نصوص أدبية

مدارج العودة (14)

وأطبق الفم المزموم الشفتين كأنه أطبق على سر دفين يأبى الانفراج. لكن أنفه الشامخ يأبى الانصياع في وجهه الثائر الكئيب. بحث في النظرات المصوبة نحو الأعالي عن بريق من الطمأنينة.. لكن النظرات تأبى الانحناء. تناول سيجارة فغاص وجهه المتجهم في لجة ظلام الغرفة الواجم...

الكرسي الذي يدور بأحمد بشكل قياسي، الأقنعة الشيطانية المخيفة، الهياكل العظمية... اللون الأحمر المبقع على لوحات دون صور ودون أشكال... الألم... الأم الغائبة... زوجة الأب الجلاد والمغتصبة... الفقر... الجوع... الأطفال الذين ضربوه بالحجارة... الشعر الوهمي... خيبة النشر... خيبة الزواج بهاجر...ماذا لو تزوج بهاجر؟ ماذا لو انقلب الأمر وتحول إلى وجه ثقافي؟ ماذا لو؟ وماذا لو؟ وماذا...؟

فقط، عليه أن يقول لأحمد " حاشى اسمه ": " ستصبح صحفيا في القسم الثقافي، ستصير إسما له وزنه، لا يقف أمام قلمك أحد حتى كبار المثقفين... أنت واحد من جماعة "غاياكي" الذين يغنون ليلا أغنية ذكورية بلا فعل في مجتمعات الهنود البدائية... أنت لا تعيش دون وهم...سأزوجك أختي، وأهبك اسما، سأزرعك ولن يجتثك أحد، وإذا تعرض لك أحدهم أو نقدك أو شتمك... تليفون واحد مني وسأدمره "... سيعتقد أن الساحة غابة وتتجلى كامل طاقاته الشيطانية... أما إذا تجاوز القانون... سيكون أول من سيضحي به، وسيرفع عنه يده... سوف يرد له الصاع صاعين... سيستخدمه... ويمرر به عمله السينمائي عن "جماعة الشيطان"... ولن يربح شيئا عدا سوء السمعة وبعض المليمات... لن يكسب دارا ولا سيارة ولا رصيدا بنكيا... فقط، سيملك رصيدا ضخما من الوهم......ككل الواهمين الحاقدين...

كان هذا ما يشغله وهو يتفحص ملامح ذلك الوجه الشيطاني الذي أغراه ليجعله يجسد دور الشيطان القادر... لقد ضبطته الكاميرا وهو يهمس لزوج هاجر في أذنه، ليهرب ذلك الأخير قبل أن يدخل بزوجته... هاجر العذراء التي دنس شرفها بكلمات عابرة... ليس ما يعنيه أن تحصل أخته على غرامة كتعويض عن الضرر، فليس المال ما تنشده العائلات الكبيرة الثرية، كل ما تنشده أن ترد اعتبارها بحدث يبرز صورة الشيطان في الواجهة.....

 

لم يكن ذلك الثري يرى نفسه من "جماعة الشيطان "، وإنما كان يبحث عن الملامح الشيطانية القادرة على تجسيد هذه الأدوار، لقد تمكن صديقه الفرنسي من إيجاد دعم لإنتاج شريطه عن " عبدة الشيطان "... وكان يرى خيرة واحدة منهم... لقد ولت خيرة أدراجها بعدما أدت دورها ك"كمبارس" في شريط، لأنها كانت قادرة على آداء ذلك الدور لاشعوريا، وتهييج غرائزها عبر الأقراص سهل قيامها بذلك الدور...فهل انتهى دورها؟ أم أن دورها سيتجدد بتفجير الطاقات الشيطانية لأحمد " حاشى اسمه "...كما كان يردد دائما....

 أيقونة الشيطان، قادرة على تصفية حساباته مع أعداء توجهه وهو يهم بإنجاز الشريط... خمن أن لكل مشروع ثقافي أو صدمة ثقافية سينمائية، لا بد من دعم النقاد، ولا بد من مساحة هائلة من الوهم... والصحفيين المرتزقة الذين تنفخ في صورهم... خيالهم الشاسع يجعلهم يرون أنفسهم أنهم الأقوى... سيضيف هؤلاء جميعا الذين أطلق عليهم اسم " جماعة غاياكي " في الضيعة، ويذبح لهم الخرفان، ويعطيهم بعض الدنانير... وقوارير الخمر الرفيع، والسجائر المستوردة، والأقراص في الشراب... ليهذي كل واحد منهم على طريقته....

 

" الليل، يا ويحهم، يأتي فيفصل بعضهم عن بعض كل واحد يستغرق عباب احلامه، وأي احلام، برابرة... وثنيون، وحده الموت ينقذهم من عربدة وقسوة الإنسان "...

 وحين ضغط على الزر، وتوقف الكرسي عن الدوران، وارتج ذهن أحمد، فسر له أن الرجات ضرورية للذهن، و أن كتاب بيار كلاستر" مجتمع اللادولة " قد قلب تفكيره رأسا على عقب... فقد كان يرى خيرة كواحدة من هؤلاء الذين عانوا ويلات التعذيب في المجتمعات البدائية، واسترجع مقولة كلاستر " إن قسوة القانون لا تنسى... إن الكتابة هي القانون، والقانون يسكن الكتابة... سلطة القانون المحفورة على الأحجار المتجلية في المظاهر الخارجية والمرسومة على المخطوطات " وعلى الجسد أيضا... الجسد مساحة لكتابة القانون. مساحة شاهدة على ذاكرة الألم عبر الجروح والخذوش والأوشام وكل أنواع التعذيب القاسية التي تشوه البدن، ليستحيل الى ذاكرة حية تحتفظ بكل تفاصيل ذلك القانون الملقن بطريقة سادية، ذاكرة تحتفظ بسجلات معارفها عبر طقوس مأتمية تنحت انتماء هؤلاء إلى الجماعة.

" إن احداهن لم تستطع تمالك نفسها عن التأوه تحت وطأة نهش الأشواك لوجهها، مما أغضب المرأة العجوز التي كانت تعذبها: " كفى وقاحة، أنت لست بغالية على سلالتنا، أيتها الفتاة المسخ... إنك غير جديرة بالزواج من أحد أبطالنا أيتها المدذورة "...

فما الفرق بين خيرة، وبين فتاة في مجتمع بدائي تذعن لقانون بدائي يسعى الى إكساب الشباب الصلابة ويحدد مراتب المساواة ويجذر الانتماء الى القبيلة؟... كل هؤلاء يحملون نفس الأوشام والخدوش... ولا قيمة تحدد تميز الواحد منهم... إن تلك الكتابة لغة محنطة، تشل التفكير ولا تدفع به نحو الخلق والابتكار والإبداع، لذلك ينفلت الابداع الحقيقي عن سجلات الذاكرة ويعبر عن تجربة متفردة... ولذلك لن تكون خيرة مبدعة... إن القانون الملقن لها محفور، منقوش، ثابت وسلطة القانون تعبر عن تسلط بالأساس... إنه تجريح يمارس على الجسد، تنعدم رغبة التحدي رغم معاناة البعض لكنها لا تتجاوز مرحلة الالم العقيم إذ لا وجود للغة داخلية عميقة، وهذا يدل على انتفاء اللغة للقصد الذاتي - تماما لتحل محلها لغة الأجداد الجاثمة....

" الجلادون يقتربون، يتفحصون جسد الضحية بدقة متناهية ولكي يتوقف الألم، يجب على الملقن أن يموت بشكل تام، أي أن يتلاشى "

 خيرة كائن ميت، إن القانون الذي حفره جدها، قانون أشبه بالعادات التي ترسخ عبر التكرار وبقاءها لمدة طويلة... يحفر على الجسد بعنف وقسوة لما يتميز به من إحداث الألم العقيم لتعكس صورة من صور الذاكرة المؤلمة " فقسوة القانون لا تمحى "، فتلك اللغة خلدت في ذاكرة الجسد ليمتص الجسد القسوة عبر شروخه وانكساراته، ويستحيل الى " مفعول به "، هذه العملية تحيلنا الى الانسان عامة فمنذ طفولته يعيش حيرة وجودية بمثابة اسئلة محرجة، تعبر عن حركة فكرية، وعن حيوية باطنية سرعان ما تخمدها الاجابات الجاهزة، لا تقنع الطفل، لكنها سرعان ما تحول الذات الى هامشية حين ترسخها أدوات التربية والياتها...

 هذا ما شرحه له دون أن يمضي في شرح وجهة نظره عنه كقناع جديد للعبته الفنية، لقد قرأ وهم أحمد في ذلك الكتاب: " إذا كنا نستطيع الكلام عن اغنية جماعة غاياكي بما هي اعتداء على اللغة، فحري بنا القول أنها الملجأ الذي يحميها... لكن هل باستطاعتنا أن نسمع من هؤلاء المتوحشين التعساء درسا بليغا عن الاستعمال الصالح للغة؟ "، لا شك أن قراءة هذا الفصل أكثر من مرة جعله يدرك القيمة التي تصبو اليها الاغنية الذكورية وقد استحالت إلى قصيدة... إنها تعبر عن وجود الانسان داخل لغته دون ان تتحول ال فعل، مجرد حلم معبر عن الحرية المغلقة المغلفة بالوهم اذ تقف عند حدود الشخص المستنجد بالوهم والذي يخفف من حدة مأساته المتمثلة في عدم القدرة علي تبادل الخيرات والنساء... إنها مجرد تكيف حالة خيالية لا تعبر في الحقيقة عن مهارة فنية فائقة ترتقي الى الفكر اذ تحقق الوجود السعيد ليلا، لا تحركها غاية تاسيسية. وهنا عثر على مكمن لغة أحمد " حاشى اسمه "...

ان التعمق في الالم نهارا والاذعان الى نظام قبيلة غاياكي يؤدي الى إجهاد يرتوي بفيض عاطفي... فهذه الشحنة العاطفية التي تمنحها الأغنية تقاوم الألم وتبدده من خلال تحقيق السعادة العاطفية لأنها حالة وهمية غير حقيقية... فالوهم يحول الألم إلى سعادة... وهو لا يعكس البحث الفكري... الألم يأسر الشعور بتدفق الحياة حين ينطوي الشخص على آلامه... لكنه سرعان ما يأسر قلقه ألم عقيم لكنه فعال حقا على صعيد الذات فحسب... ويعكس الألم العقيم أغنية المرأة في تلك القبيلة، وهي عبارة عن "نواح وأنين"... إنه يجسد ذعرا من تحدي مأساة الوجود الاجتماعي، فيغيب الجانب الإبداعي عن أغنية النساء... فهي تجسد مشاعر البؤس والضآلة....أحمد وخيرة هما أحد أفراد قبيلة غاياكي... ولا بد أن يقعا في أسر جديد في المدينة... يتزوج أحمد بهاجر، وتصاحبه خيرة لخدمة هاجر... وهناك يثبت أجهزة الكاميرا الدقيقة.... ويسقط أحمد وخيرة في الحفرة... ويطلع "روح أحمد" حاشى إسمه، ويحركه كدمية....كلما اصطدم بحاجز الوهم المرعب....

 وحين عرض على أخته أن تتزوج أحمد زواجا صوريا، وترد الاعتبار لها حين تكشف فضائح أحمد "حاشى اسمه "... كانت تسترجع وشائج العلاقة التي كانت تربطها بأحمد، وتود لو تصرخ في وجه أحمد ليتوارى عن مخيلتها. وتتراءى صورة أحمد وهو يركض بين منعطفات الجبل والغابة والبحر والنهر وكأنه يبحث عن معنى غائب. وتعود إلى ذهنها تفاصيل حكايته التي جعلتها ترنو للعطف عليه دون أن تستطيع التعلق به كشخص بل كصورة لماض تعلقت ببعض صفحاته. ربما لم تكن تريد أن تدرك معنى ماديا بل معنى صوريا يتوهج بمتعة العاطفة لتهبها متعة التخيل الفني.

 فسر لها أخوها أنه سيكون زوجها على الورق ليس إلا، فلم يشأ تركها لوحدها في مواجهة ما حل بها وأصر على تزويجها، لم يعد أحمد يحلم بالزواج من هاجر لكنه عرض عليه فكرة الزواج الصوري عليها مقابل سكنه في الطابق الأرضي لمنزل اشتراه لأخته في البلفدير في العاصمة، وحصوله على المصروف الذي سيصله شهريا. وبرر له ذلك بأنه ارتأى فيه صورة الرجل الحازم القادر على بناء عائلة حين يتخرج والذكر الغليظ القادر على حماية أخته، وأنه سيكون مطمئن البال، و وما عليه إلا أن يلتزم قليلا من الصبر إلى أن تنسى أخته صدمة هروب عريسها يوم الزفاف ليصبح زواجهما طبيعيا....دون أن يعلمه أنه تفطن لوشايته.....و اقترح أن تنتقل خيرة معهما لتساعد هاجر، وتغير الأجواء القاتمة......

وإثر ذلك الزواج الصوري لم تكن هاجر مستعدة للحديث معه عن انكساراته وشجونه، كانت تكتفي بتفحص الصورة وهي ترتد بها لمغاور الذاكرة. وكلما اخترق لحظات تأملها في صور الأشياء من حولها كانت تستشعر أن صوته يلبس أسئلة العواصف ويعبث بأغصان السكون. حاولت أن تقيسه بحكايات زمن الطفولة ولكنها لم تمن بشيء. كانت تجهد ذاتها وهي تستمع إليه بلامبالاة وكأنها تسد أذنيها وتخترق اللحظات المعلبة نحو الوجود المتسع. وحين يغادر نحو الطابق الأرضي لينام، يتسرب الحنين إلى مساماتها فتتعرى اللحظة من عبثها، وتحس بنبل الشعور الآسر لحالة الضيق، فتتنفس الصعداء، وتستحيل لحظات الوحدة إلى حالة هدوء ساكنة.

 كان ملتزما بذلك الزواج الصوري وهو ينام في الطابق السفلي. ولكن في إحدى المرات تقطع صوته بعيدا وهو يعاتبها: لم تعامليني بصمتك هذه المعاملة القاسية؟ لم لم تبد لي لينا ولو مصطنعا، ولم تتبرعي لي بملامح تجذبني إلى بعض الألفة...وكانت تتفحصه كمن يبحث عن شعلة الصبا في توتره، في جرأة نظراته البريئة، وكم رصدت خيانة الماضي في سكون الليالي، في تلك النظرات التي تجرأ على فضح ما تكتمه الكلمات، ولكنه كان يفصح عن تغير طبعها نحو الأسوأ، وتجرأ على لعن الزمن الذي يجعل الإنسان غير قادر على تلبية رغباته، وأقر أنه كان يحب البراءة في انفعلاتها الطفولية وفي صخبها، في تمرد اللغة على صمت تفكيرها، لكنها اليوم وارت سر البهجة في أشواك جحودها، لقد غيرت حدة قسمات وجهها لوحة الماضي، وبذرت العناد، وصدت حنين الأمس: وكانت تردد أن الحياة أفقدت صوتها علها تتأمل ما حل بها من وهن...

يتبعها أحمد إلى الشرفة ويتساءل بإصرار: لم تهربين من نفسك وتطوين صفحاتها؟

وتتساءل في سرها: ما القصد من كلماته؟، وتلبث تدقق فيه النظر وتتابع رنين صوته وتتجول في إحدى الدروب التي أضاعت الذاكرة عنوانها، ثم تجيبه مستفسرة: ومن أدراك؟

- لم تتشجعي، ولم تسمعي الكلام الذي أود قوله لك...

- ترد بضيق: لقد كدت أختنق وأنا أستمع إلى تلميحك حول الزواج الكامل، فانسحبت من قاعة الجلوس وأنا أقاوم شعوري بالانهيار....

- يبدو أنك لم تجربي الغوص يوما ما ولم تتعودي على السباحة في البحور الصاخبة ولم تقرع أذنيك أجراس الحزن..

-...........

- فلندخل........

تقدم إلى الغرفة وكأنه يطلب منها اتباعه لكنها تسمرت في مكانها لتتأمل جيدا حركاته المستقيمة كخطواته المنتظمة...

قال مستفزا: يبدو أنني سأوجه لك السؤال نفسه: لم تهربين من نفسك وتطوين صفحاتها؟

شعرت بثقل كلماته وهي تجيبه: إني بحاجة إلى قليل من الهدوء.. إن وجدت عيشنا ناقصا فبإمكانك أن تطلقني.

نظرت له بريبة وقد باغتتها رغبة في الهروب إلى مكان مختلف، تراءت لها صورته وهو يشرح كلماته بمعان متوترة، غير أنها كانت فطنة وهي تقول له:

- لقد أقحمتني في شؤونك الخفية. وما أدركت مبررا لذلك. فلم تغريني إلى الدخول إلى البحر الصاخب المشوب بالقهر؟

- إنك تصرين على رفض دعوتي لكنني سأنتظرك في الداخل..

ربت على كتفها وقال: لم لا تتركي لنفسك فرصة للاكتشاف عوض إبداء الامتعاض من طلبي...

- لا، يعني لا، هذا آخر كلام...

اصفر وجهه، و انصرف بعدما صفق الباب بعنف، ابتسمت ببرود، وأحست بالراحة، دخلت سجنا رهيبا وتحررت منه.. ومنذ ذلك اليوم لم يصعد إلى الطابق العلوي.. بل صارت تضع له مصروفه تحت باب الطابق السفلي... إلى أن اتصل بها أخوها ليعلمها بأمر مهم سيغير حياتها، ويرد لها كرامتها..........

مدارج العودة ( 15 )

هيام الفرشيشي

المساء موحش. تقلب الجو الدافئ إلى جو عاصف. يضج صوت الريح، يحدث صوتا كالفحيح القادم من مغارة بعيدة، يتموج الصوت ويتقطع ويبلغ صداه روحي... صوت الريح حانق، كبؤس الراعي حين يترك مزماره الشادي، ويبحث عن قطيعه التائه. الصوت مكفهر، كالسحب السوداء، كالليل الدامس في السحب المختبئة، كالأمواج الثائرة... أتأمل بين طيات نفسي مشهد البارحة حيث استقبلتني هاجر بطيف شاحب لصورتها، صافحتني بفتور وأدخلتني غرفة الجلوس. اتجهت نحو الشباك تغلقه، وأسدلت الستار. التف الظلام بالغرفة فشعرت بالانقباض، واستفسرت: - لم العتمة؟

تجهم وجهها وهي تشعل شمعة...إصرارها على الصمت، وعلى التصرف بغرابة ما جعلني أشعر بثقل اللحظات... قطعت الصمت متسائلة: كم شمعة انطفأت بنفخة الواحد منا؟ كم أشعر بحاجة لأكسر عقلي بمطرقة قبل إخبارك... لكن ما عساي أفعل، أنت صديقتي، ولا ظلام الدنيا يتمثل قسوة الظلام الذي أحمله بين جوانحي الآن... شبكت يدها النحيفة بيدي وضغطت على أصابعي بعنف...

 - اطفئي الشمعة وأزيحي الستار...

- عفوا سأحضر لك شرابا باردا...

اللوحات الكبيرة المعلقة على جدران غرفة الجلوس التي ارتسمت عليها الألوان الباردة والمؤطرة باللون الذهبي كفيلة بتهدئة مزاجي وإن اكتسى وجهي بملامح هادئة مخادعة، عاد حلمي القديم في هذه اللحظات بممارسة فن الرسم، ولكن الرسم مهارة وجنون فاستعضت عن الرسم بالكاميرا... في حين كان هاجس الكتابة يستبد بي....

حين أحضرت كوب العصير، كنت قد تناولته جرعة واحدة وهممت بالمغادرة. ربتت على يدها ورجوت لها الصبر... لكنها قطعت علي الطريق لتعيد تثبيت صورة الشجرة من جديد... تلك الشجرة التي لا تحمل أوراقا وارتسمت كلوحة عبثية اقتلعها أحمد من حوش خيرة... تلك الشجرة نفسها هي الشجرة التي تقع في مدخل منزلها بالفلدير، لكنها لم تكن ميتة، ولم تحزن على فراق الأجداد، كل ما في الأمر أن صفعات الريح عرتها من أوراقها....

دوامات الريح تعصف بالشجرة، تصفع أغصانها، تجردها من أوراقها. تتعرى الشجرة، يشمخ هيكلها ويتجذر جذعها في الثرى. الشجرة عارية بعدما خلعت ثوبها الأخضر... ويأتي أحمد كرجل غريب هارب من العاصفة، يمسك بجذع الشجرة، يتشبث به، يلتحم به، يقاوم عصف الريح. الجذع ثابت والأغصان تختض، وهو متشبث بالجذع. لامست شفتيه عبير الجذع، ولم يعد يبالي بوقع الريح يصفع ظهره. وتطل عليه هاجرمن بلور نافذتها، يتفحصها وتتفحصه، يتشبث بالجذع، ويتشبث بالحلم....

وهو يوجه نظره نحوها، يرى في تلك النظرة دعوة ما، وتمنى مرور العاصفة لتستحيل تلك الأنثى إلى شجرة. يقتلعها من الثرى ويمددها على الأرض.... ماذا لو ضخت الريح جبروتها في هذا الجذع المتكلس، واستحالت إلى فأس تهوي عليه وتشقه إلى نصفين لتنبعث رائحة الرحيق العبقة. ماذا لو مارست نلك الأنثى فنها القديم وألقت بجسدها للريح، أو فتحت أزرار الرغبة الجامحة. أو فتحت له باب بيتها بأنامل مرتعشة وروح هشة مخدرة بنعاس العشق. بدا كأنه يحلم أن تصرع دوامات الريح أبواب منزلها وتشرع نافذتها ليؤويها إلى أحضانه. ماذا لو نادته وفتحت له سرائر جسدها وجاب تضاريسه بأنامله...تلك المرأة الشامخة كالشجرة، حين نادها لم يعد عابئا بدفع الريح. كان ممسكا بسياج الشرفة يدفع الباب الخارجي ويندفع إلى المنزل ويجد نفسه في مواجهة المرأة الباردة. لم تعد مغروسة في التراب تلك المرأة.

لقد وجد اتصالات متكررة منها على هاتفه الجوال، قائلة أنها تريد رؤيته على الفور، وحين سألها عن سبب اللقاء في ذلك الجو العاصف، ارتبكت، وعللت رغبتها في الحديث عن موضوع مهم. راودته أسئلة عاصفة. ماذا تريد أن تخبره؟ هل يخصه الأمر أم يخصها؟ لم لم تؤجل حديثها إلى ما بعد العاصفة...

شغلت أجهزة الكاميرا بالطابق السفلي، تلك الأجهزة المثبتة في كل ركن من الأركان، ثبتها أخوها دون أن تعلم بها، وعلل ذلك بأنه لم يكن يعطي الثقة الكاملة لأحمد، وهي أجهزة دقيقة وصغيرة لا تستطيع العين التقاطها، فقد تحولت الكاميرا بالنسبة إلى أخيها إلى هاجس يراوده في كل تفاصيل حياته بعدما درس السنما بفرنسا... ترك لها الأشرطة لتشاهدها بمفردها....

خيرة التي جرحت يدها وتخضبت بالدماء طلبت منه أن يجردها من العقد والإسورة والخاتم، " صياغتها " التي ورثتها عن جدتها... هذا عقدها وهذا خاتمها وهذه إسورتها التي طلبت منه أن يجردها منها، هدية منها، يأخذ هذه الأشياء كلص محترف وقد لمع جسدها في بحر الألوان وتهب وجهها للماء.. انبلجت الدماء المضرجة على الضمادة البيضاء كالحناء في لحظة كالضياء.. بدت كفه كخرير مياه يروي الصحاري ويروي ظمأ سنين الحب في جسد جائع. تمتد يده وكأنها تقطع مسافات التاريخ بأرقى التجليات. وكانت لغة يده أرقى من سحر الكلام وعذوبة المشاعر... أهذه حكمة جنونها؟ هل تعطي كل ما عندها من أجل لقائها الحميم به؟

باغتته بهذا الشريط من شرائط عديدة تركها لها أخوها...في اللحظات الحاسمة، كانت ستعرف كيف تصفي حسابها معه. وكان أخوها يعتبرها خطوة أولى لابتزاز أحمد ليواصل تنفيد توجيهاته بتصفية كل أعداء الفكر العلماني المنتقدين لرؤيته المدنسة للمقدس..

ذلك المساء قررت أن لا تواصل مشوارها معه ودعته ليبحث عن غصن أخضر يخضب جراحه، هي من صلبها الكبرياء فلن يترقب منها وجبة بدائية كخيرة. وكانت لا تصور الزواج كحلم طفولي تستعيد تفاصيله، بل مجرد صفقة لتصفية الحساب القديم...

- أنت بائس، أنت حقير، تنهش لحم خيرة من أجل المال... أعد لها "صياغة جدتها " وإلا لن أرحمك....

- إن الغوص داخل كلماتك سيواري بشاعتك التي تدوسين بها على الناس أمثالي...

- وتتشفى بهذه الفعلة؟؟

- أنت إنسانة لا قلب لك وتدعين التعاطف مع خيرة، قلبك صخرة، انت قاسية وتدعين الطيبة، هل تذلينني بهذه الشرائط؟ بالمصروف الذي تضعينه تحت الباب... وتشعرينني أنني حشرة...

- الحشرة تؤذي، وتترك سمومها على الجسد البشري، معاذ الله لم أقل أنك حشرة، ولكن الكثيرين يرونك فيروسا ألقي لتسميم الساحة....

- طيب أنا فيروس، ولكن من ألقى بي؟ هل جئت لوحدي؟ كل ما في الأمر أنني أريد تكسير الأصنام....

- نبي أنت، أم صاحب رسالة؟ أنت مخرب... أنت آداة...

- والسيد الثري الذي يستغلني، ويبتزني هل هو حشرة بدوره أم شخص نبيل رفيع؟

- أخي أرفع منك... أخي تاجر فن.... وجد الخميرة جاهزة... فأعطاكم فرصة للاتجار بكم جميعا...

- الكل في مستنقع واحد... ذلك هو الواقع.... أما أنت أيتها الرسامة الحالمة، فقد تجاوزك الزمن، وتجاوزتك الأحداث... ولم يبق لك إلا المال يسند آرائك البالية...

- جميل أن يسند المال بقاء القيم....

- لو لم تكوني شقيقة السيد الثري لقمت عليك بحملة تدنسك وتحط من قيمك التي تتشدقين بها....

- حقير، مرتزقة، منفوخ بالهواء وبالوهم، مجرد خادم لتمرير مشروع علماني فلا تعتقد أنك شخص رفيع، أنت تروج لبضاعة فاسدة، ولكن من يسمعك؟؟ الناس لا يسمعون أمثالك...

- عيب عليك، عيب عليك، أنا فلان، أنا...

 

- أنت من جماعة غاياكي، أنت واحد منهم، يردد " أنا صياد عظيم أقتل بسهامي "....

 أتركك لأوهامك....

 أدركت أن أحمد يعاني من العصاب جراء نقمته على الناس وشعوره بالمهانة والاحتقار كلما وضعت له مصروفه تحت الباب.. لقد ذبحه الفقر من الوريد إلى الوريد.. اقتلع بذور الانسانية من وجدانه وزرع فيه الكراهية، حين بدا لها على تلك الصورة أدركت أنه كان بركانا خامدا وقد ثار ليحرقها به.... رمى على وجهها مصوغ خيرة، تراءى لها المشهد في صورة عنيفة زعزت كيانها. وقد تفحصت خيرة الفزعة تنكس وجهها في قاع الغرفة، ولم تفق إلا على وقع الوجع ينخرها ويفتت مشاعرها ويشل تفكيرها، لم تتساءل عن أسباب نقمته عليها، لكنها وصلت إلى حقيقة واحدة، إن هؤلاء لا يستحقون العناية، فسجلات الخيانة أشقى على نفسها من كل هموم الحياة...

- سأتزوج خيرة... وآخذها معي الآن...

- خيرة لن تغادر هذا المكان قبل الطلاق، فلتغادر من غير رجعة....

دفعته نحو الخارج، نحو عصف الريح يصفعه ويجلده، ليطل وجهها في المرآة هادئا باردا، فصرخت في ذاتها: تحركي أيتها التمثال، بددي غموضك؟ جرحي كلماتك... لن يعسر الكلام ولن يتوارى عن أعماق الصمت.. اكتشفي في صخب الايقاع ما يبدد صدمتك..

 خالت نهايتها في خضم المسالك الواعرة.. لكنها تقولها جهرا لنفسها وهي تهذي: "لن تموتي، ولن تخبئ وجهك في زوايا التركيبات الزائفة ولن تطليه بغشاوة الفوانيس الحالكة. فمهما عبث به عصف الريح فلن يقهر العبث، سيفتح لها مدرسة التائهين، سيعلمها حكمة البحث عن المجهول واستمداد المعنى من اللامعنى، واستمداد الدلالة من اللادلالة حتى ينير بفتيل الشوق للمعرفة...

 أما خيرة فقد اكتسحت نظراتها بالحلم، رأت في تيهها صورة أحمد يجيء بها كعروس على الجحفة في القرية الجبلية.. ترى في لهب الشهوة زوجها يرفع حجاب الخجل ويبوئ ركح الجسد. كمن يرفع الستار عن الظلام من حوله. كفها المخضبة بالدماء، حناء أمه، هذه بقايا العاصفة. اندمل جرح الذكورة بجرح الأنوثة فلم يتبدد لون الشهوة الأولى. تطلع إلى جسدها المرتبك أطلقت عليه ثورته فاغتال يقينه وحول أمنيات المثال إلى شظايا الرمز، فكتبت بالحبر سرائر الجنون التي تغزو خرائط الكتمان. وارتوى ذلك الجسد المتصلب من منهل متدفق بالنشوة. انبلج الحلم أشقر يلون سبيلها، فسحة يأوي إليها الحائر وواحة يأوي إليها المتشائم. ودروب يهذي فيها الحالم.. انبرت ذاتها كتحل أسرار الحلم وتفسر معاني الألوان وتفك صور الصمت والكلام. الأبيض سبيل الحلم وراية انتصاره، آيات التفائل الصادقة وأسرار الأمل المقدسة... الحلم صور الفرح المرسومة على ستار الليل الأسود بالحبر الأبيض شاهد على رنين الزمن.

توارت تلك الصور والكلمات حين تلاشى صوت هاجر المتقطع الجاثم كالجليد... في مرايا الحلم وهي تتوعدها بإجهاض هذا الحلم: تبا لنهار يهبك نورا اصطناعيا يخسف أعماقك ويطرف نظراتي الشغوفة بالأفق. تحدثي عن الشجرة التي اجتثها أحمد لتتحول إلى قبر يسعكما... هيا تحدثي، تحدثي، لم هذا الصمت، سأرفع في وجهك العصا لتتحدثي عن المكيدة التي دبرتماها لي... لا تقولي أنك بريئة، فقد ضبطتك الكاميرا تتوجهين إليه بعدما همس في أذن العريس وصاحبك للحوش، وفي ذلك الصباح اجتث الشجرة ورماها أمام الحوش، وأخذته إلى المنزل المهجور...

طفقت تستعيد الحكاية وتعيد تثبيتها مكان الشجرة التي تقع في مدخل منزلها الشجرة. التي عراها عصف الريح، وحلت محل خيرة وهي تنظر له بازدراء وهي تراه في صورة عامل جلبته ليحفر مسبحا صغيرا، وكانت تنبعث من عينيها نظرة ازدراء وهي تقول له: "عندما تنهي عملك فاغتسل تحت دوش الحديقة. يوجد في هذه الحديقة الخلفية دوش ومرحاض وغرفة صغيرة عليها فراش حديدي، ومرهم يعالج تشقق أصابعك المتيبسة"، وينظر لها بشك وكأنه لا يقتنع في قرارة نفسه بفكرة المسبح الدائري الصغير. سيدة المنزل تغادر نحو مقهى، ولن تعود إلا بعد ساعتين، وخيرة لا تكل عن مراودته...

استمعت إلى حكايتها وقد ايقنت أن ذلك الرغيف الذي كانت تتسلمه لم يكن يشبع جوعها....في أعماقها شعرت بحالة غثيان وتناسل المرارة الحارقة في هوة آسنة.... استحمت تعطرت ثم ارتدت بدلة أنيقة. انتعلت حذاء جلديا ذي الكعب العالي وتجملت بطريقة محت قسمات وجهها الحادة وأضفت عليها هالة من الهدوء ثم سرحت شعرها ليسترسل على كتفيها بنعومة، وتكفلت بحجب نظراتها القلقة بنظارات سوداء. أغلقت إحدى الغرف على خيرة ورمت لها ببعض الأكل وقارورة ماء... وأحكمت قبضتها على حقيبة يدها. وغادرت نحو منزل خالتها القريبة علها تواسيها...

تناولها خالتها عصير البرتقال وشرائح الكايك، لكنها تشعر بمرارة في الحلق و لا تحبذ طعمه وتشعر ببعض الازدراء وتكتفي بغمس أحلامها في الجبل كما تغمس الرغيف في خبز الطابونة في صحن العسل وزيت الزيتون، وتنبعث إلى أنفها روائح الاكليل والزعتر... وتسترسل زخات المطر في تتابع، وهي تتأمل مشاهد المكان من بلور النافدة للمنزل الكبير القابع على الربوة.

لكن خالتها قطعت صمتها ولحظات تأملها بصوت مبحوح:

- أين زوجك لم لم يرافقك؟

-..............

- ألم تجدي رجلا غيره تتزوجينه؟

- سأطلقه كما تزوجته.. انتهى كل شيء..

اتسعت حدقتا عينيها، لكنها أمعنت في التصدي لفضولها: - غدا سأخبرك بكل الحكاية، الآن أنا متعبة من عناء الطريق؟

- والعشاء؟

- شبعانة....

كم تود السهر مع خالتها في هذه اللحظات المتكلسة، حتى وإن سردت لها كل تفاصيل الحكاية...

تقول خالتها: هل قدمت الطلاق حقا من زوجك الزاني؟

تبتلع ريقها، و هي تشك في معرفتها للحكاية، لكنها تسترسل في الحديث عنه: لو وجدته أمامي لأشبعته ضربا بالعكاز الذي أتكئ عليه...

- لماذا؟

- لأن أمك طلبت مني أن أحرصك منه بعد تلك الفعلة التي فعلها ولد الشانعة ليلة زواجك الأول... لقد أخبرتني أوخيتي بكل تفاصيل الحكاية...

- لا حكاية ولا رواية، لا تغتمي خالتي، طلاقي منه ليس مشكلة، ما زلت عذراء...

- موشي راجل، ويتبع في النساء...

- كان زواجا على الورق وانتهى الأمر، وسنطلق بالتراضي...

- مكتوب بنيتي مكتوب...

لفظت هذه العبارات، لكن كلمة المكتوب طفقت تدغدغ ذاكرتي وتكتب بخط عريض في هذه المنطقة..

 

 

 

 

 

في نصوص اليوم