نصوص أدبية

مـدارج العـودة (8)

 القريبة من حوش صاحبة الصورة . إذ مدت لي الأشجار اليافعة أوراقها وبدت كالأم العطوف .. جلست تحت شجرة وارفة الظلال فداعبتني نسماتها كما تداعب الأم إبنها . شعرت أنني دخلت مكانا آمنا . أطلت الفتاة المحتشمة كعادتها، لكنها سرعان ما غلقت الباب، الذي فتح من جديد، وخرج شاب وبيده ملف ... حين مرت خطواته بدت لي الأقدام ثقيلة كالجذوع المشدودة إلى الأرض شدا .. نظرت إلى الوجه . وكان غامضا وكأنه لوحة لطقس خريفي، لمعت العينان بنور غريب كزوارق مبحرة في الأحلام ولكن الرياح التي ظلت تعبث بها لم تمنعها من التجديف لتطأ مرفأ السكون .

 - أشعر بالذهول لتأملك بزوغ الشمس . ترى أي كابوس غريب قادك إلى هذه الغابة؟ هل تريدين أن تبددي بعض الصور؟

باغتتني ابتسامة وأنا اتصوره كرسام مجنون، أو كشخص اقتحم شرفة حلمي وأعلن عن وجوده بقوة . بدا وجهه الغامض يقترب، كأنه يلح علي لكي أفكك رموزه وأحل أسرار كآبته، لكن تسمرت قدماه وتحجرت الكلمات بين شفتيه، وهو يهم بأن يعرفني على نفسه، ويروي لي حكايته ... راودني الفضول ليتحدث ذلك الشخص الغامض الذي خرج من حوش صاحبة الصورة .. لأعرف سر حكايته وقد استحال إلى بداية على دفاتر الصباح وشمس تشع على خواطري ... قال إنه زوج المرأة اليافعة التي صورتها بالكاميرا مع عشيقها ... وأن لا قانون في العالم يمنع الشخص من التصوير في مكان طبيعي خارجي إلا اذا كان المكان محظورا ... ولكن لأسباب إنسانية، طلب عدم كشف الصورة ...

- لقد بدات ألمع شعريا، ولقبتني الصحافة بشاعر الجبل، وأي تسريب للصورة قد يؤثر على حلمي ......

- حلمك أن تعرف أن لزوجتك عشيقا ......

- انا شيوعي ، والمرأة هي ملك لمن تريد، وقد تزوجتها لأسباب مادية ...

- هل هي غنية؟؟؟؟

- لا، لا، حكايتي طويلة وحكايتها أطول، أحكي لك وأنت تقررين .....وأود لو تستمعي الى الحكايا جيدا ....

 كل الناس هنا كانوا يشفقون عليها لأنها صدمت صدمة قوضت حياتها . كان والدها يشتغل بالحضائر ولكنه تعرض إلى حادث فأضحى شبه مقعد وفقد القدرة على الحركة فانقطع عن العمل واضطرت والدتها للعمل في المزارع: تحمر البطاطا، وتجمع الفلفل والطماطم والجلبان لتوفر المال الذي يعيل العائلة . ولكن تعكر مزاج والدها ، وأصبح يوصي ابنتها الوحيدة خيرة بأن تلازم أمها وحرمها من مواصلة دراستها في المعهد الثانوي . فقد أصبح يشك في سيرتها فيتقبلها بالشتم كلما عادت من الضيعة متعبة، ويقول لها بأنه في غنى عن عملها، في المقابل تلقت زوجته تلك المعاملة القاسية بالصبر، وكلما سألتها خيرة عن سبب انقلابه من حال إلى أخرى تمسح على شعرها وتتمنى له الشفاء، على ذلك لم تتقلص حدته على مر الأيام إلى أن كانت الفاجعة، انتهى به الشك القاتل إلى طعنها بالسكين طعنات متلاحقة وهي على فراش النوم .. ماتت الزوجة وأدخل هو إلى مستشفى الأمراض العقلية، وصدمت خيرة وانتقلت للعيش مع جدها وجدتها للأم تؤانسهما ويؤانساها ...

في حوش جدها بدا عودها يشتد وبدا الرجال يرمقونها بنظرات ملتهبة يبدو أنها أخافتها فانصرفت إلى الغابة والشاطئ الصخري شاردة تتأمل الكائنات الطبيعية إلى أن يداهمها الليل ويتحرش بها بعض الشباب فتلتحق بها جدتها وبيدها عصا غليظة . تنهال عليها ضربا فيتعالى صراخها الذي ألفته الآذان، ولم تهدأ هذه الصرخات إلا حين أخذ الرحمان عبده بعدما قضت جدتها . لكن خيرة لم تهنأ لموت جدتها القاسية بل اضطربت وكأنها تستكنه تفاصيل أخرى للموت والسفر إلى عالم غريب وبدا عليها الذهول وطفقت تتامل الليل في هذا الحوش عبر الظلام الذي يداهم النافذة ويجثم عليها كالكابوس، و لم يترفق بها جدها رغم أنها تعتني به وبالحوش ...

حين كان يتحدث عنها بدا وكأنه يستعير صورا أدبية وهو يتوغل في نفسها، . فهي تواجه أحزانها كلما تراءى لها شبح والدتها، فتتدفق الدموع على وجهها الغض وتذكرها بيوم فراقها الغارق في البؤس والموغل في الكآبة، وتندهش لموت جدتها الذي غابت فيه الشمس وغطت الأفق سحابة سوداء، في ذلك اليوم انتابتها قشعريرة وعادت مسرعة من الشاطئ لتصفعها صورة الموت من جديد ..

 

 حكاية خيرة لم تتوقف عند هذا الحد بل أخبرني أن ذلك الثري في هذه المنطقة أعجب بها ولكنه لم يكن يريد الزواج منها، فوالده يرفض هذه الزيجة فهو من كبار الفلاحين وصاحب مصانع كل المواد الغذائية في هذه الجهة .

ـ يبدو أن العائلات الكبيرة تسير حياتها بطرق متحجرة .

ـ إن الشرف يفرض على العائلة العريقة أن تناسب عائلة مثلها وإلا توصف بنعوت مشينة .

 ـ وماذا حصل بعد ذلك؟

ـ بعدما اغتصبت من طرفه كادت تشل، لازمت الفراش وصارت تهذي ... وتكتب بعض الخربشات ...

ـ وكم بقيت على تلك الحال؟

 لم تدم نومتها طويلا وكأن طاقة انفجرت في أعماقها وأحدثت ثغرة تنفذ منها إلى القاع . كان ذلك قبل وفاة جدها . تفطن جدها إلى عالم الكتابة الذي صارت تنسجه فصار ينعت كتابتها بالجنون وفعل الكتابة بالفجور، ولا يتوانى على ضربها كلما لعنت القدر ونفت عدالة السماء في ما تخط وهي تقرأ ما تكتبه بصوت عال. ولا يتوانى على تقييدها وضربها، تصرخ وتستغيث ولكن لا أحد يصله صوتها في ذلك المكان المقفر . ينظر لها جدها بشفقة ويردف إنها تمر بسحابة جنون وقد تهذي ثم ستصحو وقد تنسى ما حصل . وعندما مات جدها الذي كتب لها الحوش باسمها، وجد نفسه كإبن عمها أن "اللحم إذا نتن فليس له إلا اماليه " فتزوجها وسكنا في الحوش ..لكنها بقيت تعيش على حطام الصدمة التي عاشتها مع ذلك الشاب الغني الذي رفض أن يتزوجها ...

" لم تكن خيرة تدرك أن حركاتها العفوية تجلب إليها النظر وتفتن القلوب . وإنما كانت تحس بأنها نواة لهذا الكون، هي لا تجهد نفسها في التفكير لأنها لا تعاني من مشاكل المتحضرين وتجهل حالات التعفن . كانت تتجول في الغابة وكنت أتبعها دون أن تتفطن لوجودي حين وطأت مستودع الأغذية . شعرت بخطوات تدوس الأرض بكل ثقل فالتفتت للوراء بحذر كأنها تتوقع خطرا داهما . ارتجفت وتسمرت في مكانها حين لمحت ذلك الرجل بلباسه الأنيق وقد أشعت من عينيه نظرة غريبة عنها . نظرت له بريبة فاجأته ملامحها الفزعة . تركته وهربت مذعورة فلم يلاحقها . التفتت فوجدته يضحك، انبعث من عينيه بريق مغر لكنه لم يقترب منها ولم يؤذها . فبدت على وجهها الشفاف علامات الانجذاب .

 ـ عفوا . لقد سحرتني نظراتك وشدتني رغم أنها لم تقل شيئا ، أنت جميلة كريم الفلاة وقد ذكرتني بمشهد الغزال الهارب من الصياد ويؤسفني أنك ذعرت .

لم تنبس بكلمة فقال: هل تقطنين قريبا؟

ـ أسكن في طرف الجبل ...

 

ـ أعترف أنك أجمل فتاة لمحتها وأشعر بالأسف لأنك تعيشين في هذا المكان الخفي

ابتسمت إذ أعجبها إطراؤه .

ـ بسمتك أعذب من القمر، وما اسمك؟

ـ خيرة ..

ـ أخمن أنك لم تتجاوزي العشرين بعد ...

تنهاهى إليها وقع أقدام الحارس الطيب السالمي الذي كان يتابع ما يجري فبدا الخوف على وجهها ..

ـ اذهب الآن نلتقي عند المغيب ..."

هناك إضافات عرفها من حارس المستودع، حين جلس إليه وقد كان يدخن التكروري قال إنه اغتصبها في مخزن الأغذية وصار يضاجعها هناك . أما هو فقد تزوجها من أجل السكن في الحوش وقبض المال الذي يتكرم به الرجل الثري ...

- تبدو فارغ الروح جملة وتفصيلا مع أنك شاعر ... أمرك غريب ...

- البنية التحتية تصنعنا، نحن أبناء القاع المسحوقين، المنهوكين ... المهم ان نقتات ولا نفكر في قيم الشرف البالية ... الشرف ينتزع من بناتنا ... والطريق الى الخبز مشحون بالعذابات ... فليعطونا ثمن هذا اللحم ... وهذا الشرف المهدور ...

- لست مقتنعة بوجهة نظرك ولكنني أحبذ الاستماع الى حكايتك أيضا ..........

كان طفلا بريئا كبرعم منغلق يعيش في القرية الواقعة وراء الجبل، يخرج كل صباح ويركض بين الوديان باحثا عن رفاقه وحين يجتمعون ينقسمون ويتفرقون، يتسلقون الأشجار باحثين عن بيض اليمام وعن فراخ الطيور المهاجرة . ولما تميل الشمس نحو الجنوب يلتقون ويتقاسمون ما جمعوه . كان يعجل بالعودة إلى أمه يبشرها بما جمعه، فيجدها جالسة على عتبة الباب تترقبه، وحين تلمح قدومه تنهض وتحمل بين ذراعيها ما جلبه ... في إحدى المساءات الحزينة عاد فلم يجد أمه أمام الباب بل سمع صراخا وعويلا وأنينا، استجلى الأمر فقيل له إن أمه ماتت . بهت واستغرب .

 وضحك فلم يكن يعرف الموت . صرخ: أين أمي؟

أجابته عجوز: إنها تنام تحت اللحاف !

ـ لكنها لم تتعود على تغطية رأسها !

اتجه نحوها ليكشف عنها الغطاء، منعنه، وأخرجنه خارج الغرفة .

أضحى كنجم تائه يبحث عن أمه في سماء مظلمة، ويمنى بخيبة حين يعود ولا يجدها، مرت أيام وهوعلى تلك الحال لا يدرك مغزى الذي حصل ويفتش عن سبيل مستحيل رحلت إليه أمه، ولكن خطواته كانت تتعثر بين المنعطفات، فيرجع إلى الحوش مقهورا منكسر الخاطر . تعاقبت الفصول، وأطل الربيع بوجهه المبتهج . اخضرت البراعم وتفتحت شقائق النعمان وعادت الطيور المهاجرة إلى أعشاشها . أفاق من الصدمة واتجه كعادته نحو الأشجار يتسلقها . انبسطت أسارير وجهه الصغير بما غنمه وعاد راكضا نحو الدار . لم يجد أمه أمام العتبة بل امرأة خالها للوهلة الأولى هي إذ كانت ترتدي مليتها وتلف شعرها بقرطتها، اقترب منها بحذر فخاب أمله وتراجعت خطواته إلى الوراء .

قالت بصوت غليظ: لم تهرب مني؟

تأمل ملامح وجهها فشعر بالذعر وتوقع الأذى .

قالت: اعطني ما جمعت؟

ألقى ما جلبه أرضا، فتكسر البيض وحاولت الفراخ التحليق . رمقته المرأة بقسوة وتوعدت بضربه . استنجد بوالده لكنه صرخ بصوته الأجش:

 ـ ستتلقى العقاب جراء وقاحتك !

أراد الهروب فاصطدم بجذع شجرة . وهوى أرضا . بدت على وجه أبيه علامات الغضب حين هم بقطع غصن غليظ ليضربه به .

وإثر ذلك الفعل المشهود تعود على الانحناء أمام رغبات زوجة أبيه .. كبر واشتد عوده وتصلب وارتفعت قامته كما كبرت أحلامه فوجد في دراسته الوعود التي تغريه بالمال والجاه .. ظلت زوجة أبيه تلاحقه وتطلب منه تلبية رغباتها .. فلم يكن يمانع بل ينحني أمامها بإجلال .. تناقلت الألسن هذه العلاقة وصار الصغار يقذفونه بالحجارة ... بلغ الخبر أباه فلم يغضب كعادته بل طردهما فولى وجهته نحو العاصمة باحثا عن حلم جديد وعن امرأة لم تبارح خياله . أضحى طالبا في مادة الفلسفة، وبدأت أحلامه تتيبس مع قسوة العيش في المدينة، فكان يبدد وقت فراغه في الذهاب إلى النوادي الشعرية بحثا عن خيالات لم تستأصل من الذاكرة .

 ... حين غادر كنت قد شعرت بأنني لم اتسلل الى عالم الزوجين في ذلك الحوش بعد ولم أعرف خفاياه فاستحال كالحلم يرواد القصة تبحث عن رتق فراغاتها . وجهت نظراتي نحو الحوش وعزمت على دق بابه للتحدث مع صاحبته ...

في نصوص اليوم