نصوص أدبية

الدغـــل

 لذلك لم أكن مباليا، عادة علي أن أبدي اعتراضا، لكنني لم أفعل،، جعلني أسلك كما يريد، لكنني أثناء ذلك أكون مستفزا ومستثارا بلا طائل إذ علي أن أصبر حين يريدني أن أكون ما يرغب، وهو يعلم جيدا إنه لا يستطيع أن يفعل ما يريد ني أن أفعل، ذلك لنه يعتقد بأنه يختلف عني، إنه كائن واقعي يمارس العيش في الواقع، لكن الأمر إذا جردته من غلالته الواقعية التي تراكمت عليها خيوط غزلها خليط غير منسجم من رغبات الناس الماثلين كدمى تتحرك وتتراقص بفعل فاعل يختبيء عند رؤوس تلك الخيوط وبداياتها غير الواضحة وهذا جزء مما ودَ الأستاذ استكشافه عبر صنعي وإطلاقي إلى المكان وفي الزمان الذي يرغب، خيوط فوق خيوط تشابكت وضاعت رؤوسها ولم يعد ممكنا نكثها  لذلك فإن الناس الذين هم كالدمى  أصبحوا مخلوقات مهتزة تملؤها الريبة والشك  بكل شيء وفي النهاية أصبح الهواء مريبا بالنسبة لهم، لذلك فهم طالما رفعوا أنوفهم عاليا نحو السماء كما تفعل الذئاب الجائعة  يتشممون الهواء ويتتبعون كل خيط غريب من الرائحة ربما كان قد تسلل  عبر الهواء.

في هذه الظروف المشحونة بالشك صنعني الأستاذ وهو يعلم جيدا عندما جعلني ذلك الوهم الذي يعيش في داخله منذ الطفولة، لم يكن يريد غير إطلاقي في دغل ذكرياته وعشب طفولته وأغصان يفاعته لكنه ارتكب خطأ جسيما، إذ لم يجعلني طفلا أو فتى،بل جعلني رجلا ناضجا كما هو الآن وذلك هو الخلل الذي أحرج وجودي كوهم مصنوع، باختصار أنا رغبته بزيارة عشب طفولته وهو بهذا العمر،بل وكان بتقديره لأمكانياتي كوهم وكل ظني إن ذلك هو الخطأ الوحيد الذي ارتكبه، لكنني لا أستطيع أن ألومه فهولا يريد أن يرى ذلك كطفل غر، بل يرغب أن ينظر إليها كما هو الآن  لذلك لم يتردد بإطلاقي هناك وهو يعلم جيدا مدى خطورة تحريكي في ذلك الدغل القديم والمهمل  في زمن آخر وبحجم  أكبر كثيرا من حجم طفل، الناظر لي لا يرى طفلا في دغل ذكرياته أو صبيا في عشب زمنه الماضي، بل يرى رجلا في دغل مات ويبس منذ زمن بعيد ويعلم أن ذلك ملفت للإنتباه ومثير للشبهة، أما أنا وإن كنت وهما  صنعه الأستاذ ليطلقه في دغل ذكرياته إلا إنني أدركت ما صرت فيه من مأزق  فوجدت نفسي أحتاط للأمر كثيرا وتحولت دون علم صانعي إلى شخص ولو كنت وهما إلا إنني مستريب وحذر، رحت أتجول بحذر، أتخفى لأن العيون لابد وأن تترصدني، أقل ما يمكن قوله إنني وهم وتلك تهمة كبيرة، أو إنني شخص مصنوع وتلك جريمةأو إنني إن لم أكن هذا أو ذاك فأنا رجل أتجول في حقل ميت، عشب ذكرياته أصبح هشيما، أفعل ذلك بزمن غير زمني، لذلك لابد من أن أثير فضولا أو كراهية أو ريبة وكل ذلك تترصده السلطات وعندما أدركت ذلك بشدة وتركيز  حاولت الإختفاء في الدغل، صنعت لي ملاذا هناك واختفيت، لم أعلم حينها إن هناك بين فجاج الدغل وبين الأعشاب تختفي الطرائد عن أعين المطاردين و لم أعلم بأن الطرائد قد احتاطت للأمر وإنها تعلم مواقيت الصيد ومواسمه بشكل أكيد وتستطيع أن تتعرف بسهولةعلى كلاب الصيدو تميز أصواتها من بعيد، أنا الوحيد الذي يجهل ذلك ولا يتقن صنعه ولا بد إنكم تعلمون لماذا كنت أجهل ذلك، نعم...نعم كما تقولون ذلك لأنني مجرد وهم صنعه الأستاذ، واقتادوني كطريدة مع مصير واضح ولم يتعبوا أنفسهم بالتردد في إعدامي  فتهمتي واضحة لا يمكن إنكارها، ولأنني وهم لم أكن مهتما ولست متألما  لكنني علمت أن  الأستاذ الذي صنعني لم يستطع بعد ذلك أن ينام  لمجرد تخيله إعدامي لذلك فقد هجر النوم وراح يفكر ليلا ونهارا  بطريقة لأنقاذ رأسي، عجبت مما يجري، وعندما رحت أجري تقييما للوضع برمته وجدت أن لدي الرغبة في الموت كوهم مصنوع، أود أن أتلاشى وبذلك تنتهي القضية وأنا كوهم وددت لو إنه لم يورطني بالغوص في وحل دغله وعشب ذكرياته العتيق .

في منتصف الليل جلس كالمجنون  واجتاز المسافة برعونة وعرامة واضحة ووصل إلى السجن والسجانين وأطلق سراحي ، رغم استغراب السلطات التي لم تنم بعد، كنت أعلم طيلة بقائي في السجن إنه كان يلوم نفسه لأنه اعتفد دائما إن الوقت  غير ملائم ولم يكن الزمن موافقا ومواتيا لصنعي وإطلاقي في دغل ذكرياته  لذلك أغلق علي دفتره وراح ينتظر وعندما علم بكل تأكيد إن الأمور قد تغيرت وذهب المستريبون وصارت حقول الذكرى ودغلها وأعشابها  تنعم بالحرية أو هكذا ظن غالبا، أخرجني من دفتره نفض عني الغبار وقال الآن هذا هو الزمن الملائم  لكنني لازلت وهما من صنع الأستاذ وعلى الرغم من حقيقة  كوني وهما إلا إنني تعلمت الريبة وعرفت الشك دون علم الأستاذ ولم أكن متحمسا لرحلتي الثانية، إن ذلك لا يعني شيئا للأستاذ ولا للآخرين ولا يعني لي شيئا أيضا، كيف يمكن أن يكون الوهم شيئا ما  في يوم ما، لذلك وجدت نفسي وسط دغل ذكرياته مرة أخرى وكانت وصاياه تلاحقني، لا تخف... لم يعد هناك ما يخيف ثم قال الدغل ومسافاته جعلته لك فارتع فيه كما تشاء  رحت أفعل كم يرى فهو في النهاية من صنعني وخلال تجوالي في دغل ذكرياته اختلست النظر إليه فوجدته مطمأن البال، مرتاح النفس من خلال شبح الأبتسامة المرسومة على شفتيه، علمت أنه في أحسن أحواله وعندما صرت وسط الدغل، وعندما كان الأستاذ في أحسن أحواله  أتى غرباء كثيرون، جاسوا في كل البساتين والأدغال ووطئوا دغل الذكريات بأقدامهم الثقيلة  بدبابات وجيوش تخفي عيونها، وعندما وجدوني هناك وسط الدغل، أطلقوا علي وابلا من الرصاص الحي فأردوني  في الحال وكانوا يعتقدون أنهم يحسنون صنعا  فهم ليس لهم دغل ذكريات.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1421 الثلاثاء 08/06/2010)

 

 

في نصوص اليوم