نصوص أدبية

مــدارج العـودة (5)

يضج الريح ويصدر صوتا رهيبا كأنه ينطلق من أعماق المغاور ويرتق الفضاء ... العاصفة لم تهدأ بعد وشلالات المطر تتدفق على نافذة الغرفة والطريق خال من المارة .

في زاوية الغرفة بدت زنوبة جاحظة العينين وهي تعبر عن وجع دفين . فالمطر يذكرها دائما، بأنها كأرض بور لا ينفع فيها ماء ، وأنها تتجنب مواجهة المطر، وتعتكف في الغرفة كلما اشتدت العواصف وهي تلمح نفسها في صورة شجرة ميتة، مازالت مغروسة في التربة، ولكنها لا تكتسي بالأوراق ولا تثمر ... يدخل علي شعورها الذي صورته بعمق حالة من الأسى، وتراءت لي صورة جدتي من جديد ..

لم تكن جدتي تخشى الأمطارالغزيرة والرياح العاتية إذا نوديت إلى حالة ولادة أو إنجاد طفل سقيم، فالتوليد يعيد إليها الأمل في الحياة، ويضيء وجهها، فتعود مشعة الملامح وكأنها استخرجت من الأرض ما يكمن في أحشاءها من ثمرات، وكنت لا أعرف كيف تولد المرأة لكن خيالي كان يرى الجنين في صورة غائمة .. وحين يؤتى إليها بطفل مصفر الوجه كورقة الشجرة في الخريف، عيناه جاحظتان و بطنه منتفخة كنت اتأمل يدها وهي تتسلل إلى جسد الصغير الذي أتت به أمه جزعة . تغمره جدتي بالمحبة، تمسكه بلطف لتشعر الناظر إليها وكأنها تتعبد حين تشفي الأماكن الملتهبة في الجسد العليل .

 في بعض الأحيان تكون المرأة الشاحبة لا تملك مليما فتأتي بقارورة حليب فتعيدها لها جدتي، وهي تقول لها: "اعطها لطفلك" . أشعر أن الوازع الروحي ما يجعلها تتسامح وتعطي، تغفر وتضحي دون كلل، بل تنهض كل صباح مدفوعة لتعطي أكثر . وأثناء طفولتي كنت أتمنى أن تزرع جدتي الورود في حديقتها عوض البقول والخضر ككل سكان القرية الذين لم يزرعوا الورود، لكي تعطي لكل مريض وردة لينشرح أكثر ويرى قلبها الأخضر .

سألتها مرة: كيف تجازفين بالخروج في هذا الجو الماطر؟ فقالت بعفوية بليغة: "لأنني حين أبعث الأمل لدى امرأة عاقر كاد زوجها أن يطلقها من بين النساء وتتشكل بذرة الحياة في رحمها أكون كهذه الأمطار التي تسقي الأرض الموات "، وتوعز إلي أن ما تقوم به ليس بالعمل الشاق والمضني سيما وأنها لا تشعر المرضى بالشفقة .

أرى جدتي وقد رحلت بعيدا إلى المجهول، إلى الموت الذي لا يرحم، إلى أحياء العدم المميتة .. هكذا رحلت دون أن تتم حياكة لوحة الحرية، هربت وهو تولي وجهها عن إتمام تفاصيل الحكاية، حكاية المكان التي روتها لي باختلاجات النبض وأوزان كلامها المسجع . لقدر رحلت وحلقت بعيدا لتحط على ضفاف النور إلى حيث لا يمكنها أن تنجد زنوبة، أو تواسيها، أو تخفف وجعها . انغرست القشعريرة بين ضلوعي واستاصلت مخالب قلقي . وحين انتشيت لمحتها كحمامة مهاجرة غاصت في أمواج المطر، وبت أترقب شمسها بعدما تغطى الأفق بالسواد .

 أتامل الطقس الماطر من بلور النافذة، الطريق خال، ولكن ثمة فتاة في مقتبل العمر، تحمل حقيبة ملابس، تواجه العاصفة وهي ترتجف . رمقتها من بلور النافذة ... خمنت أنها ستصاب بنزلة برد شديدة . ثبتت الكاميرا نحوها وقد انبرت في ذاكرتي مقولة " رسكن " عن المصورالعظيم القادر على ردع انفعاله:" إذا مات رجل عند قدميك فليست مهمتك أن تساعده بل أن تلحظ اللون الذي يعلو شفتيه، وإذا كانت امرأة تحتضن دمارها أمام ناظريك فليست مهمتك أن تنقذها بل أن ترصد كيف تطوي ذراعيها " . لكنني سرعان ما تركت الكاميرا، وأسرعت نحو الخارج .. ناداني عامل الفندق، غاب عن أنظاري قليلا، ثم عاد وبيده مطرية . تراجعت حرارة صوته وهو يقول: " رغم أنها قديمة ورجالية لكنها ستقوم بوظيفتها وستحميك من المطر" . لم أشأ إحراجه وقبلتها، وشكرته بامتنان .

يصير المطر ملاذا، تحاصرني السحب الداكنة واستحم تحتها، تنزف زخاته كل أشواك القشعريرة وتستأصل هواجسي وتحررني من أوهامي ... ناديت الفتاة التي ابتلت تماما، وأدخلتها الغرفة، أحضرت لها بشكيرا لتجفف جسدها وشعرها، ولحسن الحظ أن لديها في حقيبتها ملابس ارتدتها عوض ثيابها المبتلة .

- كيف تواجهين العاصفة؟ تبدين رمزا للمرأة المناضلة ..

ابتسمت ابتسامة عبثية سوداء مغموسة في الألم، ثم سرعان ما قهقهت وهي تقول:

- الراقصة المناضلة ...

وشرعت تعطس ...

قالت إنها تعودت على مرافقة الطبال والزكار والمزاودي والدخول إلى الديار المتواضعة في الأعراس وغالبا ما تنتهي الحفلات برمي الحجارة والخصومات مما جعلها تصر على استلام نقودها قبل الشروع في الرقص، وعندما تنتهي الحفلات ويفيق أصحاب الحفل من تخميرة الفرحة تجد نفسها في الشارع . ولا أحد يعبأ بها إن فاجأها الظلام أو فاجأتها العاصفة .. فكل الأبواب مقفلة في وجهها وقتها .. ..

 

- يبدو أن المال الذي قبضته هذه المرة ستصرفينه في العلاج من نزلة البرد ..

 - المال الذي قبضته يكفيني للعلاج من نزلة البرد التي أصبت بها ... هكذا هي فلوس الرقص تنفق دائما في المصحة .

طفقت تحدثني عن ذهابها للمصحة الخاصة قبل أسبوعين في المدينة القريبة من الجبل، ولم تبق أكثر من يوم: جوبهت بكثرة التحاليل والفحوصات وصور بالأشعة، تساءلت عن جدوى هذه الفحوصات وعن مصير كميات الدم، بل صارت تنعت الممرضين بمصاصي الدماء، ولم يضق ذرعهم بل كانوا يشرحون لها الجدوى من كل هذه الفحوصات . وعند خروجها سألها أحد الممرضين:

ـ هل ستشعرين بالأسف لأنك ستغادرين المصحة؟

ـ لا هنا رفضت العلاج ... بعدما مصصتم دمي ....

ـ قد تواجهين الناس الذين تركوك في العاصفة، وسيتضاعف قلقك ..

ـ لا أعتقد أن كل ما يهمكم صحتي بل المال ..

العناية الفائقة التي لقيتها من الممرضين أشعرتها أن أحوالها صارت أفضل فهم يتصرفون بمنتهى النبل كأطفال مهذبين لم يدخلوا بعد مستنقع الحياة ولم تتلطخ أرجلهم . لو لبس جميع الممرضين في المستشفيات العامة مناديل الوداعة البيضاء لما شفي جميع المرضى، لكن هيهات فوالدها توفي في المستشفى ولولا امتهانها للرقص لقدرت على تغطية نفقات علاجها . فالجسد الذي يمرض هو الجسد الذي يحيا بالرقص، هذا ما قالته لها مشغلتها التي عملت عندها كخادمة وهي لم تتعد الثالثة عشر . كانت راقصة مشهورة تعيش في حي راق بالضاحية الشمالية للعاصمة علمتها الرقص ناصحة إياها باستبدال العمل كخادمة بامتهان الرقص، فهو يبهج ولا يجهد ويجلب المال والسعادة . وعند عودتها إلى قريتها كسرت تقاليد من لم يوفروا لها لقمة العيش وتركوها تستنزف طاقتها الجسدية في العمل البدني الشاق .

ضغطت على شفتيها وانبلجت في عينيها شعلة حقد كسيول الأمطار الجارفة وهي تواصل: " أعرف أنني دخلت دور هذه الجهة من الباب الخلفي وجعلتني تلك الراقصة أعيش على وتيرة صنعتها لي، وقد أرادت أن تصنع مني شبح امرأة حرة لم تثبت بما فيه الكفاية في العاصفة ، وبقيت الألسن تلوكها فهي لم تنزل إلى صفوف البشر . فالجميع يقر بأنني كنت راقصة في علبة ليلية وأنني فتاة لاهية تريد استمالة الرجال وجلب العيون إلى جسدها . الرجال الذين يراقبون حركات جسدي بدقة وقد ارتسمت على وجوههم ابتسامات ماكرة ".

 

ـ لم عدت إلى قريتك للرقص، ألم تخافي المواجهة مع القرويين؟

ـ بعد موت والدي ومرض أمي لم أعد أخاف من أي مخلوق نتن .

همت بالمغادرة رغم ان المطر لم يكف عن الانهمار ....

- لم تصممين على المغادرة في هذا الطقس الثائر؟

ـ لا، لا عليك لقد تعودت على المشي تحت المطر..

غادرت وهي تمني النفس بزيارة قريبة .....

كانت الكاميرا تسجل مشهد راقصة مكافحة ........

 زنوبة التي بدا عليها الضيق: وهي تتابع كلمات الراقصة بصمت مهتم، سرعان ما شغلت جهاز التسجيل، وطفقت ترقص كالبجعة الوحشية، وقد خلتها مدربة على الرقص بدورها وتحذق آداء رقصات مصممة لفانين ذوي حس عال . كانت ترقص وكأنها تشعر بحالة التجلي وثورة الوجدان . فالرقص كما تحياه طقوس في محراب الروح وعبادة القوة التي تسكن جسدها . إن روحها هي التي ترقص أما جسدها فهو أوتار تحركها روحها .. هي ترقص على ركح أعماقها ولا تبصر إلا بقلبها .. وشعرت كأنني في حلم، فهل يعقل أن تتجلى زنوبة في لحظات؟..

مازالت الموسيقى تنبعث من الجهاز . تعزف لحنا يتجاوب مع أصداء نفسها ، ولم يستطع جسدها التوقف وإلا ستحاصرها العاصفة وستجد جسدها مشدودا إلى الوحل وذلك أبعد شيء تفكر فيه .. كل ما كانت تحياه معجزة الطيران .. وأدركت أن زنوبة تريد ان تجهض على صوت المطر و تتناسى عقم الجسد في هذه الرحلة ... وحين أنهت رقصتها وعادت إلى الأرض عبرت عن رغبتها في أن تصبح راقصة ... فالرقص يبهج ويجلب المال ....

 الكاميرا لم تكف عن تصوير هذه المشاهد، وتسجيل هذه الأحاديث، وشعرت أن زنوبة عالم ضاج، وقد تشغلني حركته الضاجة عن مواصلة عملي ....

وجدت نفسي على الفراش مدثرة بالغطاء أخمن في رقص المرأة الحديثة على أوتار المطر وايقاع الريح ، أو ربما هي " ترقص على طار بوفلس " حين شل تفكيرها، ولم تجد غير جسدها تتمعش منه . أشعر بثقل الثوب القطني وأنا أتأمل زخات المطر تنقر النافذة إلى أن هدأت العاصفة ... عندها تثاءبت زنوبة كقطة تتمرغ على التراب ... منيت النفس بإشراقة الشمس، وإكمال التصوير ........

في نصوص اليوم