نصوص أدبية

مــدارج العــودة (7)

تعود بي إلى أزمنة تفوح منها رائحة الخرافة . رائحة زنخة تزحف على روحي فتبدد أريج العذوبة والصفاء . تتهاوى روحي وهي تختنق بحمى كتل الدخان الملوثة .

لم يبد عليه الانفعال . رأيت ابتسامة باردة كبيرة تنبسط على وجهه وهو يدعو لي بالهداية وكأنني عاقة ظلت طريق النور . أما يداه فقد كان يضرب بهما مقود السيارة بتشنج . أشحت بوجهي إلى الطرق الشبه خالية والتي كاد الهدوء يحولها إلى بقاع نائية، ثم صوبت نظري نحو المرآة الجانبية للسيارة لأتظاهر بأنني بصدد تسوية خصلات شعري .. ربما لأتفطن إلى وجهي الشاحب .

نظر لي بثبات و تهاوى على الكرسي فأحسست أنه عاجز على السيطرة على نفسه، بأنه لم يقاوم رغبته في تسكين جراحه كمن يرنو إلى كلمات تحتضنه أو الارتخاء في سيل يمنحه الراحة الأبدية . بحثت عن ملامح وجهه، عن صورة الأمس في ذلك المكان وهو يراود الفتاة المحتشمة، لكن اختفى ذلك المعنى الغامض، وطفقت أبحث عنه كمن يبحث عن ذرة في كثبان من الرمل .

وارتأيت أن البقاء في هذا المكان سيجعلني أسترخي وأنغمس في النوم المكتنز بالأحلام والكوابيس وما أرنو إليه في هذه اللحظات هو أن أطهر ذاكرتي، وأغادر القرية الجبلية وقد لوث دخان حالك أنفاسي، وكنت كمن يبحث عن التحرر من أسر المكان ..

- هل نقوم بجولة لنحكي بهدوء ....

- لا .......

- طيب اصعدي لنحكي أمام الغادي والرائح ......فالموضوع مهم كما تعلمين ...

فتح باب السيارة فصافحته بفتور . جلست وضغطت بأصابعي على الأوراق التي كنت أطويها في حركات دائرية ثم أعدتها إلى استواءها . وأيقنت أن ما يشغلني الآن هو "تحسس الطريق الذي تسلكه الكلاب السائبة" ... وترقبت السفر إلى مكان مجهول أبعد من الحلم .

ترى أي وجهة سأقاد إليها لو قبلت الجولة، ربما كانت السيارة ستتوقف أمام دار كامنة في عمق الدروب الملتوية، قد تكون أشبه بالمستشفى كل ما فيها موشح بالبياض .. كل من فيها سيمتص دمي الذي يسقي شراييني، يقيس درجات ضغط دمي العالية ودقات قلبي الضعيفة ثم يحقنني بمهدئ لأفيق بعد ساعات وأجدني في غرفة تغط في سكون عميق .. وأنظر للساعة المعلقة على الحائط لأكتشف أن الزمن يخدعني، وأن الغيبوبة قد تداهمني وقد تصير حياتي أشبه بإغفاءة . أبعدت عن ذهني هذه التخمينات الرهيبة ...

- أبلغتني صديقتك أنك مسحت المشاهد من الشريط ...

- من؟

- زنوبة، الراقصة ...

- لم تكن قط راقصة .. المرأة حاصلة على الأستاذية في الآداب ..

- إذن هي ترقص على طار بوفلس ...

شيء فظيع أن أكتشف بأنني محاطة بمن تحركه المصلحة ومن تكتنفه العدائية و أن زنوبة قد استحالت إلى ذلك الحارس الذي يسلم اسراري ...لكنني لن أكون ضحية وسأبحث عن الطريقة التي أجد فيها مخرجا .. إنني أرفض أن أرى وجهي في صورة سطحية . على أنني أدرك جيدا عدم تحولي إلى ضحية وأنا أدرك ذلك الخلل في أعماق الغير.

ـ لن تستطيع البقاء معك بعدما قبضت ثمن الوشاية بك لكنني لن أؤذيك بل سأساعدك على التخلص من الأوغاد الخونة .

ـ وشت بي؟ تبدو الكلمة غريبة ..

ـ أعرف أنك صاحبة الحق وأنك قمت بالواجب ولكن الواقع غير يسير، إنه يجب حجب بعض الحقائق ليستمر الجميع في العيش .

- هل تراني في صورة حرباء تؤذي الآخرين؟ التقط المشهد صدفة، ولكن كل المشاهد مسحت من الشريط .....

- طيب، شكرا ... تبدين طيبة ... ولا أتوقع منك الأذى ... لكن احذري من زنوبة ...

في المرآة الجانبية المشققة تراءى لي وجهي مقسما وقد غطت النظارات السوداء نصفه . أما ذهني فقد كان منشغلا بالشريط، فلا وقت للعواطف الآن ويبدو أن انفعالي لن يكون صائبا . إن ما يجمعني مع هذه المنطقة وأهلها الصور فقط . ولا فائدة ترجى من تصعيد الأحداث .

كتمت غيظي وأقفلت باب السيارة ورائي بهدوء .. وقطعت الطريق الزلقة نحو الفندق .

عسرعلي التركيز، فطفقت أكتب بعض الخواطر علني أجد منفذا ما وأرسم لغزا بإفلاتتي من هذه الورطة. إن الكتابة هي التي تجعلني لا أبقى لغزا أمام نفسي وأمام الآخرين، إنني أسعد في الواقع حين أجعل من نفسي خيوطا متشابكة وأزداد غموضا وتعقيدا حتى إن كان ذلك أمام نفسي . فأنا لا أخط أفكاري على ورقة مكشوفة و فهم الآخرون لعالمي هو نقطة النهاية .. إنه عالمي الخاص، عالم من الصمت لا يبرز إلا في مرآة الكتابة .. عالم ينطوي داخلي بكل أبعاده الخفية .. لذلك اختار الافلات من من يلاحقني ليتلصص على عالمي الكامن في صميم عملي، ولكني لا أقاوم إغراء الكتابة وهي تستدرجني لتحول معاني الكتمان إلى أسطر البوح . لن أنام هذه الليلة سأنتظر خيوط الشمس الأولى ولن أجعل ذهني يخترع أحداثا داخل أشكال هندسية وحين أنهض أدرك كم هي سراب أحلامي .

 دق الباب وتلاه صوت زنوبة التي كانت في جلسة مع مجموعة من الشعراء يقيمون سهرة شعرية في الفندق تعاطفا مع الفلسطينيين في غزة . ألقيت مجموعة الأوراق على الطاولة ولم أتوقع أن تلتحق بي بمثل هذه السرعة . فتحت الباب فلم أقرأ على وجهها تعابير جديدة عدا علامات الاستغراب التي تبديها علها تعثر على وجهي الحقيقي . اندفعت الريح صاخبة بعثرت الأوراق فانحنيت لأجمعها ثم أغلقت الشباك بإحكام .امتدت يدها إلى الأوراق تتقلبها، فلم أعد أفكر في شيء عدا أفكارآتية من قراءاتي العديدة تجعل من السرك "أمر غريزي وغاية تجلب السرور" . افتككت منها الأوراق بتوتر ...

 لمحتني شاردة الذهن وكأنني أبحث عن أحداث لقصة جديدة لم أروها لي بعد . اقتربت مني وساءلني بحيرة: هل أنت متعبة؟ يبدو وجهك شاحبا ومنهكا . لم استبدلت التصوير بالكتابة؟ فلتجربي الراحة ..

كل ما أعيه الآن أنني أرى زنوبة تتهاوى وأراها كسيرانة تهوى على صخرة مدببة بعدما أطلق عليها النار فتكسرت أجنحتها وصرخت منتفضة فلم يبق منها إلا هذا الوجه الأنثوي الآدمي ينطوي على آلامه . رأيتها كحجرة تتدحرج من أعلى الجبل وتسقط على السفح .

- وجودك في هذا المكان خطر عليك ...

- خطر علي؟ أم عليك؟

- لا هو خطر عليك ... من يبيع أصدقائه بدينارات ... لا يؤتمن ...

لم تمنع نفسها من البكاء وأنا أوجه لها نظراتي اللاذعة ...ولكنه البكاء الذي لا تذرفه العين يل يتحول إلى عبرة تخنق الأنفاس . لكن حنجرتها كانت تتمرد عليها إلى أن سمع بكائها المتقطع .

جهزت حقيبتي الصغيرة وبها الكاميرا ومجموعة الأشرطة، وأعلمت عون الاستقبال بأننا لن نقضي الليلة في الفندق ... فابتسم بمكر. لكني قدت السيارة في اتجاه العاصمة على يقيني بأنني أقوم بمخاطرة وأنا أجازف بالسياقة مساء في هذه المنطقة الجبلية المتشعبة . وكان علي أن أتوخى الحذر ...

شعرت بأن الناس بعيدون عني بل أنا بعيدة عنهم . أسير في طريق جبلي ملتو ينفذ من جوف الجبل . وأدركت أنني إنسانة أخرى في هذه اللحظات وأنا أقود السيارة بتأن . وأن ذلك الرجل المتربص بزنوبة قد أخذ مني الكثير في لحظات: جهدي وهدوء أعصابي ...

من قال إن العاصفة التي هبت فجأة ستمر بسرعة؟ لا أريد أن أسأل نفسي عن الوجهة في هذا الليل كي لا أهول الأمور على زنوبة، وأبديت من الحلم والهدوء ما يكفي رغم انشغالي طيلة الطريق بملامح ذلك الوجه المتجهم الذي يحيك مآمرة لا أعرف تفاصيلها وهو ينفث حقده في لفافات السجائر . كنت أحلم بتصوير شريط متقن والانغماس في العمل الجاد . ولكن حماستي وبراءتي لم يكونا سوى صور رنانة، وفهمت أن ما يعوز زنوبة التجربة . وتقتصي التجربة أن لا تناقش سراديب الحدث، وأن لا تنجرف وراء الطمع .

قادتني خطوط قلقي إلى طريق قريتي، لكنني سرعان ما غيرت الاتجاه ، ربما لأنني عدت من تلك القرية الجبلية وقد لوث دخان حالك أنفاسي، وكنت كمن يبحث عن التحرر من أسر المكان .. أو ربما لأنني خفت على زنوبة، وقد ينقل خبر تعرضها إلى الأذى إلى عائلتها، وقد أكون المسؤولة ..

تنفست زنوبة الصعداء حين غيرت الطريق، وأخبرتها أنها ستعود إلى القرية في الغد ، وأنني سأعود للجبل وأكمل عملي هناك، وآتي بأدباشي ........

- الصباح رباح كما يقال، ودخولنا للقرية في وقت متأخر سيربك الجميع ..

 بين أسوار منزل العائلة شعرت أنني ما زلت أعيش بين أسوار أحرفي التي تفوح منها روائح الحنين وتنهمر منها أمطار العشق . وتناهى إلي صوت تلك الطفلة تغني مساء مع العصافير العائدة الى أوكارها أغنيات الرحيل ... ثم رأيتها تسبقني نحو الباب لتفتحه ، فهي كعادتها مازلت تحن إلى فتح مغاليق الحروف لتنفذ بي إلى معنى الحرية الممتد ... وأنا بدوري مازلت أستجيب إلى إغراء المعنى القادم من وراء الحروف ومن قاع الجبال . و مازالت همسات الطفلة النورانية تغويني وتعصف بوجداني فانبعث من بين الحروف وأحطم أصفاد الهواجس وأشباح القلق ... تركض الطفلة، تتعثر ، لكنها تنهض الآن وتجرب المشي من جديد كطفل يرنو إلى خطواته الأولى ويمحو ظل أمانيه وشلل رؤاه ... إنها تحررني الآن من أصنام الحروف المقدسة ...

 وحين تلبس الطفلة أجنحتها وتطير ...يلمع في عينيها نور غامض . لكنه يحلق بالنفس في أغوار المجاهل الساحرة . كان لتحليقها في سماء الحلم سيل من القوة غمر كل أعماقي، فاستحال إلى مرآة تعكس ما بداخلي من رؤى . انبلجت وسطعت في سماء الألوان . فصار لحلمي مساحة زرقاء تحلق في عوالم الخيال والحرية .. يباغتني إطار الحرية في صورة لا تلتقطها الكاميرا يحفزني لرسم صورة باطنية . كم انا بحاجة لرسم لوحة جميلة في إطار حالم كي أفجر حلمي في صورة طفلة يلمع في عينيها النور الغامض . و يحلق بالنفس في أغوار المجاهل الساحرة . .

في نصوص اليوم