نصوص أدبية

مدارج العودة (10)

 تبدو الشمس كصديقة وفية دائمة المجيء، تقترب منها وتنأى إلى إحساس غامض.. تصرخ في جدتها:

- سألتحق بجدي....

تنظر لها بفزع... نظراتها تنطق ريبة وشفقة، وينبري قلق في العينين المنطفئتين... تتأفف الجدة كمن فقد صبره وغابت ابتسامته المصطنعة، وينبعث صوتها المتحشرج " يزيتش من الدوة عالصباح "، علامات الشفقة لا تتناسب مع ملامح وجهها، عيناها غائرتان.. تغوصان في القاع وتكادان تلتحمان بالخلايا الدماغية لذهن يسقط علامات الجنون على صبية في سن الزهور...

تنعكس الشمس على وجهها وهي تغري بسر الحياة وروعة الوجود... شاهدت أعماقها زاهية كبراءة الطفولة... عبرت عن ابتهاجها بوجودها في الجبل بعد وفاة أمها... في مكان كالحلم، كالشعر يبدد وحشتها وهي تتلاشى في الفضاء الممتد... تريد أن تسكب في روحها أنغام الماء والحياة. وهي تتأمل الطيور المهاجرة التي تحط على أغصان الأشجار السامقة..

انطلقت الى حيث يعمل جدها كمشرف على العمال في ضيعة لفلاح كبير... تجهمت ملامح وجهه، لقد اختفى وجهه المريح، بحثت في نظراته المصوبة نحو الأشجار العالية عن بريق الطمأنينة، لكن نظراته تأبى الانحناء...غاص الوجه المتجهم في لجج السماء وبدا جافا، شديد البأس، فلا يبدو أن جدها يرغب في مجيئها الى هذه الضيعة، ولم يرغب في الحديث معها، وانصب اهتمامه على العمال الذين كانوا بصدد جمع الغلال ووضعها في صناديق بلاستكية، ثم أردف بتوتر:

- " اش قيمك الصباح بكري، جاية باش تسرحي بالماعز؟ فيقي على روحك... راكي كبرت ووليت هاملة..."

هذا جدها الذي ظنت أنها ستستظل به، يفقد وجهه المريح، وينهرها بكلمات لاذعة، جدها الذي خبر التربة الجبلية لم يختبرجمال التربة وأحاسيسها اللينة... اهتدت بنور الجمال الذي بدأ يشع داخلها وهي تتجول في الضيعة وكأنها تود أن تعيد اكتشاف صورة لتعيد رسمها... وهي تستشعر الإحساس بالنشوة لمحت ذلك الشاب الثري، على كتفه بندقية صيد، يصاحبه كلب صيد بفك أسود طويل وعينين ذئبيتين، يراها الكلب فيسرع نحوها نابحا، تصرخ ويصرخ فيه صاحبه ليتوقف... يعود الكلب الى صاحبه، يطأطأ رأسه، يحرك ذيله، ويحيط به....

يتمتم الشاب في سخرية، وهو يمسح على رأس الكلب: "لا تعض زراعة ابليس صديقي..."

نظرت إليه مذعورة، وأسرعت نحو جدها. دخل جدها للكوخ، وأخرج البندقية، شحنها بالعيارات النارية، وأسرع خارج الكوخ، انتابها الفزع وكأنها تفيق على وقع كابوس... أسرعت وراءه، فوجدته يصرخ في الشاب، وقد التف به بعض العمال:

- " تعيش الكلاب في روس المجننة "

وجه بندقيته نحو الكلب، وأرداه قتيلا. في تلك اللحظة، غادر الشاب دن أن ينبس بكلمة، اتجهت نحو جدها تصرخ فيه: " حرام عليك، حرام عليك "، وأطلقت ساقيها للريح....

 في طريق العودة، وعند مرورها من أمام المنزل المهجور، وجدته وافقا، طفق يغازلها، ابتهجت بكلماته المعسولة، وحين هم بضمها إليه اشتغل ذهنها، تراءت لها صورة جدها، يبحث عنها بين الحفر، دفعته بعنف، فارتطم بجذع شجرة، وسقط، نهض وحاول اللحاق بها، لكنها سلكت أقصر الدروب الآهلة بالرعاة، تاركة اياه تائها في المنعجرجات... أدركت أن نشوتها المتدفقة أوشكت على تجريدها من براءتها ليترصدها المجهول، ولم تفق الا حين وجدت نفسها على الفراش وقربها جدتها...

أصرت لها جدتها أن الألسن تناقلت خبر سقوطها فاقدة الوعي في حفرة شاءت الأقدار أنها لم تكن عنيفة، فأصيبت برضوض... لكنها لا تذكر إلا صورة الرعاة وقد تعرضوا بالفؤوس والعصي للشاب حين تناهت إليهم صرخاتها وهو يلاحقها...

تجهم وجه جدها وجدتها، وهما يقيداها لكي تكف عن الخروج وجدها يصرخ: " يعطيها بفضيحة، تعلمت الهملة باش تفرج علينا السراح في الجبل "، وما هي إلا لحطات حتى قيدت في فراش حديدي في الغرفة القذرة المتروكة، وأغلق عليها الباب بالمزلاج الكبير الصدأ، لم تتوسل لهما ليفكا أسرها، بل كانت كمن يبحث عن لجام يوقف حركاتها اللاواعية، ارتخت على الفراش القذر، وانبعث اليها روائح الرطوبة من حولها، وقد أفاق ذهنها من خدره وطرح عليها حيرته بصوت عال... يتقاطع هذا الصوت الداخلي مع حشرجة المزلاج حين دخلت جدتها، باغتتها خيرة وهي تفتح قيودها:

- وينو خالي ما عادش يصيف في تونس...

- خالك كيف العزوزة الي هاززها الواد وهي تقول العام صابة...كل عام يقول باش نروح، وغبر كيف الملحة...

- باين عليه فد من الحوش ومنكم...

- وانت اش ذكرك فيه؟

- أنسيت أنني مسجونة في غرفته، أريد أن أنظفها وأزيل الغبار على الكتب وأعيش فيها...

- لا تعبثي بكتب خالك، فهي مرتبة، ولم يمسها أحد منذ سفره منذ سنوات...

تملس الجدة الطين في فناء الحوش وتصنع الطواجين... لم تبد غريبة عن هذا المكان... جدتها ترعى قطيع صاحب الضيعة، لا تستبدل الملية بأي زي حديث... تقول دائما أن للإنسان حقيقة واحدة، وحين يبدلها يكون كالحمام الذي يبدل مشيته... تغسل جدتها يديها ورجليها بعدما تنتهي من تمليس الطين، وتردف بصوت باش:

- لقد طلب مني جدك أن أذبح ديك أسود اللون كوعدة للولي الصالح عله يبعد عنك الشر ويعيد إليك صوابك...

حملت الديك من عنقه وهو "يعوعش"، تنقض على الديك وتمرر السكين على عنقه.. تتلذذ ذبحه وهي تذبحه بقسوة ثم ترميه في إناء ماء ساخن...

علقت في ذهن خيرة صورة الديك ينزف دماء... شدها لون الدم.. لون البطش، لون قوة شريرة تواجهها.. استكنهت تفاصيله...

- لقد طلب مني جدك أن لا أفتح لك باب الحوش لكي لا تعيدي صنيعك ولا تتسللي خفية إلى مكان لا يعلمه إلا الله... أنت حرة اليوم ولكن داخل الحوش... لا منفذ لك إلا ذلك الثقب الكبير في الحائط، إذا شعرت بالقلق تأملي الخلاء....

صورة الديك المذبوح... كلب يسبح في بركة من الدماء... دم أمها الملطخ في أرضية الغرفة... ما أحوجها لتخط تفاصيل هذا اللون على حروفها النازفة... ماذا لو لم تقيد في غرفة خالها... لتركت اشجانها تذوب بين منعطفات الجبل... اتجهت إلى الحائط حيث تلك الفجوة، قد تكون جدتها على حق، فلا مجال لرؤية تنفذ نحو الخارج غير هذا الجدار...

تركت جدتها تطبخ الكسكسي بلحم الديك وأخذت معها كوب اللبن واتجهت نحو الفجوة، فالفجوة كبيرة ولكنها لا تسع رأسها لتخرجه وتطل على كل الفضاء الخارجي الرؤية محدودة وهي في اتجاه واحد. جلست على كرسي خشبي ممنية نفسها بالنطر الى أجساد وخطوات تمر... مر طيف صاحب الكلب، هل هو شبح أم حقيقة، لم غادر بعد ربع ساعة من قدومه... بقيت تترقبه قرب الجدار الذي أضحى كالقضبان... ولكنه لم يتراء من جديد، فهل ساهمت الوعدة المنذورة باندثاره. لم يكن سوى طيف غازلها في الخلاء، وحين تسللت يداه الى جسدها الغض دفعته وهربت. هل أحبها أم اغتنم فرصة وجودها بمفردها... الحب لا يبدأ من الملامسة بل من الحلم.. هذا يعني أن روحها تتوق إليه... صرفت كل اهتمامها في لحظة المواجهة عند عودته وفي انتقاء الكلمات وترتيبها، ولكنه لم يأت... تسارعت دقات قلبها وغمرتها عبرة مريرة، انتظرت اليوم الموالي فالذي يليه، تلاه أسبوع دون أن يتراءى من جديد... أصبح مجيئه كالحلم يرتق الفراغ، وأضحى وجهه صورة للأمس الغائب وهي تترقب قدومه عبر تلك الفجوة... لم تعد تميز بين ضحكتها وشجنها، أضحت حياتها أشبه بإغماءة، وفقدت كل الأشياء بريقها، وحل محلها الهذيان، مرضت ولزمت الفراش، ولم تشأ النهوض وترقبت السفر إلى مكان مجهول أبعد من الحلم وأجمل من اليقظة، وهمهم جدها " ربي يهدي سرها "...

وفي ليلة معطرة بروائح حشائش الجبل التي تنشر روائحها العبقة، شعرت برغبتها في النهوض. غمرها سيل من الحيوية وشعرت بعودة الحياة الى خلاياها وأعضاها. اتجهت الى الجدار فتراءت النجوم مبتسمة تحيط بالقمر كعقد مزركش وتضيء أغصان الأشجار وترسل ضوءها اللماع على الحوش كهالة نورانية. اهتدت بفتيلها لتتفحص الشخص القادم الذي بات كالطيف. اقترب من الحائط، قالت: كنت أراقب مجيئك الدائم الى هذه الفجوة وألحظ نظرتك، وحين هممت بالتحدث إليك انقطع مجيئك. نظرت له بامتنان وشكرته على هذا المجيء المشهود. مد يده من تلك الفجوة " سأساعدك لكي تنهضي وتنفضي الكرى عن جفونك "، مدت له يدها فتلاشت، ولم تعد تسمع عدا صوت جدها وهو يتوعد " هاي دايخة، اش قيمها من السرير ها الليل، الطفلة ما في عينها بلة وهي تطل عالرايح والجاي من الحيط، من غدوة نسدها ها النقبة المحنونة "..

خيرة محاصرة في بيت جدها تقضي النهار بمفردها، فجدتها تذهب مع جدها للضيعة لتعتني بقطيع الاغنام... والخريف يغري بسيول أمطاره وخيرة تتصالح مع نفسها وهي تنزوي في غرفة خالها وتطالع الكتب بنهم، وفي أمسية تعرت فيها اللغة طفقت تكتب على دفتر خواطرها، وأشرقت شمس الضياء كراية بيضاء تصافح الحلم المعطر وهي تسير في دروب جديدة تنقشها بقلمها..... وحين تتثاءب الأحرف ويتوه المعنى، تكف عن الكتابة، لقد تخلص والدها منها كعبء ثقيل أو صلصال لم يستو بعد وترك لجديها مهمة تليينه ووضعه في قالب... جدها غالبا ما ينعت الكتابة بالفجور، فما الذي تكتبه المرأة وهي ناقصة عقل ودين عدا بعض الخزعبلات... استدمجت مشهدا من قصة طالعتها عن أديبة مطلقة، ينعت زوجها الكتابة بالخطيئة، تداوم الذهاب للحانات، تشكو عذابها للكأس والرواد الذين تعودوا على حكايتها فأصبحت اسطوانة مكررة... وحين طلقت تأزمت وهي تسترجع أطياف الذكريات القاتمة التي لم تعد تفارقها، رغم أن الطلاق قد تم منذ سنوات طويلة....

وهي تنفض الغبار عن الكتب لمحت بابا صغيرا وراء الخزانة، ألقت كل الكتب على السرير وأزاحت الخزانة، التي لم يكن من اليسير ازاحتها، وفتحت الباب الذي أحدث أزيزا عند فتحه.. وجدت نفسها أمام درج خشبي يؤدي الى دهليز راكن في الظلام تنبعث منه روائح خانقة، صبت الوقود في المصباح، واهتدت بضوء المصباح الذي حماها من خوفها ووساوسها... انبلجت ألوان الأمل حين اكتشفت أن الدهليز له سلم ثان يؤدي نحو الباب الخلفي الذي لا يمكن الخروج منه إلا عبر الدهليز إذ تحيط به الجدران المرتفعة............

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1418 السبت 05/06/2010)

 

في نصوص اليوم