نصوص أدبية

مدارج العودة (9)

فتناهى إلى سمعي وقع خطوات تقترب من الباب الحديدي الأزرق وقد بدا كبوابة لقلعة متروكة. فتحت خيرة الباب فبدت لي كطفلة بسيطة الملامح، نظرت إلي ببلاهة سرعان ما استحالت إلى نظرة استغراب، لكنها أزاحت لي الطريق لأعبرالممر الضيق المظلم الأشبه بنفق...

- تفضلي، أدخلي... مرحبا بك....

دخلت غرفة منزوية يبدو أنها لم تفتح منذ مدة فقد غطى السخام الكثيف الخزانة والفراش والتلفزة. لكنها عقبت: "هذه الغرفة لم تفتح منذ أن مات جدي، لكنني فتحتها اليوم لأنظفها، لو كنت على علم بقدومك لأحسنت تنظيفها، لكن لا بأس بإمكانك الاستراحة من عناء المشي في غرفة أخرى "....

الأثاث خشبي قديم، لكن الغرفة نظيفة، جدرانها مطلية بالدهن الغامق الذي يحجب الألوان الباردة ويمنع رؤية أي بقعة ملونة بالعين المجردة، ولكن لا مكان لبقعة سوداء على الجدار مما يدل على أن المرأة اليافعة تحسن التنظيف والعناية بهذا الحوش القديم.

أخرجت الصورة من حقيبتي اليدوية، وسلمتها لها، بحلقت في الصورة، فوجئت بوجودها عندي، أخبرتها أنني عثرت عليها في مكان ما، ودلني عون الاستقبال عليها.....

أدارت وجهها إلى المرآة المعلقة في وسط الحوش، تتأمل وجهها الذي عمقته تعابير الشجن الذي استكانت فيه لتمتد كسيول المطر الجارف في الخريف، تعكس لها صور الحركة التي لا تهدأ، تختلط لديها نقطة البداية بنقطة النهاية وتشعرها أن الامتداد لا حدود له. تنساب دموعها على زجاج النافذة لكن وجهها لم يكن إطارا بلوريا شفافا أو مرآة تعكس صورتها بل ازداد غموضا وتعقيدا. تحيط وجهها بيديها كأنها تحاول أن تطرد ماردا مرعبا...

- أعتذر إن سببت لك الصورة ألما....

ـ هل قال لك زوجي أنني أعاني من بعض الخبل. وأني فتاة معقدة، وتصرفها انتقامي؟

- لا، بل بدا متعاطفا مع ما عانيته في هذه الحياة....

- زوجي لا يسكت أبدا رغم أنني أسقيه "الساكت والسكيتة" في كل شراب..

- ما معنى "الساكت والسكيتة"؟

- نبتة تنبت هنا، تعطى لأي مخلوق ليخرس للأبد... هل أحضر لك قهوة؟؟

- لا شكرا... شربت قهوة منذ قليل....

- لن أضع فيها "الساكت والسكيتة" لا تخافي...

- شكرا... لا تتعبي نفسك....

-...........

- تقولون بهذه الأمور في الجبل....؟

- نقول طبعا، لكن زوجي لم تنفع فيه لا "الساكت والسكيتة" ولا "مخ الضبع"....

- مخ الضبع؟

- وضعته له في الأكل فلم يضبع بعد....

- يبدو أنه مخ الخنزير إذن....

- أقصد أنه مازال "يبيع أباه من أجل المال"...

- واضح، وماذا يعمل زوجك؟

- شاعر تعيس ومراسل صحفي لصحيفة تسخر من الكتاب وتنكل بهم...من يعطي له بعض الدنانير ويطلب منه أن يمسخ أي كان من الكتاب، يقبل الدنانير ويكتب المقال...

جاءت بمجموعة من المقالات، وعقبت: اقرئيها على مهلك في الفندق، لتعرفي من يكون زوجي.....

- هو إبن عمك؟

- ولد عمك كما يقال " يمغضك، يمغضك وما يلوحكش "، ولكنه يريد العودة إلى زوجته الأولى الموجودة في هذه الصورة... لقد أعطيت الصورة للراقصة زهوة ليعزم عليها المدب الذي يقطن قربها، ويجعله ينساها للأبد....

- هل تحبينه؟

- لا... أصلي من أجله، "صلاة التبيب على غار النمالة"...

- لم يخبرني عن زواجه الأول قال إنه تزوجك بعد وفاة جدك...

- بعد وفاة جدي انتقلت للعمل في منزل زوجته كخادمة، وصادف أن ضبطتني معه ف.....

- تعيش في المدينة الآن؟

- لا هي أخت ذلك الرجل الذي صورتني معه...بعد الطلاق عادت للجبل... لتلاحق زوجي من جديد....مازال يراني في صورة حبيبته هذه التي توجد قربي في الصورة، رغم أنها تركته وتزوجت بغيره... ثم أفسد زواجها... وتزوجها....لا أستطيع التخلي عنه لقد أكدت له ذلك أكثر من مرة... لم يعد لي ظلا غيره في هذه الحياة.. هو لحمي ودمي ولن يرميني رمية الكلاب...

دخل علينا في تلك الأثناء. نظر لها بعتاب، رفعت وجهي إليه وقد باغتتي تلك النظرة الغامضة....

قال إنه سيغادر إلى المدينة ليحضر أمسية شعرية وقد يقضي الليلة هناك، وطلب منها بعض المال للتنقل، لكنها قالت إنها لا تملك فلسا. احتقن وجهه وهم بضربها، تدخلت لمنعه، ثم قرضته ما يريد، فقال إنه سيرد المال في الغد حين يقبض ثمن القصيدة التي سيلقيها. وعقبت خيرة " هل أنادي للمزيد من الكلاب لتنهش جسدي مقابل طلباته المادية؟ كل المال الذي أعطيه له ينفقه في شرب الخمرة...."

- وما هي حكايته مع المرأة الغنية؟ وما هو الألم الذي سببته لك؟

طفقت تسترجع وشائج العلاقة التي تربط تلك المرأة بابن عمها أحمد، فقد كان زوجها على الورق ليس إلا، تزوجته حين فشل زواجها بعدما وشى بها أحمد وأعلم زوجها بالعلاقة التي ربطتها مع زميل طالب لها في مدرسة الفنون الجميلة، أعلمه أنها كانت تعيش معه وتسهر معه، وتلهو معه، وأخبره بذلك وهو يتظاهر بتهنئته في ليلة زواجها.. لم يستمر الزواج غير ليلة واحدة. لم تشأ عائلتها تركها مطلقة وأصرت على تزويجها بأي شخص يدرأ الفضيحة ويعترف أنه الفاعل.. لم تكن هاجر تفكر في الزواج من أحمد قط، لكنها عرضت عليه فكرة الزواج الصوري مقابل سكنه في الطابق الأرضي لمنزلها في العاصمة واقتسامها للمصروف الذي يصلها شهريا من العائلة. ارتأى فيه والدها الذي تلقى صفعة إذلال قوية صورة الرجل الحازم القادر على بناء عائلة حين يتخرج، والذكر الغليظ القادر على حمايتها، وزوجها مطمئن البال ولم يكن يدرك بأن زواجهما كان صفقة متبادلة بينهما. بذلك انتقل أحمد من الحي الفوضوي الذي كان يعيش فيه في إحدى الأحزمة الخلفية للعاصمة أين يؤجر غرفة في وكالة شعبية ويعمل نادلا بمقهى في المساء. ويدرس نهارا إلى العاصمة... وأوجد له أخوها وظيفة في صحيفة....

وسرعان ما أجهشت خيرة بالبكاء من جديد، ورفعت كم قميصها وشرحت لي كيفية تعذيبها وحرقها بسجارة من طرف تلك المرأة التي تدعى هاجر.. و ازدادت نبرتها صدقا وهي تباغتني بصور من ذاكرتها القريبة... كان الطقس شتائيا ينزل فيه المطر بغزارة ويلفع فيه البرد الأجساد، أخرجتها وسط الدار لتغسل الأواني والصقيع يلسع جسدها الصغير، يزداد المشهد حدة حين تنهال عليها بالعصا. في الطابق الرابع من عمارة مواجهة للدار ثمة فتاة في مكتبها في الشركة، تتأمل الأمطار المنهارة كالسيل من بلور النافذة حين رأت المشهد، نادت زميلاتها ليصدقن ما ترى، ثم أسرعت إلها، وصرخت في المرأة: "هل ذلك هو العقاب؟، هل نعيش في عصر احترام حقوق والانسان والكرامة؟ هذه الفتاة وغيرها من الخادمات اللاتي يرسلن للعمل في سن غض يتعرضن لاغتصاب كرامتهن...."، دفعتها هاجر الى الشارع وقالت " خذيها معك، لقد استغنيت عنها".... سألتها الموظفة عن سكنها وسبب المعاملة القاسية، فاعلمتها عن مكان إقامتها.... اتصلت بزميلها وهو أصيل المنطقة الجبلية، وقالت له ساخرة:

- " قبل أن تفتح سروالك وتبول على عامل الحراسة الذي ضبطته نائما، أنظر لما تعانيه لابنة جهتك... "، وطفقت تتحدث عن ذلك الزميل الكهل الذي كان يناولنها تقارير الحراس اليومية حول المؤسسات التي يعملون بها، لم تكن له الاحترام يوما، إذ يبدو فظا في معاملة أعوان الحراسة حين يراقبهم ويتفقدهم ليلا، كانت تتسلم منه التقارير بغيظ مكتوم منذ أن قام بحركة قاسية تجاه حارس باغته نائما في جولة تفقدية، ففتح سرواله وبال عليه... ورغم توبيخه من طرف صاحب الشركة فقد احتفظ به كمراقب نظرا لجديته وخبرته وتيقظه... وقد أعادها ذلك الموظف الكهل الى حوشها بالجبال الغابية التي تنتشر عليها اشجار الزقوقو والبندق والفلين..

- لذلك سأنتقم منها على يد أعتى ساحر عزام... ولو اضطررت لبيع هذا الحوش....

بدت لي خيرة صورة من مراقب الشركة... صورة واحدة للألم والانتقام، الصورة لا بد أن تتكرر وهي تسقط من النفس نحو الآخرين.. لو بقيت خيرة في العاصمة لأصبحت جلادا بدورها...تراءت خيرة كامرأة جريحة مثخنة بالجروح إلى أخرى مختلفة تحاول دفعي بكلتا يديها المرتعشتين نحو صخرة ذات نتوءات كثيرة وعلى وجهها ملامح باردة وحاقدة: ها إنك سمعتي حكايتي فلتموتي الآن....

تفحصت ثقبا كبيرا في الجدار الخلفي للحوش، فعلقت نظراتها هناك، وقالت: ما رأيك لو أحضر كرسيين، لنطل من تلك الفجوة على هذه الفجوة الكبيرة التي أرى من خلالها ضياعي، وتيهي....؟

تفرست وجهي برهة واتجهت نحو الغرفة لتحضر الكراسي دون التفاتة. وحين تأملت الخلاء من تلك الفجوة اختلطت علي الامور، لم أع إن كنت أعيش حلما أو واقعا، ما حصل ظل قابعا في العتمة الحاجبة لكل يقين، فلم يبق في مخيلتي سوى صوت البحر يتردد في الخلاء، كذلك الصوت المنبعث من صدفات البحر حين نقربها من آذاننا، تفتح في الخيال اجواء الرهبة المنبعثة من قاع البحر.. طفقت أدخن، وقد باغتتني رغبة في تسجيل صوت خيرة وهي تسرد حكاية فجوة الجدار...

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1417 الجمعة 04/06/2010)

 

في نصوص اليوم