نصوص أدبية

الحصــــــــن

لقد اخترت ذلك، فأنا أكره أن أسير في الجانب الذي يوجد فيه الحصن، وهو في هذه الحالة الجانب الأيسر من الطريق عند ذهابي لعملي في نهاية الشارع  بالرغم من أن الكثير يصل إلى هدفه قبلي، وعند عودتي، أجد نفسي في الساعة ذاتها أبطيء من سيري وألتفت إلى الناحية ذاتها وأنتبه إلى إنني كنت أسير على الرصيف ذاته الذي كان رصيفا أيمن وفي الإياب أمسى رصيفا أيسرو في الحالين أكان الرصيف  في لحظته أيمنا أم أيسرا فأنا أتمهل قليلا  لأنظر شمالا في المرة الأولى ويمينا  عند الإياب، لكن الثابت والأكيد، رغم عوامل التغير الجغرافي ، إنني أنظر بريبة مشوبة  بغموض مقيت ووقار صارم إلى أسوار الحصن القابع على شمالي في الذهاب وعلى يميني في الإياب، وعندما أسأل نفسي لماذا ؟ أجد أن الأمر لا يعنيني ما دمت على رصيفي الذي يتحول من اليمين إلى الشمال  بانتظم مع ذهابي وعودتي، لكنه يعنيني بقدر تعلق الأمر بالناس  الذين بدوا مصرين على النظر إلى فوق، لأسوار الحصن المتوجة  بصف طويل من الأسنان الحجرية  التي تشبه أسنان المنشار، الحصن ذاته لا يعنيني، إنما يشدني ويجعلني أتريث في تلك النقطة  التي تقابل الحصن، هو ما يفعله كثير من الناس، إصرارهم على النظر إلى فوق من مواقع أسفل سور الحصن، متلمسين جدران الحصن بأصابعهم وعيونهم معلقة بأسنان السور  دون أن يمتلكوا اللحظة لتفقد سور الحصن من مكان قريب  لذلك فهم لا يرون إلا نهايات السور العالية  والمقرنصة  تندفع من خلالها دفقات الضوء الباهر للسما ء المشمسة .

في الأحوال كلها كان السور حقيقة ماثلة للجميع، لا يمكن إنكارها، هو موجود لا غنى لأحد عن الشعور بوجوده كطوطم كانوا ولا زالوا يرقصون حوله، رقصات متغيرة كل حسب هواه ولكنها رقصات تعني شيئا لحياتهم كما يعني الملح للطعام، الجميع يهمه ذلك إلا القلائل الذين أجبروا على الإستغناء عن ذلك المعنى الذي يشيعه الملح.

لقد كنت من أولئك القلائل الذين لا يعنيهم الحصن إلا بتعلق الأمر بالمجاملة والمراوغة ومسايرة الآخرين، إذ لا مناص من ذلك، فبغير تلك المناورةالتي أمارسها بشأن وجوده وأهمية ذلك، سأتعرض لضرر فادح يقرب من حدود الخسارة، وعلى ذلك لم يكن الأمر ليعنيني إلا بهذا المعنى..، أما الحصن فهو موجود منذ زمن بعيد، لا يستطيع أحد أن ينكر ذلك، لم نكن أنا وأمثالي لنفكر  بما وراء جدران الحصن لكننا عندما تنتابنا الرغبة لفعل ذلك تمنعنا تلك الجدران المتطاولة إلى عنان   السماء وتلك الحشود التي لا تعرف  ما تفعل سوى الإنبهار بسور الحصن الشاهق، يتلذذون بطاقة التخيل التي هي صلتهم الوحيدة بما وراء أسوار الحصن، فنتساقط ككرات صغيرة تتقافز على الرصيف، ليس لي أن أحيد عن درب الحصن فهو طريقي الوحيد إلى عملي حيث يتربع الحصن ببواباته الكبيرة والمتينة والمموهة أحيانا، وفي أحيان كثيرة أنسى هدفي وأقف قبالة جدران الحصن دون أن أقترب كثيرا، فأنا لا أعرف بعد  هل يسمح لي بلمس جدرانه أو إن ذلك ينطوي على خطر ما لكنني عندما رأيت الآخرين يتلمسون جدران الحصن وهم يسيرون كالعميان  ترددت كثيرا، وهكذا هم يدورون حول الحصن وخلال ذلك أسمع لغطا وهمهمات كثيرة، أراهم من الجانب الثاني حيث أقف دائما في نفس النقطة، وحين تأخذني الدهشة ولا أعود أقاوم إغراء الحصن المحرض على عدم تجاهله، وفي اللحظة التي  أهم فيها للإنسياق إلى إغراء الحصن يعبرون إلى ناحيتي وكأنهم قد ملوا وتعبوا من الرقص والنظر إلى فوق، يقتعدون دكات الرصيف، يتكلمون، يثرثرون، يبعثرون مختلف التكهنات والأوهام  عند تلك اللحظة أميل برأسي إلى حيث تستطيع أذني أن تلتقط، تتسمع، تنصت، وكأنني حشرة في حقل تريد أن تميز  الحفيف المألوف لوريقات الشجر  عن الأصوات والإهتزازات الدخيلة والغريبة وعندما أبدأ بتقليب تلك الأفكار وأفاضل بينها، أحصل على النتيجة ذاتها، أفكار مشوشة، خليط أوهام عفن، أماني مكسورة لم تتحقق يوما، تهافت إلى الحضيض، ذلك الحضيض الذي نعرفه جميعا..

قال أحدهم:

-يقال أن وراء الحصن دنيا مختلفة  فمثل تلك الجدران المتطاولة لا بد وإن تخفي وراءها عمالقة من نوع ما  فارعي الطول، مهيبوا الهيئة.

قال الآخر:

-ربما وربما لا يعني ذلك إلا وهما، ربما يبدوا الأمر كذلك لأننا أقزام  قميئوا الأجساد والرؤوس والأفكار، وتخيلنا للعمالقة خلف الحصن هو بعض شطحاتنا الذهنية، لأننا  بالحقيقة صغار حد الضئالة، الضئالة في جانب تصنع الهول والعظمة في الجانب الآخر...!

و عندما وصل المتكلم لجملته الأخيرة، كان لزاما علي أن أتفحص قامتي، قامات هؤلاء الذين يتكلمون، وجدت أنهم لم يكونوا إلا هم،و لم أكن إلا أنا وكل ما حولنا مألوف لحد الملل، في اللحظة ذاتها تحركت هواجس كانت مختفية في أعماقي ورحت أسأل أين الخلل؟، رأيت إن الأمر لا يعدو عن كونه خطأ في مواقع رصد الحصن وتأثير أشعة الشمس المنسدلة فوق الأسوار تعمي البصر وتكسر الرؤية لذلك رحت أتغافل عن النظر إلى فوق حيث السور المقرنص كأسنان المنشار، وعندما فعلت ذلك اقتربت كثيرا من جدار السور، كان هناك ثقب في جدار السور لا يتطلب      بلوغه سوى وضع حجر تحت قدمي، نظرت من خلال الثقب فاختفى السور ووجدت نفسي في الجانب الآخر أحملق فيما لا أسوار له، لم يكن هناك عمالقةو لا أسوار عالية ووجدتني أسير على ذات الطريق لكنني لاحظت أن الرصيف انحنى قليلا نحو فضاء أوسع ولم يكن هناك يمين ولا شمال ولم يعد الحصن موجودا ولم يكن هناك مثرثرون

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1419 الاحد 06/06/2010)

 

 

في نصوص اليوم