نصوص أدبية

مدارج العودة (12)

انتابتني الرغبة في الكتابة حين انبعث صوت من أعماقي: " الكتابة مغامرة آثمة، سادية الملامح، تجلدك، الكتابة رحلة تسلك دروبها سواد... الكتابة أغصان خضراء تخضب صورك "....

اتجه أحمد نحو صخرة تعود على الجلوس عليها، انتابته رجفة وباغته الشعور بالغثيان اذ استحالت صور نفسه كبقايا رماد وتناثرت كالأغصان التي حطمتها العاصفة، تملكته هواجس الخوف، أضنته الذاكرة المرة فعاد إلى غرفته المنزوية وتجرع كمية هائلة من الكحول، واشتعلت في عينيه كتلة من المرارة....

كم هو بحاجة ليستكين بين ذراعي أمه وهي تمرر أصابعها الغليظة على رأسه ورقبته وتنعطف بلمسات يدها على ظهره. لم يزدر يوما من عرقها المتصبب من جسدها المترهل... يحن دائما إلى تلك الرائحة كلما بحث عن شعور يحميه من وجعه... يرى أمه تحت ظلال الأشجار، على الصخرة، قرب البحر... فهاجر تتجنب رؤيته في القرية الجبلية، تتناساه وتترك طيفه في المدينة، زواجها من رجل ثري يراه كالفقد، حمل معه وزر أوجاعه، واتجه نحو زمرة من الرفاق الذين يغتنمون حلول الظلام لمعاقرة الخمرة في الغابة الجبلية، شاركهم همومهم وقهقهاتهم المرة، وهو يهم بتجرع الخمرة ليقتل شعوره العابث، بدوا ينازعون نفوسهم المثخنة بالعبث...

 اتجه الجميع إلى دار الفرح... سار معهم دون وجهة. وحين تشابكت نظراته مع هاجر، تمنى لو ينهض ويصفعها ليشعرها بقرفه، ولكن وجوده بتلك الهيئة المزرية سيجعل الجميع يتعاطفون معها ضده وقد بدا كمجنون مقرف... اتسعت ضيعة والدها لكل سكان الجبل، فالعريس بدوره من كبار الفلاحين، وهاجر لا تثق بجمالها وجسدها المتدفق بالشهوة فحسب، بل تحظى بقدر من الذكاء المتوقد. ابتسمت له فرد ابتسامتها ببرود....

 على صخرة الضجر من الفقر بدا له خاطر الانتحار يوما ما. وحين هم بالغوص مسكت يد هاجر كتفه. ابتسمت برفق وقالت إنها محظوظة لأنها أنقذته من بحر الغرق وأعادته إلى بحر الشعر. ثم عبرت عن إعجابها به منذ طفولتها. وإثر تلك الحادثة ظلت تلاحقه. أكدت له أنها تشاركه الهموم والشجن وتفاصيل المجهول. توطدت علاقتهما إلى أن أصبحت ترفض فكرة التخلي عنه. أشعره وجودها بالتوتر فود أن يستقيل مركبة تحمله إلى مكان ما، عله يعيد النبضات التي خفتت بعد رحيلها.

 لقد بدأت حكايته مع الشعر حين استنشق رائحة البحر، فرسم بعض المعاني في ذهنه، وشعر كأنه يحيا بشوق كل شبر وطأته اقدامه فيعود إلى نفسه مثقلا بالنشوة عله يناجي القلم ويعانقه إلى حين اطلالة الفجر ليستعيض عن الحلم بالكتابة.

علقت نظراته نحو المجهول كمن تملكته هواجس الخوف وتسلط عليه اليأس ليرنو إلى الأفق بحيرة باحثا عن بشائر أمل خارقة. ود لو يحدثها عن انكساره، عن قلبه المظلم بالمخاوف وفكره المكسو بالآلام، لو انبلجت كلماته متحسرة، أو ثار وشتم وألقى مقاليد الغضب... انبثقت منه رجفة وباغته الشعور بالصدمة. استحالت صور نفسه إلى بقايا رماد وتناثرت كالأغصان التي كسرتها العاصفة.

قصدت خيرة بدورها دار العرس، وكانت تبدو هادئة وصامتة، وحين انطلق عزف الفرقة، انطلقت في الرقص الى حين انتهاء السهرة، وحده إبن عمها كان يراها ترقص رقصة الروح الذبيحة... آخر صورة علقت في ذهنه كانت يوم مقتل والدتها، أغمضت عينيها وهي تحبس دموعها حين نهضت ووجدت أمها تسبح في بركة من الدماء وقد غطيت بلحاف أبيض. صدمت وانتابتها نوبات من الصراخ الهستيري. عندما نقل جثمان والدتها للمقبرة، مسح دموعها بمنديله، ولكنه في قرارة نفسه، تمنى أن لا يسمع من أحد أفراد العائلة دعوة للزواج بها... ولكنه يشعر بأن إبنة عمه، ومن خلال ما تردد عن علاقتها بذلك الثري، ما هي الا كلب سائب رافق صاحبه الى رحلة صيد، فقتل ببندقية فلاح متعجرف، لكن صاحبه تركه يتخبط في دمائه، فهو لا يميز بين البشر والحيوان، كلهم لا يستحقون الحياة، ما هي الا قطة أسالت لعابه، مجرد قطة تمددت أمامه وهي تلعق جسدها...

علقت النسوة بأن خيرة فقدت حيائها، ومنهن من قالت إنها أضحت فتاة لعوب تريد جلب اهتمام الشباب، ومنهن من علقت أنها أصبحت كالراقصة "زهرة الأمبوبة"، أو ربما هي جنت. وليس من شاغل يشغل أحمد عدا السخرية من عادات القرية الجبلية. فالناس هناك يخلطون بينه كطالب فلسفة وحميدة المهبول، وها هم شرعوا في نعت ابنة عمه بالمهبولة. فالفتاة بدت مسلوبة العقل، تائهة بين الحقول والمنعرجات. فلا يعقل أن تكون الفتاة بخير، أما جدها الذي سقط في النهر، فقد تردد أنه فقد صوابه وهو ينهرها أمام عمال الضيعة، ويقال أنه حبسها لأنها تخرج في "عقابات الليالي"، أما أحمد فقد تعاطف في قرارة نفسه معها لأنه يراها قد عثرت على الخيط الذي يشد الإنسان للحياة الطبيعية ويدفعه لاكتشاف جسده. قد توصف خيرة بالجنون لأنها لم تعد تعبأ بجسدها كأنثى، بل طفقت تشكل جسدها على طريقتها... هي بجنونها تعري الجسد الذي تغطيه عادات الجماعة في القرية...

إثر السهرة تسربت بين الجموع، واختلت به وراء شجرة السنديان، وهمست: " ما أحوجني لفهم الفلسفة... لقد عثرت على منفذ يصل الباب الخلفي المتروك بالحوش عبر المخزن... الأمر يتطلب منك أن تتسلل خلسة وتحمل في جرابك فانوس، سأفتح لك الباب من الداخل، ستنفذ الى دهليز مظلم، يقودك إلى سلم خشبي وحين تصعد الى الأعلى تجد بابا صغيرا...". ابتسم بلا مبالاة فرددت: " أترقب مجيئك... "

لن يطوف حول خيرة قبل تجسيد لحظة عبث تهوى فيها هاجر كضحية، "كطائر مثخن بالجراح لن ينتفض من جديد"، يجب أن تكون الطلقة قاتلة لتكتمل اللحظة، سيسخر من زوجها ويقول له في شماتة " ها إنك التقطت جثة "، سيبتسم تلك الابتسامة الحاقدة نكاية فيها، ثمة ميول سادية تجعله يشعر بمتعة سفك روح ضحيته، ستقتل كلماته على نحو عابث، وسيتم غيره التنكيل بضحيته، ابتسم وقهقه، هنأ العريس وهمس في أذنه عبارات الشماتة اللاذعة، عبارات من فبركة خياله المريض...

وهو يدق الباب الصغير ويناديها باسمها بصوت خافت، تعجب للفستان الأبيض الذي كانت تلبسه، تأمل تفاصيل وجهها بدقة، تبددت سكينته بنظرة الشك، ربما تريد أن تصر له بأن كل المنافذ ممكنة إذا أردنا أن ننفذ الى الداخل... ليست خيرة بمثل هذا التفكير وقد يكون حدس الأنثى هو الذي يوجهها الى تصرفات ليست نابعة منها أصلا...

شعر بليونة يده تجوس جسدها، وأدرك أنه سيجوب الأحداث المنكسرة على الصخر،وبدأ يتلمس نفسها رغم تشعب خفاياها. بدت له كمجنونة أزمتها الحياة، ورمت بها في مفترق الخيارات الصعبة، رآها في صورة هاجر، في صورة فتاة تجاوزت العشرين... قد تحمل حقيبة جلدية وملفات بها أوراق وكتب... يرافقها شاب يبدو أنه هو... ولكن الصورة تبددت فجأة ولم يعد يرى أي وجود أو أي أثر لأي شابين... كيف اندثرا في لحظة؟... اخترقت خيالاته الغرفة المعتمة كظلال انسابت واختفت، بدت هاجر كزهرة اللوتس، كأنها ماتت وبعثت من موتها، الآن تغير كل شيء، ها أن زهرة اللوتس، زهرة لا تموت، تتفتح كلما غمر المطر الأرض، والسماء حبلى بالغموض، تحدو به نحو رسم عوالم مختلفة، لا تتشكل بالشكل الكافي الا حين يكون المطر عصيا عن الانهمار كالدموع الحبيسة... لكنه ارتبك وهو يواجه هذه الخيالات، دق قلبه دقات متسارعة وكاد يخلع من صدره، قد تكون خيرة مدركة... تتخيل نفسها في صورة طالبة أنيقة لكنها بدت كأنثى فقدت أنوثتها... اتجه نحو الباب الصغير ليغادر، طلبت منه أن يتمهل قليلا...

 بدت لوحة المضاجعة التي رسمها في خياله غريبة عنها، تساءل كيف تتقاطع شعلة الضوء مع المأساة... انتابته شحنة ليغادر الغرفة نحو الحنفية ليتغسل ويتطهر من سخام هواجسه، رأى هاجر قد استحمت، وتعطرت ارتدت ثوب الزفاف الذي يتناسب مع ذوق جدتها الأندلسية، تفحص خطواتها وهي تمشي على مهل... ارتجت الأرض تحت قدميه وهو يحدق في لوحة مأتمها....عاد أدراجه إلى الغرفة وسأل خيرة:

- لم دعوتني؟ لأشاهد هذا السرك؟

- طيلة السهرة كنت تنظر لي بشراهة وأنا أرقص في عرس هاجر والآن ربما تظن انني مهرجة غايتها إسعاد رغباتك العدوانية...

 صدق حدسه فهي تعرف بتفاصيل علاقته مع هاجر، شعر أنه لا يعني لها سوى مارد يقتحم ذاتها، ربما ترتسم في مخيلتها كل صور الخيال الممكنة....

اقترب منها وشرح هامسا: لقد شعرت أنك ترقصين فوق سطح القمر المتوهج... ترى هل كنت في حلم أم كنت في يقظة... كنت في حالة فرح، الفرح وحده يقودك الى الأرجاء المجهولة...

كانت نظرته عارية من البراءة وقد راودته رغبة في الاقتراب منها ثانية:

- ما هكذا تفعل الصبايا البريئات، ذلك عار...

هزت كتفيها استخفافا: "عن أي تقاليد تتحدث، دعني وشأنهم، لقد أصبحوا يرونني مجنونة "... بدت لأحمد وسط قوم لا يفهمونها، يظنونها تائهة في طريق قافر، ضائعة في ليل أجن، يقولون والشر يتطاير من عيونهم، من يبدع بالتقاليد ليس من طينتنا، نحن قوم لا نبدع بالتقاليد، هي واحدة ككل البشر الذين وجدوا أنفسهم في هده الحياة ليس بمحض اختيارها، الأيادي في هذا الجبل قذرة، وكانوا بمثابة من فصل من الصلصال تحفة بدائية الصنع، ربوها، وغرسوا فيها قيما متناقضة...

 قال: الفيلسوف مثلا يفكر، فهل هو شخص مجنون؟ وان نعت بالجنون فهو جنون صحي ولا يبتعد عن التفكير الواعي والناس في هذه القرية البسيطة يخلطون بين الصحي والشاذ، إن الجنون شديد الارتباط بالابداع...

تفرس رواية الشحاذ الراكنة على إحدى الرفوف وطفق يقرأ الرواية....

بدت له هاجر أشبه بعمر الحمزاوي الذي التفت به كدورات الزمن المغلقة، تنفض السخام العالق وتتخلص قدماها من الأوحال العالقة... أحلام الشباب المندفعة وتلك العبارات العاطفية الفضفاضة سرعان ما تحطمت على صخرة الواقع ازاء المطالب المادية الملحة والرغبة في الثراء، غزت عالمه بالشعر المزيف، لم يكن ذلك الشعر سوى وهم نظري....

 لم يستسغ مغادرة الحوش المقفل بالمزلاج والمفاتيح عبر ذلك الدهليز. فالنور لا يبصر من كهف مظلم. هو مجرد تحقيق الحياة المستحيلة في عالم بعيد، عالم يكبل الحرية، عالم من الدمار... قد يكون الحمزاوي أحد رفاقه أو إحدى صعاليك الجبل أو رفاقه الطلاب الذين يعيشون الأزمة الفكرية والنكبة النفسية على حد السواء...

يعيد تصفح الرواية لإعادة قراءة ذلك اللقاء بين عمر وصديقه الطبيب، وبحث عن المعنى الذي يحرض على الحركة التي نبتت في الأعماق الخامدة كزهرة برية، أو تلك النغمة الضائعة في ظل الانغماس في وحل الواقع... طفق يواسي نفسه بحثا عن تلك النشوة الخادعة لكنه اصطدم بسلم ذلك الدهليز المغلق المظلم وهو يغادر الغرفة نحو الخلاء كما يصطدم الحمزاوي بتلك العاطفة المصطنعة مع الراقصة وردة لتزداد الأسئلة اندفاعا " ولكن كيف تتسلل النشوة إلى هذا المكان المغلق ولماذا يصر الموت على تذكيرنا بحاله "؟

لم يكد يشرب جرعات من الشاي الذي قدمته له خيرة، حتى انتابه الدوار، غفا ولم يفقد الوعي تماما، ولم يستيقظ إلا على أزيز الباب الخارجي الذي أحدث ضجيجا عند فتحه، لم يشأ أن ينير الضوء الكهربائي للغرفة الغارقة في الظلام، تلمس طريقه وهو يفتح باب الغرفة، استنار بضياء القمر، لم يصب بدهشة حين لمح خيرة تسير بمفردها في الظلام في اتجاه المنزل المهجور الذي يقال بأنه تقام فيه حفلات صاخبة، تسلح بالحذر وهو يتبعها ويراقبها عن بعد، وحين وطأت عتبة باب المنزل المهجور، صرخ فيها: " خيرة "، في تلك اللحظة لمح طيف رجل يركض نحو الداخل بعدما جذب الباب الخارجي بقوة. اقترب من خيرة ووضع يده على كتفها، تفرسته بذعر واتسعت حدقتا عينيها، وانكمش جسدها.

- الطقس بارد...

هزت كتفيها وأشعرته بعدم رغبتها في الحديث، وبعد لحظات من الصمت انبعث صوتها متهدجا: "يبدو انني أتيت للمنزل المهجور للبحث عن روح جدتي"... لقد سمعت جدتها تناديها من هذا المنزل، وهي تفتح لها باب المقبرة، لكنها ترددت في الدخول، وأردفت انها لا تريد أن تدفن في هذا المنزل المهجور، منزل السوء والدمار... وأنها تريد أن تذهب في رحلة بعيدة نحو الشمس... ذلك المنزل المهجور يقود إلى عالم الموتى والأشباح... من يدخله ينتحر، أول ضحاياه كانت الايطالية التي كانت معمرة أيام الاستعمار، لقد وجدت مختقة بالغاز، و من بين الضحايا ذلك الحارس الذي وجد منذ أعوام منتحر بعدما خنق نفسه بالسلك الحديدي الشائك...هي تخاف منزل الأشباح، فما الذي أتي بها إليه؟

قد يكون الحلم وقد أكدت أنها سمعت صوت جدتها، وأبصرت أطيافا... كانت تناديها وتفتح لها باب المنزل المهجور. تفرست وجهه للحظات وركضت نحو الحوش كمن أفاق من ذهوله.. لكنه أدرك أن خيرة لا تتحدث عن خيالات بل عن أشخاص حقيقيين، فما هو السر الذي تحتفظ به ولم تصرح له به، قلب صفحات دفتر خواطرها ليفتح أقفال الأحداث الموصدة....

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1420 الاثنين 07/06/2010)

 

في نصوص اليوم