نصوص أدبية

مـــدارج العــودة (11)

الأوشام المرسومة على جسد جدتها... الأوشام شروخ حفرتها على روحها، جروح محنطة غير قابلة للفسخ، تحاول محاكاتها عبر القلم، وتضع على جبينها عصابة حمراء، وتلتحق بجماعة الشيطان المتحلقين حول شجرة الصبار، وقد أشعلوا من حولهم النار، والتفوا بأقنعة الظلام، وترقص عارية بعدما تتناول المسكرات والأقراص المهيجة، وعبر الاستماع إلى الايقاعات المسلطة على الفهم في لحظات الغيبوبة تشعر بخزي الانصياع إلى طقوس المقدس، لتعبد المجهول الساكن في داخلها، المجهول دموي وغريزي ومتوحش، لم تعد تحلم بالجمال الذي أفل مع الرومنسيين... كل الكلمات الجميلة رميت في قمامة الماضي....

خضعت حياة خيرة إلى الايحاء لتستبدل النشوة الساذجة بالخمرة والجسد الحالم برغبات الجسد المتأججة... بهذا المعنى ترى الحياة أسئلة مترعة... في ملامحها ما يغري بتدنيس المقدس وإن بدت بصورة الفتاة المحتشمة في الظاهر إلى أخرى متوحشة، صورة لفلم يتحدث عن جماعة الشيطان... لم يعتقد ذلك الوسيم الثري أن ملامح أخرى قادرة على إخراج ذلك المعنى، تتعرى خيرة كما تتعرى الشجرة من أوراقها، وترى واقفة في صورة الشجرة الميتة، جسد خيرة الذي أفرغ من الروح يؤدي طقوس عبدة الشيطان، تنبري كحية من ظلمة الوهم حين تختفي الشمس ويموت الإحساس بالزمن ويتكثف الشعور من التحرر من عقال المكان، تسكن في مرآة ذاتها شعوذة مجنونة، تخرق المعقول بطعنات الكفر الجائع...

آن لجسدها أن يدق بمسامير الشك تدق على روح اليقين بقسوة مرعبة لتسافر بذهنها إلى مدن الموت والخراب وهي تتصفح الحياة في خطوط القلق وقد تراءت لمخيلتها كنه التخميرة الوثنية... لقد انتشى العرب طويلا ونوموا على أغاني الأطلال وتلذذوا سماعها وسعدوا بأحزانهم، إلى ان ارتخت أرواحهم وغابت في نومة عميقة... آن للجسد المرتخي أن ينهض وقد جرد من الروح لينزل الجسد إلى عالم ما دون الحيوان... لا يدرك الجميع أن ذلك الشاب الذي درس السنما في فرنسا، تعلم أن يلطخ السذاجة، وبدت أفكاره حريصة على بعث الغموض في أي كائن ساكن، طبيعة الغموض قلق وشجون وأفكار مبعثرة... الغموض بؤس ما جرعته الأيام من غربة عن الأصل... الكاميرا الشيطانية لا تقل قتلا عن السلاح الموجه إلى أطفال الحجارة، هذا ما سمعه من صديقه اليهودي، صديقه الذي يخاف من كل طفل، ومن كل نظرة تحلم بالجمال، ومن كل حلم يرنو نحو الاكتمال ومن كل بذرة تنبت في أرض العرب... لبس قناع صديقه ليقضي الليالي رفقة كلابه في المنزل المهجور وهو على ملك لعائلته، الجميع يعرفونه في هذا الجبل عدا خيرة البسيطة، الساذجة التي تحاول نظراتها التقاط معنى ما...

وشعر أنه يبحث عن ذلك الوجه الذي تهجده في طقوسه الشيطانية التي يراها عميقة... التفت نظراته بوجه خيرة وصار يحلم بتدنيسها، المعنى بالنسبة اليه هو أن تتلطخ البراءة، وصار كذلك الظل المتعالي الذي يلف بالجدار... مدها بالعقاقير من فجوة الجدار، لتنوم جديها وتخدرهما مساء وتتمكن من الخروج ليلا وحضور طقوس الشيطان في المنزل المهجور حيث العقاقير والأقنعة والأشرطة...

وحين يرتبط الحلم بالذكرى تطل المعاني من تلك الكتب التي يتحدث مؤلفيها عن الرؤيا في عالم أشبه بجدار العماء، عالم قد يستمد تصاميمه من ذلك المثال الهندسي، تنفذ اليه خيرة كل مساء وهي تنزل الى الدهليز المظلم، وتنفذ إلى الخارج، خارج الحوش ذي الجدار المثقوب المقيم في الخلاء... وحيث رؤية أغصان الأشجار التي تطوح بها الريح لتوحي بعالم الخراب والرعب من نواميس الدخلاء على الذاكرة، فما الفائدة من تصفح الذاكرة المتعبة وقد استحال الواقع إلى مستنقع عكر....الذاكرة الحافلة بأمجاد الجبل وبطولات فرسانه..

لقد فقد عقلها التركيز وهو يتحرر من أوهام العجائز وتفكيرهن الخرافي، تعشش في ذهنها حالة ما تقرب إليها صورة الجنون، جنون يؤدي إلى عدم السيطرة على أفعالها وعلى جسدها، أو التحكم في الرغبات أو لجمها، عقلها لم يلجم تلك الرغبات ولم يتحكم فيها، وغالبا ما أضحت تصرفاتها عدائية... صار جدها يناديها بالمجنونة، ولكنها أضحت ترى جدها سطحيا أو ربما منافقا... تمشي في طريق الجسد، تريد أن تدخل وتخرج دون ائتمار، وحين منعت من الدخول والخروج ازدادت حدة... انتابها الدوار، فأدمنت الكتابة، والسهر ليلا في المنزل المهجور. لقد فقدت صورتها، وصارت تتبع خيرة الأخرى التي تعيش خارج أسوار الحوش.

 أما نهارا، وحين يستفيق جداها من الغيبوبة ويتجهان نحو العمل، تبدو كفتاة مستغرقة في الحلم وهي تجلس تحت شجرة التوت الوارفة الأغصان. نظراتها ساهمة تترصد المجهول. لا تنهض من مكانها، تبدو كمن فقد طاقة الحركة، انفصل الحلم عن حركتها ولم يعد يشكل مصدر الحياة واستمرارها.. لم تعد قادرة على استعادة توقدها... ثمة وهن، يبعدها عن الواقع ويغرس فيها فكرة تطليق العمل والعناية بالحوش نهارا. يطارد الحلم أطياف مشاعرها وهي تبحث عنه وقد تحول إلى ظل. وتضحى أسيرة الخبل والهروب الى الخيال كانتحار لا بد منه. تخرج في الليالي المظلمة تحت تأثير الايحاء، تحلم وتحلم فلا تدرك غير السراب وفي النهار تترك لهمومها حين يتهرأ حلمها المزعوم ويتركها تخربش بعض الرسوم على أوراقها وترميها من تلك الفجوة....

لم تعد تر صورتها في المرآة بل ترى ظلها مع مشاهد تستعيدها من عالم الليل، تبدو كالأطياف، وإذا لم تقدر على التصالح معها تتحول إلى سراب. لم تكف عن رسم الصور التي تتجسد لها، عن إخراج صرخات الجسد الدفينة، تنجلي بعنف، وتتدفق، تخلو من كل تهذيب ككتلة نارية ترمي بوهجها على الاخرين... "مسها جن" كما تقول جدتها حين صارت تعمد إلى تكسير الأواني الخزفية ورميها من فجوة الجدار. تنفعل وتصرخ وتلتقط أذنا جدها كلماتها الرهيبة.. حلم عاجز يشعل فتيل فتنة الكلمات كلما تلاشى العقل واكتسى الحلم بصور تواري وجهه المهزوم في نفسها الصاخبة...لم تبق في المرآة غير صورتها، أما هي فقد تحولت إلى مجرد وهم وخيال ورغبة دفينة بعيدة عن الإدراك. يتجاوز حلمها مساحات الخيال إلى عوالم اللاشيء..

 بدت بعيدة، إذ سرعان ما عادت إلى الانزواء وتأمل الخلاء من تلك الفجوة المحفورة في الجدار، وبدت نظراتها باردة دون عاطفة تشدها إلى الآخرين... صارت تكره من حولها، وقد هربت من الخبل إلى الكتابة...ها أنها مسجونة في هذا المنزل الغامض، وتشعر بالخزي كلما فكرت في الخروج من باب الدهليز نهارا، وترتجف كلما باغتتها أسئلة عسيرة ترتسم كخواطر حفظتها عن ظهر قلب كلما لمست قدمها عتبة السلم، تحاول النزول فتشعر بفرحتها تأفل رويدا رويدا كالشمعة التي تؤانس الإنسان في الليالي السود، ولم يستطع جدها الذي ضاق ذرعا بوجودها و بعصبيتها المفرطة وهي تكسر الأواني وتصرخ ليتركها تدخل وتخرج بسهولة، ترتب جدتها على كتفها بحنو، وتعدها بحرية أكبر...

 تتشكل بصورة بلهاء تنظر إلى البحر دون أن تنتبه إلى امتداده وألوانه، بل تعكس لها سوى خيالاتها الممتدة في البقاع البعيدة وجزر الأماني أو تبدو كعاشقة هجرها الحبيب وتركها تهذي أمام البحر وهي تناجي طيفه، وصار وجهها المهزوم يناديها إلى الغرق بين أمواجه المجهولة...

وهي تتقدم وتحدد نقطة الانطلاق في دروب الذات، تنفذ الى هاوية يصعب منها العودة إلى أرض الواقع.. وهي تتجه الى البحر الذي لم يكن يغريها باشعاعاته وعمق ألوانه وحين يبدأ الظلام في الزحف على البحر ويتوارى قرص الشمس ويرى نور طفيف، ويقطع ذلك المشهد وتترك أوراقها تحترق في غرفتها تحت ظلال شمعة الحلم، يستجيب الجسد الى الكاميرا ويقرع أجراس الحلم...وهي تمارس طقوس عبدة الشيطان....

 بدت جدتها تفقد نشاطها، وتتوه في دوامة الغيبوبة، وبدا وجهها الشاحب كثمرة متعفنة تتدلى من شجرة عجفاء في خريف واجم، تذرف الدمع مدرارا، ثم يفيض شجنها لتشرع في الحديث عن موت جدتها... تميل النسوة في الجبل للنكد، ولا تفوت العجائز مأتما للنواح على أيامهن البائدة... أما "هاجر" تلك الطالبة في معهد الفنون الجميلة فقد شدها معنى الحزن على وجه خيرة وهي هائمة في الطريق الجبلي... في قاعة الجلوس حيث الموقد يبعث الدفء وحيث تنزوي على الكنبة ترمقها بتوجس، تقول أن المكتوب على الجبين لازم تشوفو العين، وهي ترجع كل المآسي الى ندبة العجز على جبين الإنسان... في المقابل كانت ترى خيرة على قلق، الموت الذي يواجهها وتواجهه هو قضاء وقدر ومكتوب، فلم المكابرة... ولكن خيرة غالبا ما تبالغ في التعبير عن حزنها رغم عنها، ولا تستطيع كبح جماح حزنها وقد تحولت حياتها إلى شبه مأتم وهي تتذكر أشجان العائلة. فأي حزن دفين؟ وأي وجود مريب؟

وحين تحدثها خيرة عن صفة الجنون التي يلصقها بها جدها، جدها الذي حزن كثيرا على وفاة رفيقته في الحياة، جدها الذي أخذها إلى البلدية وسجل الحوش باسمها، كان يدعوها الى التعقل والانصراف عن الكتابة. تؤكد لها هاجر أنه من غير الممكن إصابتها بالخبل وكتاباتها رائعة تستمد منها شعلىة الحياة الباطنية بعدما تحول الواقع إلى قضبان آسرة. هي كتلة من التفكير والإحساس وطاقة هائلة مشحونة بالحياة ولكنها تحتاج إلى الخروج من قوقعتها... تتجولان بين مشارف الجبل، لتصر لها هاجر أن خيالها يلاحق طيف ذلك المعنى... خدعت خيالها بذلك الظل فهو حقيقة وليس وهما. إن مجرد اخبارها بما عاشته يجعلها تراها بصورة شاعرة، تتوهم أن ذلك الوهم يلاحقها... فكم كانت تحاول أن تصبح اسطورة أو راقصة في حفل غجري، فترقص الفلامنكو وقد ارتدت ثوبا طويلا وحذاء بكعب عال وتلبس حلي أمها، وتبدأ في قرع الأرض....

 

 على قرع تلك الأقدام، لم يبق من خيار لتفيق القرية الجبلية على وقع كابوس جديد....

الألسن أعادت موت جدها إلى تلك الجنية التي كانت تراوده ليتزوجها بعد وفاة جدتها، وحين رفض أتت له بعشيرتها، بينما كان مارا من فوق الجسر انقسم فسقط في ماء النهر، طالما سمعته خيرة ينهر تلك الجنية وهي تستعيد صورة ذلك الحادث الذي أنزل الستار على نور القرية الحالمة وتوارى هدوءها وراء الصراخ، فقدت القرية ملامحها الآمنة المعطاء، تستنزف الدموع السخية وتحطم مشاهد الفرح على جسر الخداع، التحق الجد بالجدة، نزف القلب الذي طالما أشع بنور الشمس... الخرافات لا تقل مأساة عن ذلك الحادث الذي شاهدت عبره قسوة الموت وهو يباغت جدها في لحظة طيش عابرة...

تحتفظ خيرة باللحن الجنائزي لغناء عجائز الجبل يبدلن كلمات الحزن بمعاني الصبر، ويستبدلن صورة الغرق بصورة السباحة في نهر الجنة...

على لوحة معلقة على إحدى جدران الغرفة أهدتها هاجر إلى خيرة لمحت باقة من الورود المبتهجة قد لا تتناسق مع ديكور الحوش ومع تركيبة ساكنيه التي تميل الى الحزن، تبتسم من اللوحة زهرة يانعة، تتتوهج حمرة قرنفلة قانية، ذروة شاعرية الرسم... تراءت عبر تلك القرنفلة مرآة المعاني الغائبة، منحوتة على شغاف قلب الإنسان، وباغتني هاجس بأن الروح تزداد جمالا ووهجا وهي تغادر الجسد لتحل ثانية في هالة من الأشكال والألوان، تصبغ الروح الراحلة بالبهاء...كأن الله يعيد تجميل الروح وهي تلتحم بالملكوت ويعكس ظلالها في رسم هائم... ينبعث صوت العندليب في اغنية قارئة الفنجان من جهاز التسجيل... من يهرب من الشجن يعيش داخله، موسيقى المآسي العربية تهزنا، فكيف لا نجاهر بالقول بأننا اناس مأسويين. تنساب الموسيقى كانها تعزف على أوتار كآبتنا.. نستشعر الضعف ازاء سطوة القدر في خضم الصراع الأبدي... لقد عاش الجميع في هذا الحوش عتمة الروح، حالات داخلية تتحول الى وجوم، وما أبدعته هاجر يستبدل ستار الظلام ويضيء الحوش بنور الرسومات على اللوحة...

تبدل خيرة الكلمات الحزينة بأخرى مبهمة.. تتكئ على الكنبة وعيناها تتفحصان السقف ببرود، ومن حين الى آخر تمسح دموعها.. لماذا تحزن، لماذا تبكي؟... هي تحزن لأنها تحب، ولا تحب دون أن تحزن... تنقطع عن الوجود وتحمل أوجاعها إلى كوابيسها بعد كنه التمزق. هدوء وغيبوبة مقنعة فصورة موت الجد الذي قذف به الموت... بدا حزنها أعمق من روح القصيدة في عصر صار فيه الشاعر أظلم من قرائه والفنان أظلم من المتقبل، واختزن الجميع هوس النكبات... كمن يسرد سمفونية الضياع في هجعة السكون وقد انبرت ملامح الجمال عبر لوحة الوردة والقرنفلة... لتستفيق الحياة في خلايا اللوحة....

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1419 الاحد 06/06/2010)

 

في نصوص اليوم