نصوص أدبية

مدارج العودة (4)

فهذا جحش مطأطأ الرأس يقطع الطريق غير عابئ بالسيارات التي تبدو قليلة جدا، وهذا كلب يعترض طريقك وهو ينبح بضراوة وكأنه يحذرك من تعكير صفو هدوئه.

 

على طرفي الطريق تتجمع النسوة والشابات لبيع الأواني الفخارية بثمن بخس. وقد ملست من الطين بطريقة بدائية ورسمت عليها رسوم الطيور المهاجرة التي تعود إلى أعشاشها في هذه البقاع في مواسم الدفء.

 

ويحدث وأنت تتنقل في هذا الطريق أن تشاهد امرأة مسنة متغضنة الملامح، ترتدي الزي البربري ـ الملية البنفسجية ـ تقود القطيع بعصا غليظة أو توجه الأبقار بسوطها. تلك المرأة تبدو كجذع لفحته الشمس فتصلب بمليتها الأشبه بثوب ورثته عن إحدى جداتها. تتكرر صورة الراعية العجوز والسيارة تقطع الطريق الجبلي إلى أن تستحيل إلى صورة نمطية، لتستخلص أن صراع المرأة في ربوع الشمال الغربي التونسي عمل يومي وجهد لا يتوقف تقتضيه طبيعة المنطقة الجبلية الواعرة.

 

ينبعث صوت زنوبة وهي تردد أغنية صوفية صادق " ضيعت العمر ليالي، ضيعت الفرحة ليه، يرضيك يتغير حالي، يرضيك الأسى يرضيك "، وعادت إلى ذهني حادثة انتحار كاتب هذه الأغنية في المنطقة الجبلية بعدما حققت أشعاره الغنائية شهرة فائقة، ونشر خبر انتحاره في النشرة الإخبارية... "لقد قتله الجبل".. هذا ما رددته زنوبة نقلا عن صديقه الشاعر الذي كان معلما بدوره معه في تلك الفترة.. هناك شعر صديقه بتعكر مزاجه في الدروب المتشعبة، وكانت أصوات الذئاب والخنازير تثب على روحه وتنقض على طمأنينته... طالما انتقل من الجبل إلى العاصمة ليعرض أشعاره على الفنانين فنالت شهرة واسعة.. يبدو أن الشمال فجر صرخة روحه، فجاء شعره حارا كتلك الروح التي لفظها...

 

- وأين عرفت صديقه الشاعر ؟

- في "نوادي الشعر" أيام الدراسة الجامعية...

- ولم تصبحي شاعرة ؟

- الشعر " ما يوكلش الخبز ".....

-.......................

 

تستبدل زنوبة أغنية صوفية بأخرى لشكري بوزيان، وهي أغنية من كلمات نفس الشاعر " جرحي بسمات ما تداويه... جرحي إلي فات عايش فيه...".. وأشعر وكأن زنوبة وهي تسترجع كلمات هذا الشاعر المنتحر تتوجس خشية من هذا العالم الذي أخذ روح الشاعر....

 

أوقف السيارة على طرف الطريق، و أنزل لأتأمل الروابي الممتدة أمامي كامتداد السنين المتراكمة، فأشعر بجدية اكتساح دروبها في مثل هذا الوقت الباكر الذي انصهر في طياتي كانصهار خيوط الشمس الأولى بسحر الندى. تاركة زنوبة متسمرة على الكرسي، كأنها خائفة من حيوان جبلي سيهم بالانقضاض عليها...

 

قال لي صوت وقور من وراء ظهري:

ـ أراك ترمقين حدة منعرجات الجبل بمزيج من الحيرة والحذر.

 التفت فإذا هي امرأة قروية صلبة الملامح رغم تقاطيع وجهها المتغض.أجبتها بحيوية:

 ـ إنني أحس بروعة الحياة في السهول الممتدة وراء الجبل رغم صعوبة الوصول إليها.

 

قالت بحنكة مشوبة بالارتياب:

ـ إنك وكما يبدو قد تعودت على العيش السهل، أما نحن هنا فلا نحس بغير قدرتنا على العمل المضني والمشي لمسافات طويلة دون كلل.

ـ إن الحياة صعبة على بساطتها.

قالت بفضول مهتم: لقد لمحتك منذ فترة نزولي تنظرين إلى تشعبات الجبل، فأيقنت أنك غير قادرة على سلك دروبه.

قلت وقد غيرت وجهة الحديث: إلى أين أنت قاصدة ؟

ـ اليوم يوم سوق.

 سارت ولم تخلف وراءها سوى الغبار. فانتابتني رغبة في اكتشاف الحياة التي تبدو صعبة، وأغرتني لهجة هذه المرأة المستفزة لأدرك طعم البداية الكامنة وراء المواطن المجهدة والشاقة. فهل علمتني هذه المرأة الحادة المقاطع معنى الحياة الصعبة ؟. ثبت الكاميرا نحوها لأصور الصورة الحقيقية للمرأة في هذه البقعة من البلاد التي تبدو للمشاهد في صورة حواء الصلبة التي انبثقت من قسوة الطريق وقسوة الطبيعة وقسوة القدر.

 

لم تعد المشاهد التي التقطتها بالكاميرا تعنيني بقدر ما تركته من صدى في نفسي. فقد أطل منها وجه العجوز الراعية الصلبة المستفزة، الطبيعة العذراء، الصناعات اليدوية البدائية، الطين الذي يملس دون حرفية، البناءات المترامية الفوضوية. يبدو أن التحول والحرفية كلمات غابت عن قاموس هذا المكان وبقيت الجذور الراسخة للعذرية التي لم تلوثها القيم الاستهلاكية ولم تفتضها المدنية بعد. لم تعد تعني لي الأنثى سوى شجرة خضراء راسخة في تربتها الجبلية، وكان علي أن أبدأ كتابة المشاهد من هذه الرؤية.

 

بدأ الطريق يتشعب وأنا أصادف المنعرجات الصعبة أثناء قيادة السيارة، فأتوخى الحذر وأسلك طريقا مختلفا يطل على أكثر من "هفهوف". أبذل جهدا في السياقة وأتفحص ملامح المكان ليحط بي الرحال إلى فندق صغير في منطقة هادئة تشرف على البحر و يلتحم فيها البحر بالسماء وترتطم فيه الأمواج على الآثار التي ردم جزء كبير منها، وتجتاحني الرغبة في الحفر في مكونات المكان الأثري بحثا عن معالم مدينة أثرية زحفت عليها أمواج البحر.

 

...لم أكن أتصور أنني سأهم بانجاز عملي في المنطقة الجبلية المغطاة بأشجار الفواكه الجافة رفقة زنوبة "مائلة البخت" كما يطلق عليها في القرية، كنت أرغب في الانتقال إلى مكان مختلف يتسم بالارتفاع والإطلالة على البحر... وبدت لي هذه المنطقة الوحيدة التي مازالت عذراء ولم تتلوث بعد...

 

 وضعنا أدباشنا في الفندق، وخرجت وزنوبة لنستجلي ملامح المكان المحيط بنا... كان الفضاء الذي ينطبق على التلة رحبا إلى درجة أن صدى أي حركة يتردد، ويترك الصوت يرتد، وكأنه ينفذ من أعماق المغاور..تسمرت في مكاني لليقين انتابني وكأنني نجحت في إزاحة حجب العبث والتوتر في هذا المكان الحالم والهادئ على تشعبه... وفي محاولتنا الصعود قليلا، لمحت عينين بنيتين تحدقان بنا. فنظرت إلى الوجه الطفولي الأسمر الغامض ببهجة من لقي ضالته المنشودة. ووجهت نحوه الكاميرا، وهو مندهش، دون أن تصدر عنه حركة قبول أو رفض.

قلت له: هل أنت نازل نحو السفح ؟

أجابني بصوت جبلي قوي: "نعم". ثم استطرد كالمحذر: "إن كنتما ستقصدان القرية الكامنة وراء الجبل، فالطريق سيتشعب أكثر وقد يوقعكما في التيه".

- هل تنعتنا عن الثنايا السوية ؟

أجاب بحزم واهتمام: سأرافقكما فأنتما كما يبدو غير متعودتان على المجيء إلى هنا.

نظرت إلى هوة في الطرف المقابل، وقلت: إنها خطرة...

 

تقصدين "الهفهوف"، لقد تعودنا على المشي على حافته دون أن نقع. نظرت إليه بجدية وكأنه يعلمني أبجديات التفلسف. وقلت: تلك مزية إنسان فيلسوف.

فعقبت زنوبة: إن الناس يكرهون الفلسفة ويرمون الفلاسفة بالجنون.

واصل الطفل حديثه: إن أخي الذي يدرس في الباكالوريا، لا ننفك عن السخرية منه عندما يغلق باب الغرفة وراءه ليتمكن من فهم الفلسفة.

- قد يكون متعلما. وقد تكون أنت فيلسوفا....

توجهت نحو الهفهوف بفضول، وما إن نظرت إلى أسفله حتى شعرت بدوار عنيف. فسارعت بالابتعاد، وقلت بتعجب: إنه عميق جدا. فما هو مصير من سقط فيه ؟

- نحن هنا متعودون عليه ونعرف كل مخاطر الموت، أما الغرباء فالليل وحده كفيل بايقاعهم....توجد كذلك عدة آبار فارغة وعميقة وهي لا تبدو للعيان نظرا للحشائش التي تلفها، لكن هذا لم يمنعنا من اللعب حولها.

- كيف ذلك ؟

- عندما نرسل بأصواتنا إلى قاع البئر يرجع صداها قويا جدا.

- المكان هنا خال لذلك ترجع الأصوات الرتيبة صاخبة.أما في البئر فإن الصوت يتدرج من الأقوى نحو الرتابة ثم يتصاعد. و تلك هي طبيعة العمق: قلب لميزان دو الكبير.

نظر الي باستفهام فشرحت له. تلحن كل الأغاني وفق سلم موسيقي يعبر عن روح الكلمات. فان كانت الكلمات حزينة تصاغ بلحن الشجن. وإن كانت مرحة فإن اللحن يغلب عليه الطابع الايقاعي...

ردت زنوبة: إن الغناء في القرى والجبال يفتقد للسلم الموسيقى بل يرتبط بمخيلة الناس. لأنهم يحسون بالمعنى ويغنونه على السليقة. الغناء نوبة جميلة، فهم ينفعلون وينتشون ثم يرقصون.

 

عادت الى ذاكرتي صورة الشيوخ والرجال الذي يرقصون في القرية على وقع ضربات الطبال، وصوت الزكرة التي تنفخ اوداج الزكار... والنساء اللاتي يشاهدن هذا الرقص المنتشي بإزاحة أطراف ستائر الأبواب والشبابيك، والأطفال الذين يوقعون انتشائهم بضربات أقدامهم المتلاحقة...

 

نظر الى الطريق أمامنا وقال: لم يبق إلا الحذر من السقوط لأنكما مطالبتان بالمشي في الاتجاه المستقيم كي تصلا الى مشارف القرية. وأردف كالمطمئن:" اطمأنا فالمطر لن يفاجئكما، فهي مجرد قطرات من الرذاذ"...

 

 لكن زنوبة حذرتني من مغامرة مواصلة السير، فالغيوم تنبؤ بعاصفة وبنزول النو... فأسرعنا العودة، وكان النزول أيسر من الصعود.. وقد حصل ما كان في الحسبان إذ انهمرت مآقي السماء بشدة.. ونحن في غرفة الفندق كنا كمن نجح في الاحتماء من قسوة العاصفة المفاجئة. فقد دمدمت الرياح وكأنها تتوعد الكائنات بالدمار، وهي تطرق الأبواب والشبابيك و تدفعها بعنف... وانقلبت الرياح من صفراء الى حمراء، الى عجاجة حجبت رؤية العالم الخارج عن الغرفة...

 

وحين مرت العاصفة وانقشعت سحب التوتر وسكنت حركة الريح.... خرج بعض الأطفال مستبشرين، يرددون: "رفع العفريت بالسلاسل.... رفع العفريت في السلاسل"....وفي الحال فسرت لي زنوبة، أن سكان القرى والجبال والمدن ايضا، يعتقدون في خروج عفريت من حين لآخر من تحت الصخور، وهو في الأصل ثعبان أسود اللون: يكبر، ويتضخم، ويكسو جسمه الشعر الطويل، ويتحول رأسه الى رأس ديناصور، ويرسل صوتا رهيبا من حين لآخر، ويخرج رأسه من المغارة، وحين يحاول الخروج ليلتهم الناس، تأتي عاصفة "عجاجة" كالتي مرت الآن، وترفعه إلى السماء، وتخلص الناس منه.... وتحجب الرياح القوية والملونة رؤية رفعه الى السماء...

 

ورغم أن ذهني تراوح بين الحيرة والتصديق: إلا أنني استبشرت في قرارة نفسي، لأن سكان الجبل لن يرددوا بعد اليوم حكايات العفريت وهو يطل من إحدى المغاور، ويهدد بالتهام سكان الجبل........

 

وخرجت ثانية لأصور هؤلاء الأطفال المستبشرون برفع العفريت، كما كنت اثبت الكاميرا نحو الحلازين التي تعرت من قوقعتها بعد نزول المطر، وكأنني أجد فيها عمق الصورة في القوة الحيوية الكامنة في الطبيعة...........

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1416 الخميس 27/05/2010)

 

في نصوص اليوم