسوة أغنيات جميلة عندما ينتهين من العولة..

 

لم يكن الرهبان هو الهاجس المخيف الوحيد أيام الطفولة، ما طفقت إبنة عمتي روضة تحدثني عن سيرة الأشباح والعفاريت، فبئر "دار حماني " مسكون، لا يقتربون منه ليلا لأن الجنية ذات الشعر الأشعث تقف على حافة البئر في العتمة وتصدر صوتا كالعويل يخافة أهل الدار والجيران من حولهم، وتلك العجوز خيرة التي تعيش بمفردها بعدما تزوج أولادها جنت لأن دارها مسكونة، وتلك النخلة الباسقة في منزل الجيران، النخلة الوحيدة التي زرعت في القرية تسكنها أرواح الجنود الفرنسيين الذين قتلهم الفلاقة وردموهم تحت النخلة أيام الحرب، ووراء أشجار الصبار تنجلي الأرواح وتسمع ضحكات الجنود الذين كانوا يسكرون ويعربدون مع المعمرين فصوب نحوهم الفلاقة الرصاص. وعجبت من قدرة هؤلاء الفلاقة، لكن الجنود ما طفقوا ينبرون كأرواح تصفع الطمانينة. كنت أيام طفولتي أشعر بالرعب كلما مررت من هذه الأماكن بمفردي... وخاصة في القيلولة، فهناك الرجل القصير الذي يخرج عندما تصبح عين الشمس حمراء ويطول ويتسامق إلى أن يناطح السماء. وتلك الأصوات التي تندفع من القناة التي ابتعلت الكثير من شبان القرية، إنهم يتجمعون مساء ويلتقون ويتحدثون ويسكرون أيضا..

 

في تلك الحكايات المرعبة كنت أتمتع بحرية الاستماع والاكتشاف، لم أكن تلك الطفلة التي يمنعها والداها من مشاهدة فلم مرعب، فتلك القصص المرعبة هي تمثال وقناع، تضع تلك الحكايات القناع وراء القناع ليسير الإنسان نحو هوة بلا قاع، يبحث عن الطمانينة فلا يجدها. كان الحاكي ممثلا مهرجا، بائع كلام يشعل الخضوع في حيرة الأطفال ويحطم السلم الداخلي على صخرة الخداع. تمثل تلك الارواح الشريرة كل أدوار الغطرسة، تنبري كالظلال وراء ستار القرية الملتحفة بالأشجار، تتحرك وراء الأشجار وتنبري في القيلولة كظلال تتمدد وتطول وتقصر وتصدر أصواتا في الليل... لكنني أرى الآن القرية هادئة، آمنة ومبتهجة، ولم تستنزف الخرافات بهجتها...

 

كنا نتجه إلى مشارف الجبل ونستسمح "عم الرفلات" حارس الغابة بالتجول هناك، وقد كان رجلا طريفا، خفيف الظل، صاحب نكتة ساخرة، ثم نمشي فوق قنوات الماء " السيفونة " لنتجه إلى مشارف الجبل باحثين عن فتاة اسمها حليمة، تسكن وراء الجبل ويتسنى لها القدوم لتشاركنا اللعب ولتحدثنا عن مغاور الجبل ونحن نتجول بين السهول، ونشد أغاني الأطفال. ألاحق خيالي إلى تلك المغاور وأختلي بنفسي هناك، وأنسج تفاصيل فتاة غجرية في أسطورة قديمة، ويتجول خيالي بي إلى الدروب التي أريد اكتشافها و يناديني لولوجها، ويحلق الخيال في لحظة جنون إلى المناطق الخطرة، إلى تلك الرموز المبتورة الكامنة في المغاور، أو في بيت أعلى الجبل.

 

المرور تحت القنطرة أمر عسير بالنسبة إلي خاصة إذا اضطررنا لتنكيس الرؤوس والانبطاح تحت القنطرة وكأننا نسجد لها وأرجلنا التي تتمرغ بالوحل تخشى الانزلاق في تلك اللحظات الحذرة، ويتحول الوحل إلى شيطان يهدد بجرفنا إلى حيث لعنة الحمإ الآسن. كنت أمقت القنطرة وأتمنى أن نقطع جسر القنطرة عوض هذا العناء، ولكنهم كانوا يرون طريق الجسر يتطلب المشي لأميال فيعزفون عنه. وكنت أحبذ أن أذهب على العربة للحقل لكي يوقع الحصان حركاته الخببية، وفي الوقت نفسه كنت أنظر لماء القناة بحذر خشية انقلاب العربة أو سقوط الجسر، أما ركوب الدراجة فأراه الأيسر عند العبور لأن الدراجة خفيفة وتمر بسرعة ولا تحدث ايقاعا عند شق الجسر. وعند انتهاء الجسر والعبور للطريق المؤدي للضيعة يتفتح الحلم باللعب والركض والاغتسال في ماء السيفونة، وشرب الماء من البرميل في "العشة" المبنية بالقش والتبن والمسيجة بالأسلاك الحديدية، وقد يحلو للواحد منا أن يتمدد على الفراش كلما أنهكه التعب. أما الوجود عن انفراد في تلك الضيعة فمعناه تعكر مزاجي الطفولي، فما معنى أن أبقى جالسة لوحدي وجسدي يحلق في سماء اللعب، أخير المغادرة إثر إحساسي بالضيق، رغم مشقة الطريق ومخاوفه....

 

 جلست على حافة القناة بعدما خلعت حذائي وتركت الماء يداعب رجلي وأصابعي. حين كنت طفلة لم أجرأ على الجلوس على حافة الوادي، فالشيطان سيدفعنا إلى الماء لنغرق، حتى أعتى سباحي القرية فقد غرقوا في هذه القناة، فالوحل هو العالق في قاعه وكلما غطس السابح نحو الأسفل التصق جسده هناك ولم يعد قادرا على الصعود. وحده ابن عمتي لم يكن يبالي بتلك التحذيرات وكان يسبح في ماء القناة بزهو، وأحيانا يجذب معه السمك الكبير الذي تحسن عمتي " تفويحه " بكل البهارات وتقليه... مازالت تلك الروائح تنبعث إلى أنفي ونكهة سمك الوادي تدفع في شهية الأكل... وأرى ظلي في ظل الذكريات وفي هذه القناة....

 

كم كان ينتابني الإحساس بالانطلاق في هذا الطريق الذي يؤدي إلى الضيعة حيث يخضب الهواء نفسي ويشع الجمال تحت مساماتي. وأجد أن الشعر مجرد لحن حي لا تعزفه اللغة، والماء الفضي المترقرق في القناة لا تعكسه أي ألوان مائية على لوحة معلقة على إحدى الجدران. ربما وزن الشعر هنا في ايقاع حركة المزارعين وهم يهوون على الأرض يحرثونها ويزرعونها ويجتثون الأعشاب الطفيلية ويجنون ثمراتها و في تفاصيل أغانيهم عند المساء، ومن حيث لا أدري أشحن بتلك الطاقة التي تريد أن تسطر وتهرب الكلمات بعيدا وتبقى عالقة في ذهني كالارتسامات التي تتحول إلى خطوط أكثر بروزا على جبيني كلما تقدم بي الزمن. وكنت أشعر أن ما يعوزني هو الحبر الكافي الأشبه بعرق القرويين، وأن جهدا كبيرا ينتظرني لأمسح العرق على جبيني وأرى كم من الجهد اقترفت لألامس خطوط جبيني.

 

 كانت ابنة عمتي روضة الأكبر مني بثلاث سنوات تحدثني عن الجمال الذي ينتابها كلما تجولنا في طريق الضيعة عشية تقول لي : وأفتن بالذات الكامنة في. أعشقها، أشكو لها همومي فتواسيني، وتمدني ببلسم الشفاء حين أحس بالأمان والدفء. وأود لو أستعير من هذا العالم الجميل الكتابة المستقاة من جمال الكون، أتحسس منابع العطاء وتلتحم أعماقي بجمال الطبيعة، وتختلط ألوان الماء وألوان الطبيعة الخضراء بكل الألوان المشعة.. وعندما أهم بدخول الضيعة تنبري صورة ذلك الفلوس ذي الساق المقلوبة الذي شاهدنا أنا روضة موته، لقد قدم غراب أسود من وراء الجبل وانقض عليه دون غيره من الفراخ...

 

الغربان تأتي هنا من وراء الجبل وتنقض على الفراخ، لكن ما حز في نفسي أن الفرخ الذي يمشي بصعوبة أتاه الموت من عالم غريب آلم الأرض وأحزن الصخر، فبكت السماء في ذلك اليوم وبكى الحجر، تلاقح الماء المالح على وجوهنا بماء السماء العذب، كانت الرؤية مجنونة، بقينا واقفتين أمام الكوري. حين انجلى موت الفلوس كالكابوس والحلم في آن. وكأن النفس ترهص باحساسات صاخبة وهستيرية، أقوى من أحكام العقل وطقوس العبادة. لم تكن السماء تترك "السانية" لمشاعر الحزن والعزاء وشقاء الموت. جلت بنظري نحو تلك القطعة الأرضية التي حصدت فيها السنابل فبدت كأنها قاحلة وميتة بعدما جفت السنابل وانتزعت. بلا روح يشقى الأمل.

 

تخترق صور تلك اللحظة ذاكرتي متلاحقة وتمضي : الحقيقة، الذاكرة، الحلم، اطلالة صدمات الزمن، سمفونية المطر كروح تأبى الفناء. سكنني هاجس المطر والسنابل التي تنبري كالقمر تعيد سرد حكايات أيام العرب. أما روضة فلم تجد غير كلمة المكتوب تصف فيها ما حصل بعدما باغتتها الصدمة وجف نبع كلامها. اخترقت مسحة المكتوب آفاق لوحة السانية هذه المرة، وانجلى الغراب كلحظة عبث سوداء لطخ بها الغراب اللوحة عنوة. أما عمتي التي حدثناها عن الغراب الذي انقض على الفلوس المعوق فقد كانت تغمس الخبز في زيت الزيتون فتسري ارتعاشة ضلوعها في صورتها الصامتة أين تكمن كلمة المكتوب، المكتوب تلك القناعة الراسخة في اقوالها، وتلفنها لبناتها، المكتوب حقيقة آتية. طالما جلست وسط الدار وهي تحدث الصبايا عن المكتوب حين تأخذ الواحدة حفنة الشعير و قطعة الفحم وتديرها الغربال وهي تحدثهن عن المكتوب. تبتسم إحداهن وهي تحلم بحبيبها سيقدم لها باقة عنبر وعرعار يوم الخطوبة حين تخبرها عمتي أنه مكتوبها ذلك الشخص، ويتخضب وجهها الندي بالحلم، وتذرف أخرى دموع الأسى وهي تترقب عودة خطيبها الذي سافر نحو مدينة النور ولم تسمع عنه نبأ، تضنيها كلمة المكتوب حين ترى الخالة تفاحة التي مازالت ترتدي الملية البربرية، أنه تزوج بشقراء، اما ابنة عمتي الكبرى المخطوبة التي لا تكل عن العمل فتمخض اللبن في الزير وهي تجابه الصبايا بكلمة المكتوب..

 

رحبت بي عمتي ولم تكن مهيئة لاستقبالي. بدت متوجسة من عزمي على تنفيذ مشروع الشريط في الشمال. ولم أكن مبالية بتوجسها وأنا أتفحص كنتها التي لا تكل العمل وهي تهم بحمي الحطب في الطابونة والشمس المتوهجة تعكس لون اللهب بدورها. كانت تقلب الحطب الذي تحول إلى جمر متوهج بعصا غليظة، وحين انتهت من "حمي" الطابونة تحول الجمر إلى رماد. بقيت أسترجع صورتي وأنا طفلة أقلب الرماد لتبرز جمرات صغيرة متوهجة، ستتوهج حتما لو أضفت إليها الحطب. وانبرت لي حبات الجمر كدقات القلب الذي يحيا من جديد كلما نفضنا عنه الرماد فتعلو نبضاته الخافتة... لكن عمتي سرعان ما قطعت تأملاتي، وأشارت لي أن أعرض الأمر على زنوبة التي تسكن بجوار دار جدتي، فقد تخرجت منذ سنوات من الجامعة ولم تعثر على عمل، فهي دارسة ومثقفة، ونشطة، ويعول عليها، ولكن "بختها مايل" حسب تعبير عمتي...

 

شعرت بالوقت يضغط، فرجوت عمتي أن تصاحبني إلى دار زنوبة، لنقنعها، و ليتسنى لي الشروع في تنفيذ عملي.. في الطريق إلى دار زنوبة سألت عمتي عن سبب عبارة " بخت زنوبة المايل " فقالت "حتى الزواج فلم تعمر فيه، وطلقت بسرعة، وهي تتنقل في العمل من مكان إلى مكان، مرة تدرس المسنين، ومرة تدرس المتخلفين ذهنيا، بأجر رمزي وعقد مؤقت، ومرة تدرس الدروس الخصوصية، وأحيانا تعمل في الضيعات، مع العمال الذين غادروا الدراسة منذ المرحلة الابتدائية، والشقاء يتابعها في كل خطوة... "

 

في تلك الأيام حين كنت طفلة صغيرة كنت أحبذ أن أرافق جدتي في عودتها للقرية، أقضي بعض الوقت هناك. تذكرت زنوبة تلك الطفلة القروية التي كانت تأتي مع أمها لمشاهدة التلفاز في دار جدتي في وسط دارها الكبير الذي يتسع للعديد من نساء القرية. وكان التلفاز يجمعهن وأبنائهن الصغار وخاصة في ليالي رمضان لمتابعة المسلسلات، فلم يكن يقدر الكثير من القرويين على شراء التلفاز في ذلك الوقت (1983)... وكانت الفرصة سانحة بالنسبة لي للتحدث مع الأطفال عن رحلة الغد... كانت التلفزة تبث صورة الرئيس بورقيبة وهو يطمئن الشعب بعودة سعر الخبزة الى ثمانين مليما بعدما ارتفع الى مائة وسبعين مليما، مما سبب احتجاج الناس... وكان يتحدث عن الخبز الذي صار يرمى للأبقار كما أخبره البعض. وكأنه يحث الناس على أكل الخبز، وأن لا يتفضلوا به للبقر... ولكن زنوبة قالت لي وقتها إنها نفتتح الصباح بالذهاب إلى "النادي" لكي يوزع عليهم الخبز. لم أكن قادرة على رسم صورة ذلك "النادي" فهمست لها سرا : " غدا صباحا أنتظرك أمام الباب الخارجي لنذهب سويا. نظرت لي بشك لكنني طمأنتها : " لن تتفطن جدتي للأمر ".

 

ومن الغد اصطحبتها إلى "النادي" حيث احتشد الأطفال في طابور طويل واندسست بينهم وراء زنوبة. تشجعت وتشبثت بها ماسكة بها من الخلف، وحين جاء دورنا دخلنا إلى تلك الغرفة الطويلة المعتمة وبدت كالداموس. جاء دورها ومد لها العون قطعة الخبز، ثم طفق يقطع الخبز وهو يتفحصني، نكست وجهي كي لا يتفطن أنني غريبة، على ذلك مد لي رغيف الخبز ولم يخذلني. وحين خرجنا قالت لي زنوبة : اعطيني الرغيف... ستجدين في دار جدتك خبز الطابونة، ناولتها قطعة الخبز، وعند العودة حاولت التسرب إلى الداخل خلسة، ولكن ما إن مررت بالسقيفة حتى وجدت جدتي جالسة وسط الدار. نظرت لها بوجل، تأملتني بنظرات عتاب وأردفت بأنها تمنعني من مصاحبة زنوبة للنادي ثانية.. دخلت إلى الغرفة الواسعة التي تقسمها خزانة كبيرة لم أر خزانة في حجمها وشكلها. هناك فجوة تؤدي إلى وراء الخزانة عبر إزاحة خشبة كبيرة، تصببت عرقا، ثم دخلت لأرى خوابي العولة والدقيق الكافية لإطعام العائلة أكثر من سنة....وعدت جدتي بعدم مصاحبة زنوبة، وبعدم الذهاب للنادي ثانية لأنني لم أفلح في إقناعها أن الفضول هو الذي دفعني لتجشم مغامرة الصباح بعفوية الأطفال.

 

انتابتني قشعريرة حين مررنا أمام دار جدتي الفارغة.. فقد كانت تمثل لي أجل معاني المرأة، فهي مرنة، كثيرة التنقل، تعرف الكثير من نخبة المجتمع والمشاهير والبسطاء القرويين ويأتي لها هؤلاء من كل حدب وصوب. وكانت تتحدى الزمن ببشاشتها وحزمها في مجابهة صروف الزمن. فتقص لنا الخرافات ونحن نتكوم حولها كالقطط نلتقط تفاصيل الحكايات العجيبة. ينبري "بوكريشة" الذي وهبه الملك ابنته وشطرا من مملكته لما أبداه من شجاعة على بساطته وفقره. وقصة النبي يوسف وزوجة الملك. وكان يحلو لي رؤيتها وهي تنهض صباحا وتحلب البقرات في الزريبة، تحمي الخبز في الطابونة بعدما عجنت الدقيق فجرا وكومته قطعا صغيرة وتركتها تخمر، أو تصنع خبز الطاجين أو خبز الغناي. وتراءت في ذاكرتي تلك الطفلة التي كانت تتأمل الشمس وهي تشع وتتألق... تبدو الشمس أكثر بهاء وهي تطل من وراء الجبل وتتقدم نحو القرية لتنشر كامل أشعتها. تنهض جدتي قبل بزوغ الشمس وحين كانت تناولني الرغيف الساخن كنت أتأمل الرغيف وأرفع عيني نحو الشمس وأعجز عن ايجاد السر الغريب بينهما. وأنا أبحث عن ظلي الهارب إلى خيوط الشمس الأولى.

 

حين تحكي جدتي وهي تعجن الخبز وتكوره وتحوله إلى عجين لين يستسيغ الأشكال التي تملسها بيدها، وحين تسترسل في نسج تفاصيل الخرافات كنت أستشف أنها تسترجع تفاصيل الخلق الأول وهي تمارس طقوسها في أشعة الذاكرة لتتصفح وشم السنين.. وهي تشكل من العجين قطعا دائرية كانت تضيف بعض الأحداث وترسم أسطورة من وحي الخيال، فتقطف ثمار لغتها.. فقد كانت لا تستسيغ الحكايات التي تنتهي نهاية قاتمة فعليسة لم ترم بنفسها في النار، وحبيبها عملقرت لم يهجرها من أجل قضية شعبه، فقد كان يحبها ولا يطيق فراقها.. كانت تمتلك القدرة على خرق المأساة واستفزاز المنطق بجنون العاطفة الجارفة، فتعنف العاطفة سكون الحياة في الدجى وهي تضغط على قطع العجين، وحين تضع القطع لتحمر في "الغناي" لن تنجح جدتي في تهدئة عواصف العواطف المشتعلة، فشهريار لم يكن يطيق قتل النساء بل كان يحولهن إلى جواري يؤنسن وحدته ويملأن الفراغ العاطفي الذي يعيشه، وتعيش ذروة الخلق وهي تضخ العاطفة في أبطال الحكايات والأساطير وكأنها تنفذ من وهم تفاصيل الحكايات بصيغتها القديمة وهي تسلك طريق العاطفة المتقدة جدوى.. فتنتزع بصيرتها الصور المعتمة والمشاهد الدموية من هذه الأساطير وتكتب بخيالها السطور المشرقة بعدما غلقت أبواب الحزن الشاحبة وأوصدت غرف الألم القاتمة.. ومحت ألوان الروح الأسيرة.. وحررتها من من العجز وزرعت في طياتي الإبداع كصور مشرقة للإنسان الذي يولد من شغاف العاطفة.. ويخترق حاجز الزمان لينجلي مميزا بسطور من كتبوه بالفن...

 

أكتشف الصور الزاهية في ذاكرتي وكأنني أبحث عن ومضات الذاكرة في امتداد روابي الخضرة، وفي نور لياليها المهللة بالخرافات والأساطير التي كانت ترويها لنا جدتي. وأراني في هذه اللحظات أنشد الاستماع إلى حكايات جدتي عن الأساطير الغابرة وعظمة البسطاء، وكأنني بصدد تجاوز اللحظة والتوق لصناعة تاريخي عبر استرجاع لحظات الحنين للماضي. وكنت كمن يبحث عن الماضي ليجهض سيفا يحارب تفتق الصور الذهنية الجميلة التي أستبطنها...كنت كمن انطوى على كمونه حاملا عبير الوردة التي لم تتفتح، ونفحات موسيقى الروح في صدر ضامئ للسعادة، أوراق مبعثرة في العمق، لكنني أدركت أن عبير الوردة المنغلقة لا ينحت روح الشفاء، لا يلقح حركة الطبيعة، كي تنطلق الحركة إثر انصهار الكائنات.. لا زلت أعشق جلسات جدتي، شهرزاد الحكاءة على خلاف حفيدتها الصامتة.. جدتي تفقد حكمتها حين تنسج من الخرافات ذلك العالم المجنون، دون ضوابط عقلية تحول فيه فهمها الخرافي إلى فناء الحكمة، وكأنها تمسك الخوارق وتدرك انصهار الروح المصورة للثوابت والعقل المؤسس للأنا في رحاب النفس المشتعلة طلاقة مفرطة.

 

تراءت لي صورة جدتي في هذه اللحظات، وتداعت إلى مساماتي لمساتها الحنون. أكتب حواري الشجي معها وهي تربت بيدها الناعمة على أحاسيسي، وكم كان مزاجي رائقا وأنا أجالس الحيوانات في حوشها حينا وأعانقها بعبث طفولي، ثم أبلغ ذروة نشاطي حد التهور...

 

عمتي هي التي بقيت ترصد ذاكرة المكان بعد ذلك الرحيل، وهي التي أقنعت زنوبة بعدم الحديث عن الرحلة، فالناس هنا متصلبون وقد يلوكونها في أحاديثهم.. وكنت أقدر هواجسها.... ابتلعت ريقها وهي تقول بصوت متقطع : لم أجد أحسن من زنوبة لتبقى قربك طيلة أيام التصوير.... أما زنوبة التي استقبلت الدعوة بفرح، فبدت كمن وجد فرصة للخروج من دائرة الفضاء الضيق نحو عالم أوسع....... لم أترك لها المجال حتى لتأخذ معها ملابسها، واتجهنا نحو السيارة التي غادرت القرية في سرعة، وحين غادرت البرج عادت لي صورة الموزيكا التي كانت تصاحب العروس نحو البرج وهي تغادر ليلة الزفاف نحو منزلها الجديد....

 

سألت زنوبة عن سبب طلاقها، فعللت ذلك بعقمها وعدم قدرتها على إنجاب الأطفال، وتحسرت على وفاة جدتي التي كانت تعالج العقم. وحين رحلت، عجز حتى الطب على علاج هذا المرض... عادت الى ذهني صورة جدتي... فجدتي امرأة بارعة الملامح أشبه بأسطورة. عطائها سقي بذور الخصوبة فتزهر وتثمر. كانت قنديل يضيء عتمة المعنى كلما تلألأت كلماتها تحلق في السماء. جدتي كما عهدتها إمرأة بشوشة وحازمة. وهبها الله قدرة معالجة النساء من العقم. يتوافد عليها النسوة الوالدات حديثا ل"تشلط" جبين كل رضيع تأتي به أمه لتقيه من الأمراض، وإثر ذلك "تكبس" جبينه ببعض الحشائش فيبكي الرضيع ألما وتبتهج أمنه فرحا، وتنزف تلك الجروح نفسي الهشة عندما كنت اتأمل تلك العملية وأستشعر الالم وأنا في سن غض. كنت أنهض في بعض الصباحات فلا أجدها إذ تدعى لتولد إمراة حل مخاضها في الجبل المتشعب المسالك أو في المناطق القروية المجاورة، ولعل عدم وجود مستوصف أو مستشفى قريب في ذلك الوقت ما جعل العلاج الرعواني منتشرا. والغريب أن المستوصف الذي بني في القرية كان بعد رحيلها عن الحياة مباشرة. كان ذلك في منتصف الثمانينات....

 

السيارة تقطع طريق العودة، وأنا أغادر حوش جدتي المتوفية الذي مازال شاهدا على عبق روائح الماضي. وقد بقي ظلها في هذه الدار يعمر المكان، حتى حين غادرت الحياة في مكة عند آداء فريضة الحج، فقد غص الحوش بمئات المعزين دون أن يشيعوا جثمانها، غابت صورتها لكن ظلها مازال يتحرك ويلقي على الدار حالة من الألفة... كنت أتذكرها عبر الحرقة والمرارة وقد رحلت إلى أشعة النور الإلاهي ونامت في الثرى المقدس لكن ظلها الذي ظل يلاحقني كالطيف منذ الطفولة، هو الذي جعلها حاضرة بالقوة...

 

جدتي التي ولدت في قرية لا توجد فيها مدرسة، ولا يتسع الكتاب فيها للبنات، تعلمت بطريقتها طب الأعشاب، لو بقيت حية لما ألقت دروسا حول دواء العقم، ولكنها رحلت وأخذت معها سرها، فالعلاج سر لا يمكن البوح به حتى لابنتها، والقرية التي ودعت جدتي، بدت تبحث عن علاج للأمراض الجديدة التي حلت بها وعلى راسها الطلاق...

 

ولكن القرية الآمنة النظيفة، المبتسمة عبر تلك اللافتة المعلقة في مدخلها " ابتسم إنك في.... " مازالت تنبؤ بولادة جديدة، فالقرية لا تموت فيها الحياة حتى في المقبرة : فالمقبرة مدخل القرية للمترجلين، وهي حافلة بالناس ليلا نهارا، فيها تقام زردة الولي الصالح، وفيها مبنى أول مدرسة شيدت في الخمسينات قبل الاستقلال بقليل، درس فيها أطفال القرية ومن بينهم والدي، ثم غادروا لمواصلة تعليمهم في العاصمة وقد اصبحوا رجالا يعول عليهم في أكثر من موقع، وأكثر من مكان... القرية النظيفة تتسم بالحركة الدؤوبة وبالأمن، فالناس هناك يتنقلون في أي وقت وأي مكان، وقبل الفجر يذهب البعض للحقول والبعض الاخر للجامعات البعيدة وللمصانع وللإدارات في المدن الأخرى... الجميع يعملون ويتحركون سواء كانوا ميسوري الحال أو دون ذلك...

 

 القرية مازالت تحلم بامرأة تداوي العقم.....

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1414 الثلاثاء 25/05/2010)

 

في نصوص اليوم