نصوص أدبية

حضرة البليد (11)

كان الرجل نحيفاً متوسط القامة يصعب تقدير عمره، يمتزج فيه صوت الشباب وتهدم الشيخوخة، تشع عيناه بالحكمة والحزن والأسرار الدفينة.. جلس على التراب، وراح يحدث ضيفه:

 

قومك يا ولدي أضاعوا كنز النبي، نحتوا الصخر، نقبوا الأرض، خاضوا البحر بحثاً عنه، وفي عامهم الخامس والأربعين قاربوه، أزالوا عنه طبقات السنين، أوشكوا ان يصلوا بابه، وينثروا ذهبه على الناس، جلسوا يستريحون ساعة، فباغتتهم فرس الشيطان، حافرها ينثر بريقاً يأخذ بالابصار، فنهض فئة منهم، تكسوهم بلادة ظاهرة، ركضوا وراءها يجمعون البريق بأيديهم، ينطفئ فيستزيدون منه، لم يرهقهم الجري ولم يوقفهم اللهاث. ناديتهم أن يعودوا أدراجهم، أن يفتحوا الكنز فقد بانت عروة بابه، لكنهم مضوا وراء الفرس، يتسابقون بلهفة الجائع والعطشان، وكان أكثرهم بلادة أسرعهم عدواً، فأجشع القوم أعجلهم.. وأنا اتبعهم منادياً بالرجوع، وكنت آمرهم أمري كلما انعطف الطريق، فلم يستبينوا الرشد حتى جاوزهم الضحى، فبلغوا منطقة حصينة عند حافة النهر، ولجوها متدافعين، ينافس أحدهم الآخر، فانتهوا الى البركة المسحورة، وقد وقفت فرس الشيطان هناك، تصهل صهيلاً عالياً، ثم تستبدل صوتها بالنباح، وتعود تصهل ثانية، وتبدله الى عواء، ثم دارت دورة واسعة تنثر من حافرها البريق اللماع، فطفقوا يتقاتلون عليه، يجمعونه بأثوابهم، حتى بانت عوراتهم، لا يبالون بانكشافها، يشغلهم البريق عن سواه، وبقيت أصرخ فيهم أحذرهم من جمعه، وأدعوهم للعودة الى كنز النبي، فصرخ بي أحدهم، وكان من قبل يعرف بالخير والصلاح:

 

ـ يا صاحب الكوخ لقد جادلتنا فأكثرت جدالنا.

أعياني الكلام والصياح، فجلست عند النهر، فاذا بعجوز جالسة هناك، قالت لي:

 

ـ عد الى كوخك مسرعاً إن روحاً شريرة تحوم هنا، وإني أخشى عليك من كيدها، إبرح مكانك عاجلاً، واسلك طريق النهر، وسأبعث لك بأخبارهم بخرق من خماري هذا.

 

عدت الى كوخي وقد أرهقني الحزن، فأمضيت ثلاثة أيام محموما، وصرت أخرج عند الغسق من كل خميس، اجلس على قبر المعلم الأول، أقرأ سورة الواقعة، فاذا ما بلغت (ثلة من الأولين وقليل من الآخرين) ينفتح القبر ويخرج المعلم عليه ملابس من سندس واستبرق، يسألني:

ـ أصيحابي .. أصيحابي

فيسمع صوتاً يأتي من السماء يقول:

ـ لا تدري ما أحدثوا من بعدك.

 

فتكسوه غمامة حزن، وأسمع نشيجه خافتاً، ثم يعود الى قبره.. وقد بقيت على هذا الحال سبع سنين، حتى ذهبت يوم أربعاء الى النهر استطلع رسائل العجوز، فوجدتها قد ارسلت قطعة من خمارها فيها فراشة ميتة، فأيقنت أن الضوء قد انطفأ في نفوس البلداء.

 

أمضيت ليلي ونهار اليوم التالي على أحر من الجمر، أريد أن أشكو للمعلم ما حدث بهم، أتيته على موعدي، وبلغت (ثلة من الأولين وقليل من الآخرين) فلم أره يخرج، ولا سمعت كلامه، ولكني رأيت عمامته عند حافة القبر، متربة يعلوها الغبار، انضمت ذؤابتاها كذراعي محزون، وكانت تحتها أوراق قديمة، بحبر يبرق مثل النور، فأخذت عمامته وأوراقه خوفاً عليها من السراق والجند وتابعي فرس الشيطان، وأحتفرت حفرة عميقة، بين عظام اخوانك واصحابك، فتلك أرض لا يطأها شرير، ولا يقربها بليد.

 

:::::::::::::

 

توسل الرجل المقعد أن يريه إياها، يريد أن يقبلها، أن يضمها الى صدره، أن يشم عبيرها، لكن صاحب الكوخ أبى، وقال:

 

ـ أخشى عليها سموم خضراء الدمن، إنها ريح نتنة تأتي على حين غرة، يحركها الشيطان بسوطه، تحرق ما كان، وتبقي ما يريد أن يكون.

 

حط عصفور هرم على سقف الكوخ، حرك جناحيه باضطراب، فسقطت منه ريشة صغيرة، وقف مستأذناً:

 

ـ ارسلت لي العجوز رسالتها عبر النهر.

عاد مهموماً يحمل خرقة من خمارها، جلس على التراب خلف الكوخ، يبكي بصوت مسموع، يملأ الليل والعراء، فأدرك الضيف المقعد أن أمراً مهولاً آخر قد حدث.. خطى نحوه معتمداً عكازه، سأله عن حزنه وبكائه، أخرج له رسالة العجوز، كانت خرقة ملفوفة، فيها شوكة بثلاث شعب ولسان طير.. لم ينتظر سؤال ضيفه، انطلق يشكو:

 

كنت أهمّ أن أذهب اليهم، أنصحهم نصحاً أخيراً، فقد رأيت في منامي عربة من خشب، دواليبها من ذهب، عليها جمع من الرجال بوجوه واجمة، وعيون خاملة، يقطر من أصابعهم دبس التمر، يدفعها صبية صم بكم عمي، كلما خطوا أثنتي عشر خطوة إحترق دولاب منها واستحال الذهب رماداً، حتى أتت النار على ثلاثة دواليب، وفي نهاية الطريق كانت هناك هاوية سحيقة، عليها تسعة عشر، بأيديهم قضبان من جمر، ينتظرون وصولهم، وهم في شغل لاهين على عربتهم، يلعقون أصابعهم بين حين وآخر .. فاستيقظت من نومي فزعاً، أدركت أن ملكهم قد تصرمت أيامه، وأن عليهم تدارك ما تبقى، فليعملوا عملاً طيباً يقيمون به ما تهدم، ويصلحون ما فسد.

 

كنت يا ولدي اعتزم السفر اليهم هذا اليوم، لكن رسالة العجوز تخبرني أن ألزم مكاني، وأن أتحاشى الإقتراب منهم، فانهم بلغوا مبلغاً صعباً، فإذا ما وعظتهم، فأنهم سيكيدوني، كما كادت الجنّ لزعيم الأنصار فأردته بسهم قاتل.

 

أطرق ذو العكاز طويلاً، استرجع في رأسه ما كان طوال سنين، تحركت أمام عينيه الصور والأشكال، رأى وجوهاً وكتباً وأقلاماً، سمع اصواتاً من ذاك الزمان، لكنه يوم عاد الى أرضه، لم يجدها كما كانت، فأدرك أن البريق اللماع غطى ملامحهم، تباً لفرس الشيطان ماذا صنعت.

يا صاحب الكوخ، إن زرت المعلم يوماً فقل له إني اختزن دفاتره في صدري.

نهض يعتمد عكازه، مضى صوب الحدود، هجرة ثانية حتى حين.

 

يتبع، لم تنته بعد.. فالحكاية طويلة جداً.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1422 الاربعاء 09/06/2010)

 

في نصوص اليوم