نصوص أدبية

مدارج العودة (13)

الصورة بحثا عن حياة وعن أحاسيس تنفث الحلم في جسد بلا روح. ورغم أنني لا أريد أن أرسم لحلمي حدودا لكي لا تتبدد الصورة التي تنفذ إلى العين الناظرة فإن استبدال البحر الصخري بصورة تلك الشجرة ما جعلني أستظل بالشجرة علني أفلت من موت الصورة كما أفلتت خيرة من أسر شاطئ البحر الغامض الذي غيب في أعماقه جزءا كبيرا من آثار السنين الخوالي وزحف على اليابسة.

لم تعد خيرة تحتمل العيش في حوش جدها... تكسيرها للأواني الخزفية ما هو إلا غضب من سوء معاملة... تستعيض بالحلم كلما سدت المنافذ أمامها كأي فتاة في سن حرج... جدها المفجوع في ابنته لم يستسغ أن تسلك حفيدته طريق الجبل و تتسكع بين الهضاب والروابي، وأن ترقص بهستيريا في أفراح القرية، لكنه لا يرى مانعا في خلودها للراحة في غرفة خالها، بعدما صارت تشبه الحوش بالمقبرة....

 لم تكن جدتها "للا حسناء " تلك العجوز المرعبة، فهي التي فتحت لها غرفة خالها، وهي التي دلتها على الفجوة الموجودة في الجدار، وهي التي كانت تلح على زوجها لتترك خيرة تصاحبها في حفلات القرية، في حين أن جدها كان يدعو عليها باللعنة لرقصها الشيطاني، تسد " للا حسناء " الطريق على زوجها كلما هم بضرب خيرة بالعصا، وكلما ثارت خيرة في وجهه وشبهته بالشيخ البائس، فقد كانت تشفق عليها، وترى أن الفتاة صرعت، وتلح على زوجها لتحملها إلى الشيخ الروحاني، ترى أن " ما أصابها هو "من تحت ايديهم"، وأن الطب عاجز عن فك طلاسم مس الجن "، وقد يوجد العلاج عند أصحاب الذكر في الزاوية، وتلح على زوجها لتحضر خيرة الحضرة في الزاوية، تزداد نظراته استنكارا، وهو يحذر من ذئبية شيوخ ودراويش الزوايا الذين يراهم عادمين.. حدجها بمرارة لم تغط مساحة غضبه، ملامحه حادة، في وجهه أخاديد وتجاعيد وشقوق وحفر، اندفع صوته قويا:

- ما تفعله خيرة لا يغتفر....

- "الغشيرة" طائشة وسيعالجها المدب...

- تشتمني أنا؟ المحارب الذي حارب الاستعمار...

يفتح صندوقا قديما، يخرج المسدس بحركة سريعة، مسدس "ماسورته ملوثة وتكسوه طبقات من الزيوت والشحوم":

- إنه قديم وغير مشحون بالرصاص، لكنه قابل للشحن إذا لزم الأمر....

تيتسم الجدة بنظراتها المخادعة بارتياح لتخفي شعورها بالعطف على هذا الشيخ الذي مازال يعيش على فتات الماضي، نظرات جدتها لا تجيد الزيف... الرجل العجوز بدأ يهذي... وخيرة المتعطشة إلى هواء الجبل تكفكف دموعها.... لقد اختارت خيرة أسلوب البله وهي تحدث ابن عمها عن طيف الشاب الذي اختفى بعد أن راودها، اتسع ذهنها للفراغ، واختفت شعلة النور المشعة في الجبل عن قلبها... ولم تتراء في صورة فتاة مريضة وهي تتحدث عن جمال القرية، وعن تلك الكتابات التي تفتحت في أعماقها وعن تلك الحقيقة التي تجعلها تستيقظ ليلا نحو الاحلام الغامضة، وبدت كقصيدة تفسح عن سر الوجود... في الوقت ذاته لم يجد ابن عمها في كتاباتها تجليات إبداعية، فهي تعبير عن الشجون والهموم في قالب غير فني، ولكنها تحلم بتحطيم القيود... أخبرته أنها تريد نشر كتاباتها في الصحف، لتنطلق، لكنه لم يثق في جودة ما تكتب، وخاف عليها من صدمة رفض كتاباتها، فهي مشروع كاتب فاشل وذلك ما سيضاعف من أزمتها.... حاول إقناعها بأن طريق الكتابة لا ينبت إلا الأشواك، طريق مفخخ وهو يخاف عليها من عصابات الأدب الأشد بأسا من جدها... هزت رأسها ورضخت لكلامه....

تذكر خيبته حين فشل في ترسيخ كتاباته الشعرية، تذكر كيف قادته قدماه نحو مجلة أدبية ليسلم لرئيس تحريرها أشعاره عله ينشرها، لم ينتظر طويلا ووجد نفسه وجها لوجه معه، اعتقد أنه سيشجعه، وجده منكبا على مجموعة من الأوراق، حياه بحرارة، نظر له رئيس التحرير بلا مبالاة، وهو يتفحص الأوراق المبعثرة على مكتبه، تناول أشعاره، قلبها بسرعة دون أن يقرأها:

- إن طريق النشر في المجلة الثقافية طويل، فهي لا تنشر إلا لللأسماء المعروفة.... أين نشرت سابقا....؟

- لم أنشر من قبل، لكن شعري مهم؟

- ومن أدراك أنه مهم... عفوا لن أنشر أشعارك... "هل تريد أن تصعد على كتفي...."

فقد الرغبة في الكتابة من يومها، أما خيرة فقد تكومت قرب فجوة الجدار تربت على قطتها بأصابعها وبكفيها، وتقربها إلى صدرها، وتحتضنها، تفتح عينيها وتغلقهما وكأنها مجهورة بأضواء الفوانيس الملونة في طرق المدن الكبرى، وهي التي لا تخاف الظلام الذي تبصر فيه الإضاءات الخافتة....

حين أفاق صباحا كانت الشمس الحامية تخترق الغرفة من بلور النافذة، وكان يحن دائما للصباح حين تشع الشمس وتخيط من وهجها طقوسا خاصة.... أفاق على رغبة في اجتثاث الشجرة الميتة التي تطل على الغرفة، وأعلمته خيرة انها حزنت على فراق جديها فماتت، ما يريده شجرة تشير إلى إمرأة من جسد وروح، وكانت الأرض المشققة تغريه وتناديه. هذه المرأة هي خيرة صاحبة الحوش التي تخبئ في مكان معين لفافات المال التي تركها جدها لها... فخيرة التي صارت تملك دارا ومالا، سيسهل إدخالها إلى مستشفى الأمراض العقلية بعد زواجه بها....

يأتي بالمعول والمسحاة والفأس ويشرع في الحفر. يتناثر التراب المشقق وتبدو طبقة من التراب الرخو، يتناول حفنة ويمررها بين أصابعة، ويشتم روائح الدود والخنافس الصغيرة والرطوبة العالقة بمسامات التربة ذات الرائحة الزنخة، وتلتصق حفنة التراب بين أصابعه فيرميها على أكوام الأتربة ويواصل حفره... يتسع قطر دائرة الحفرة وهو يلج الأرض طورا بالمعول وتارة بالمسحاة وأخرى بالفأس. كم من العناء يلزمه ليواصل الحفر ومسح العرق المتصبب على جبينه وعلى جسده. يمتزج طعم العرق بطعم التربة وتغمر الملوحة العطنة أنفاسه...كم من الجهد يلزمه ليجتث الشجرة الميتة المرتسمة في صورة هاجر....

كان ينتظرهاجر لتأتي له بقهوة الصباح وقد فاحت من جسدها روائح الشامبو والصابون، إلى حيث تلك الحنفية يدلك جسمه بتلك الروائح التي تنبعث منها الفقاقيع الحارقة، يغمض عينية تطفأهما المياه المتدفقة، ولم يكن يتوقع أن تفتح له السماء أبواب دعائه السري بأن تفتح له الأرض مخابئها، اختفى طعم العطونة من أنفاسه وتسربت من تحت المسامات رعشات ووخزات. يجذب جثتها إلى الحوض، ويلقي عليها التراب، تنام هاجر نومتها الأخيرة....

 أما هو فعليه أن يحفر حوضا كبيرا مازال لا يعرف السبب من وراء حفره، ان كان لاجتثاث الشجرة أم ليحفر في علاقته بالأرض، أم لقتل هاجر ودفنها فيه. هو مطالب بالحفر في هذه الأرض المشققة وكأنه يهتك حجبا. وكلما أزاح طبقة إلا وتغمره تلك الرائحة التي أضحت لا رائحة لها... لقد تجاوز طول الارتفاع المتر بقليل وخيرة ترمقه عن بعد و لم تأت بعد... وكانت تدرك أنه ليس الاغتسال ما ينشده في تلك اللحظات... كل ما يستشعره تلك الرائحة الزنخة التي تبعث فيه رائحة الشهوة العطنة التي تتقيح في أعماقه كما بين أصابعه المشققة... تحمل فنجان القهوة وتغمز له أن الطقس شديد الحرارة وعليه أن يتخفف من ملابسه قليلا، وهو يبحث عن معنى كلماتها في نظراتها وحركاتها، اقتربت وجلست على حافة الحفرة وقد ألقت برجليها داخلها وهي تقول " هذه الحفرة تتسع لأكثر من شخصين، يمسح جبينه بمرفقه.... ويعلمها برغبته في الزواج منها....

 

 ترتمي خيرة في الحفرة، فارتمي في الحفرة بدوره، فقد بدت له كالأفعى في المغارة، يفتح أزرار المعنى، وهو ينفض عن الأرض ترابها ويشتم رائحتها ويستشعر أن الأرض صارت خصبة هذه المرة، تناسل العبث في تلك الحفرة التي اتسع قطرها واتسعت معها حدقتا عينيه.

بدت كأنها جذع رخو وهو يمرغ رأسه عليه، ويبعث فيه الرغبات المتوحشة. يتصاعد صوت الروح وهي تعزف ذلك اللحن المجنون. ويندفع لهاث الرغبة في حنجرته. في الحقول البرية كان يقتلع جذور العفة من تلك الأعشاب العالية وينفض عنها التراب ويكومها ويفترشها وينام حالما بجسد من حرير وبتلك المرأة التي تلين بملامستها أصابع يديه وملامس كفيه. يداه في اتجاه المعنى الذي لم تطأه الريح. فلا هو قادر على اجتثاث جذع الشجرة، ولكنه يوشي رحيق هذه الكائنات على كفه ويتشمم حلمه في انبعاث تلك الرائحة من رحم الرغبة البرية.

 

بدا منتشيا وكأنه شرب حد الثمالة و طفق يروى بعض هذيان الشعر. تعالت قمم الضوء وشمخت كفانوس يشق ثوب الأنوثة كشعاع الذاكرة في مرايا الزمن، يفجر الجروح في شرايين ذلك الرداء القشيب الذي غطى ثقوب الشهوة، يهفو على التراب يتشمم عبقه. كان يتلذذ حليب المعنى ويكور الكلمات، ويداه اللتان تعجنان أيقونة لحلمه البري تخضبان ملمسه بالتراب الندي، يشرع شهقة البدء. يتمدد على تلك الأرض الشبقة، يرضع حليب الأرض فترتخي، وتنثني.

تذكرهاجر التي التقاها في نادي الشعر...ورأى في نظراتها حلم الصبا القديم، فهو رفيق الصبا في مسقط رأسها في القرية الجبلية. رحبت به كما يرحب الواحد بنبش أسطورة لا معهودة، مكتوبة على الأيادي والأرجل برحيق النوار، وقد احتفظ بعطرها على الجسد الصغير المخضب بالريحان والمتدفق بأهازيج الصبا. وبقي الحاضر متعطشا لمعانيه النابضة بالحياة، يطل عبر مرآة العينين التاثقتين لحلم قديم في مرآة ساحرة... ولكن ماضيه كان مليئا بالانكسارات والخيبة...وحين التقته صدفة في نادي "الطاهر الحداد" استرجعت تفاصيل ذلك الحلم وتمنت لو تعيد عيشه من جديد.

 لم يبق غير خيرة تفتح بابا في ليل الفقر المظلم... طلب منها أن يذهبا سويا للبلدية لاستخراج المضامين لعقد القران... وفي الطريق، جعلها تسلك طريق المنزل المهجور... وعند المرور من هناك أدرك عنف المشهد، فطالما ابتلعت تلك المرارة المندفعة إلى حلقها كلما تأملت الخطوط المنكسرة، فكم انكسرت صورة جدها عبر ذلك الحدث الرهيب، وابتلعت طعم الفاجعة في ذلك اليوم الكئيب الذي انكسر فيه الجسر فغاص جسده في النهر، و طفقت تناديه وقد غاص صوته في لجة الصمت، انطلق صوتها كالسهم يخترق فضاء البلدة: "جدي أجبني لم انكسرت كما تنكسر العصا في الماء"... تذكرت صورة الرحيل المفزعة فاستحال وجهها إلى طقس ثائر وقد بللته أمطار من الدموع. يكاد الكابوس يخنقنها كلما انشطرت الخطوط، فتشعر بقلبها يغوص في هوة بلا قاع. جلست على عتبة المنزل المهجور وولت نظرها نحو الخلاء، علها تترك ورائها تصاميم المنزل المثير، وكأنها أيقنت أن الشرخ يلتئم عندما نتولي نظرها عن أشكاله المزعجة... وحين نهضت راودتها رغبة في كسر الهلع الذي جثم على أنفاسها وكاد يشل حركتها.. فتح الباب، وخرج ذلك الثري مع رجالاته، أمسكوا أحمد من كتفه، ودفعوه نحو الداخل، وطلبوا من خيرة أن تعود أدراجها....

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1421 الثلاثاء 08/06/2010)

 

في نصوص اليوم