نصوص أدبية

مدارج العودة ( 6 )

أما السماء فهي لوحة متحركة وهي تبدو قلقة وسرعان ما تستعيد بهجتها وصفاءها، فلا تستطيع الاحتفاظ عبر هذا الطقس المتبدل إلا بلوحات طبيعية متحركة...

بدت أجواء الغرفة حميمية وفرت لي الهدوء الذي أود تحقيقه، وبلغت حالة قصوى من التركيز الذي لم أبلغه من قبل . فالريح التي كانت تعصف بالأشجار لم تعد تضج بالصور الصاخبة، وشعرت بتفكيري يجد نقطة الارتكاز التي ناشدها . نقطة تلتقط أصداء الروح تسترسل نقاطا لتتخذ أشكالا دائرية تنفتح كما تنفتح الزهرة فجرا، مضمخة بالندى . فهل يبدأ التفكير من هذه النقطة؟ هل يتخذ الصور لتسطير تأملاته؟ هل تصطدم صوره بالمشاهد الممتدة حوله تنعكس عليها تعبيراته . بدا لي أن تفكيري استرسل خارج الغرفة، خارج الطبيعة الساكنة التي كانت تضج من حولي ...

استرسلت زنوبة تغط في النوم العميق وكأنها غائبة عن الوعي .. أكيد أنها تحلم، فهل الحقيقة نومة ثقيلة ؟ هل نكون بشرا دون أن نكون أصحاء؟ لم أعتقد لحظة واحدة أن البشر متزنون وناضجون مهما ادعوا ذلك ومهما كانت حكمتهم . حين ينام الواحد يبدو كالطفل الصغير الذي لا يمكنه أن يعيش دون عناية أو حنان، إذ تحركه الابتسامة والكلمات الرقيقة وينساب معها ....

تسمر تفكيري في لفافة ورقية سقطت من أدباش الراقصة على ما يبدو في بيت الاستحمام ، باللفافة صورة لفتاتين يافعتين ... بدت بالصورة فتاتان نظيرتان . الأولى ترتدي ملابس مكشوفة والثانية بدا الاحتشام على فستانها الطويل . عادت كلمات جدتي تقرع أذني ايام الطفولة: - " إياك أن تلبسي ثوبا قصيرا في القرية، وإلا ستنعتين بقلة الحياء . الملابس المحتشمة ترمز للعفة، فسكان القرى محافظون " . تساءلت بيني وبين نفسي: ماذا تضيف الملابس للإنسان؟ إنها كالمساحيق تحجب حقيقته وتدنس ذاته، هل تضم الملابس الفضفاضة أجسادا طاهرة دون غيرها؟ ألم تقل جدتي إن الناس هنا يرون في الملابس الجريئة إبراز المفاتن وكشف مواطن الإغراء لأن صاحبتها غير عفيفة؟

تاه خيالي في تفاصيل الصورة فتصورت الفتاة المحتشمة عروسا وقد خضب الحياء وجنتيها . ولكن بين طيات الصورة لم أشعر بمتعة الاكتشاف بل تبلدت عاطفتي، فقد بدا الشحوب في نظرة العينين، في حين أن الفتاة الثانية هربت بنظراتي بعيدا إلى المجهول، إلى دروب غامضة . كان المعنى في عينيها منفلتا وكلما اقترب منه الإدراك ارتد بعيدا . فصرت كمن يلاحق طيفا بعيدا . وتراجعت كقرص الشمس وأشعرتني بضياع بدايتي .

تفحصت الصورة ، وضعتها على إطار بلور النافذة فانعكس عليها الضياء . فتباعدت ألوانها وتدرجت . وكشفت لي الفتاة المتمردة ثنايا دهشتها وخبايا الحقيقة كذرات التراب المتلاحمة، وحملتني إلى الحلم .... وإلى الكتابة .....

مع الصورة ورقة رسمت عليها الطلاسم والسهام، كانت الفتاة المستهدفة في هذه الورقة التي كتبت على ما يبدو بيد مشعوذ تدعى هاجر ابنة فريدة، وكانت السهام تتجه خارج الدائرة، وتوحي لمن يتتبع الخطوط أنها علامة إيذاء للفتاة ...

 لم أشأ أن أكشف الصور والورقة لزنوبة، لكنني اتجهت الى عامل الاستقبال، وأخبرته أنني وجدت صورة لفتاتين، ورجوته أن يدلني عليهما لأعيدها إليهما ... نظر الى الصورة باكتراث، وتمتم أن صاحبتها الفتاة المحتشمة، وهي فتاة يتيمة تعيش على مقربة من الفندق في حوش جدها القديم الكامن بين الأشجار في الغابة المطلة على البحر ....أما الفتاة الثانية فهي على ما يبدو من المدينة، فقد كانت تعمل خادمة في العاصمة، والأكيد أنها التقطت الصورة هناك .......

لسعتني أشعة الشمس الحارقة في هذا المكان وكأن المطر لم ينزل بغزارة البارحة . غيبتني الحرارة المرتفعة على بساط المعنى وهي تستحيل إلى أظافر تخمش الجبل تاركة الجروح تنزف من أغواره . يتلمس الجبل شروخ أخاديده ، أما البحر ذي الألوان الزرقاء المبتهجة فلم يكن عابئا بأوجاع الجبل .

أنزع حذائي وأشمر سروالي إلى الركبتين . تزل رجلي، أتعثر على الصخور، وتخدشني الأشواك، فتكسو الجروح رجلي، أنهض و أنزل إلى الأسفل بحذر ويقظة حيث يتمايل البحر، تشبثت بصخرة مدببة لأثبت قدمي على الحجارة الزلقة، أكاد أسقط وأنا أجلس على صخرة تفترش البحر كغيرها من الصخور المتناثرة على الشاطئ الصخري لألقي رجلي في مياه البحر المالحة .

تلامس أصابعي ماء البحر، أسكبه على يدي وأدلك به ساقي، عله يترك على جسدي صبغته الداكنة . ألقي يدي في البحر وأجلب أحجارا صغيرة مختلفة الشكل واللون وأضعها جانبا على الشاطئ . وكأنني مغرمة بفن تشكيل اللوحات بالحجارة وأنا أتتفحصها وأقوم بفرزها حسب الحجم والشكل واللون، لكنني سرعان ما أعيدها إلى البحر، لعلني لم أجد حجارة تروق لي .. أصابعي لم تكف عن الحركة، أمسك بالأعشاب النابتة بين صخور الشاطئ وأتأمل زهرات البحر البيضاء النابتة بين الأعشاب ـ تتفتح لتتحول إلى أصداف تقدف ما بجوفها لتلقيها الأمواج على الشاطئ فتيبس تاركة صوت الأعماق يتردد كرجع الصدى .

 

المشهد مؤثر بالنسبة إلى عيني، لكني لا أحتاج إلى كاميرا بل إلى ورقة وقلم . تحتفظ الورقة البيضاء بنصاعتها في خيالي، أما الأحرف فقد تلاشت كما الأحجار المقذوفة في البحر . فلا أنا عابئة بتوشية لوحة فسيفسائية ما، ولا أنا قادرة على اختراق حاجز المعنى الغامض . ففي القاع حروف متفرقة كالحجارة المفككة المبعثرة . ربما زحف البحر على البناءات المتراصة ومحى ملامح السنين الخوالي . وجثمت الأمواج على المباني فاختفت قلاع الشموخ كما يختفي المعنى الغامض، وكما تختفي رجلي في ماء البحر الذي يخفي سره الغامض . بدا لي خاطر الإفلات من أسر شاطئ البحر الغامض الذي غيب في أعماقه جزءا كبيرا من آثار السنين الخوالي وزحف على اليابسة . ثيت الكاميرا وطفقت أصور المشهد .

غيرت المكان، وأضحى الموقع الذي أجلس فيه مغطى بالأشجار الغابية . . بقيت أرمق الحوش المنفرد عن بعد، وأتفحصه بدقة وكانت نظرات عينيي بعيدة المدى . توقف الحلم بالجمال الذي بدأ ينساب إلى مساماتي منذ قليل وبقيت في ذهني صورة عامل الاسقبال صاحب النظرات المتفحصة . متسائلة: ما سر تلك النظرة المهتمة للصورة؟

 مر وقت طويل ليفتح باب الحوش ... انبرت الفتاة المحتشمة بملامح طفولية طاعنة في البراءة، عبث نسيم البحر بشعرها الحريري المنسدل على كتفيها و طفقت تربت على قطة حملتها بين ذراعيها وتداعبها بنعومة وتتأمل البحر بخشوع وسرعان ما غمرها فيض من البكاء الهستيري . لم أكن قادرة على تبين ملامحها المكتئبة حين كنت أرقبها من الخلف، لكن بكاءها المتقطع جعلني أستشعر الأسى وأخمن أنها عاشت حادثا رهيبا ...

في تلك الأثناء وفي الطرف الآخر من الشاطئ البحري قدم شاب وسيم . أوقف سيارته ثم لمحته يسيرنحو البحر . عندما اقترب لم يعد ينبركطيف . أدرك صخرة رابضة على الشاطئ الصخري، جلس عليها لكنه سرعان ما افترش الرمال وطوى قدميه وكأنه لم يعد قادرا على الحركة .

يبدو غريبا والأغرب منه تلك النظرة ...........

 تستكين الفتاة في صمت فينبري ذلك الشاب آت من الجهة الشرقية، يركض بين الصخور كقط مدرب وحين أدرك الفتاة من الخلف رأيت في جسده المتوثب وعينيه الداكنتين صورة وحش استيقظ للتو . يجذبها فلم يبد القلق أو الفزع على وجهها، وكأنها لم تستيقط من لحظات الذهول الخاصة . تتبعه، يواصلان المشي إلى أن ينتحيا مكانا قصيا . لمحت الفتاة تهم به وهو يهم بها . يبدوان للناظر ليهما كعاشقين مهوسين بالعشق، ولكن عندما هم بدفعها إليه بآخر ما تبقى له من قوة، اكتشفت وجودي في ذلك المكان والكاميرا تلتقط ما يحدث . تدفعه وتفر هاربة متسلقة الصخور بسرعة فائقة كأنها مدربة على الصعود أكثر من تدربها على النزول . تطأ الاسفلت حيث الطريق المعبد، تطل من السياج الحديدي، تركض ... تطلق ساقيها للريح إلى أن تغيب عن الأنظار، أما هوفلم يقو على اللحاق بها فقد سلك طريق العودة من الجهة الشرقية متعثر الخطى .

 سلكت طريق العودة ... عدت إلى الفندق لم اجد زنوبة بالغرفة . قمت بتحويل صور الشريط التي التقطتهاعلى جهاز الكمبيوتر وحولتها نحو بريدي الالكتروني الخاص، ثم مسحتها من الجهاز و فسخت صور الشريط، وابتسمت لصورتي التي واجهتني في المرآة ....فأول درس يتعلمه المصور هو كيفية حماية صوره ..

عادت زنوبة للغرفة بعد أكثر من ساعة من عودتي للفندق، سألتها عن المكان التي غابت فيه كل هذا الوقت، فأردفت أن الراقصة عادت هذا الصباح، لتستفسر عن أوراق تركتها، وحين أكدت لها أننا لم نعثر على أي ورقة، خمنت أنها ضيعتها في مكان آخر، ثم اصطحبتها في جولة حول الفندق ...

سألتني زنوبة: ماذا ستفعلين بالشريط؟

راودتني تخمينات رهيبة، فأجبتها:

- هو شريط للمتعة، ودافع المجيء إلى هنا هو لتقضية العطلة في مكان هادئ ... بعد الكوابيس التي لاحقتني أثناء مشاهداتي لصور الحرب على غزة ...

- المكان هنا يوحي بنقيض الهدوء، فأصوات الخنازير والذئاب ليلا، تجعلني أنتفض من الخوف، ولا أنام إلا فجرا ...

- لا تبقى من الصور والأصوات الا الحكاية، ولا يبقى من المكان الا تفاصيل الحكاية ...

- هل تنوين الكتابة عن المكان أيضا ..........؟

- للأسف أتلفت كل الصور التي التقطتها عن هذا المكان، حين ضغطت سهوا على أحد أزرار الكاميرا فمسحت كل الصور ....

- هل ستعيدين التصوير من جديد؟

- لا أعرف ......

دهشت زنوبة، ومن فرط الدهشة، فتحت يدها وسقطت منها بعض الأوراق النقدية ...

اتسعت حدقا عيني، وتساءلت:

- من أين لك هذا المال؟

تلعثمت، قالت انها وجدته في حديقة الفندق، اشتغل ذهني، وتاه في تخمينات كثيرة، كان حدسي قد أوحى لي بها ...

في نصوص اليوم