نصوص أدبية

أتابك وبعده ساجدة – فقرة من رواية

لم تكن النافذة بالنسبة لأتابك انعتاقا من الغرف والقاعات المقفلة، ولا مساحة من الطيران الحر في الفضاء. ولا أدرك في يوم ما الحكمة من بناء النوافذ أصلا. وربما كان يعدها بمثابة محرض على ارتكاب جريمة. وهذا ما حدث بالفعل، فقد دفع زوجته لتقع منها وتموت. أحس آنذاك بشيء ما يهوي. ولم يكن متأكدا مما صنع. ثم قدر له أن يراها في الأسفل كما لو أنها رغبة غابرة. وخيل إليه أن شيئا ما سوف يصعد منها إلى السماء. لكنها لبثت راقدة هناك لا تستجيب لتكهناته أو توقعاته. كان أتابك قد غاب عن بصرها وإحساساتها وامتلأت رؤاها المظلمة بسيدنا عزرائيل وأنكر ونكير وسواهم. واستطاعت أن تلاحظ كيف يهبطون من السماء السابعة كأنهم الرخ والعنقاء والخل الوفي. وخطر لها أتابك مرة أخرى وأخيرة، قبل أن ينطفئ ويتلاشى كأن لم يكن أبدا. ثم حاولت أن تستجيب لرغبة مباغتة في الوقوف وعدلت عن ذلك.

***

حين ألقى عليها سيدنا عزرائيل منديله المعطر بالمسك والزعفران أدركت أن الوقت قد حان. إلا أنها لم تكن تعلم كيف تنهض من رقدتها الأبدية، ولا أين تسير، وفكرت قليلا بالمصير القادم. ثم أحست بالخروج من ثنايا الروح النائمة. وإذ سارت خلفه أدركت أنها ليست سوى سحابة أو غيمة قد تهطل وقد لا تهطل. ولم تستطع رؤية وجهه، ولا استطاعت أن تخمن ما إذا كان بلحية أم أمرد، بعينين إثنتين أم أكثر أم أقل..

و كانت تنادي عليه، إلا أن نفس هواء واحد لم يغادر رئتيها، كأنما أصيبت بالحبسة. ثم رأت شجرة أوراقها بين بين، لا خضراء ولا زرقاء، استدار سيدنا عزرائيل بوجهه نحوها وأدى التحية، كأنه يمارس طقسا. ثم سمعت صوته لأول مرة، هامسا، ودودا، يدعوها إلى موت لا بد منه. ثم قرأ عدة أبيات من الذكر الحكيم. وطلب الإذن بالدخول، وكان عليها أن تتبعه، أن تتبعه فحسب. ولم يتوقف لحظة واحدة عن القراءة عن ظهر قلب من اللوح المحفوظ. وبدأ صوته يجلجل بآيات الثواب والعقاب، ثم انتبهت إلى أن عليها أن تقول مثل ما يقول، ولم تعلم كم من الوقت مضى، ولا كم من المسافة انقضت حين أصبحت قادرة على رؤية صف من الأشباح يقلبون في صفحات القرآن الكريم، ويرتلون آية دون تنغيم أو تجويد، وقد أحنوا ظهورهم وجعلوا يهزون رؤوسهم إلى الأسفل والأعلى كلما قلبوا صفحة أخرى.. إلا واحدا منهم كان يقرأ غيبا ولا يهز رأسه، وقد وضع الميزان أمامه، فأدركت أنه وقت الحساب، ولم تكن تعلم هل ترجح لها كفة الحسنات أم الخطايا، إلا أنها لم تتوقف لحظة عن التلاوة كأنها دقات قلب آخر...

***

ورد في مذكرات أتابك السرية، التي عثرنا عليها مخطوطة في رقاقات من الجلد الثمين، منسوخة بالكوفي والرقعة : أن ساجدة نوع استثنائي من النساء. متميزة حتى بأسمائها. وكان لها من هذه في كل يوم اسم جديد : حملت أولا لقب الغريبة، لأنها أصلا قادمة من المجهول. ثم استبدلته بلقب هدى الإسلام، لأنها حملت في بطنها ابن أتابك الذي لن يأتي .. جنين صغير من غير لون أو شكل أو مقدار. إلا أنها تمكنت من الرجل منذ لحظة اللقاء الأول الذي تم بعد موت أبويه.

كانت تبدو له مثل شبح متحرك، وهي تمر بالقرب من سور القصر الذي أصبح فيما بعد قلعة قوية بمتراس وحراس وأبراج للمراقبة. ولم يكن يعرف عن النساء شيئا. فخفق شيء ما في داخله مثل أجنحة النسور القوية. وكادت الرغبة تخرج من عينيه، فحمل السيف الذي لا يتحرك من دونه، وهببط إليها. وشعرت منه بالخوف ودفعها ذلك لأن تهرب بسرعة الغزالة. فلم يجد بدا من مطاردتها على صهوة جواده المطهم، وكان يطير وراءها حتى قبل أن يستقر رأيه على تعليل مقنع..

و بالقرب من شجرة جميز عجوز، توقفت المرأة قليلا، سافرة الوجه . وهنا تمكن من إدراكها وقد تهيا بكامل قامته ليرمي عليها السلام شعرا أو نثرا..

 

مقتطفات من رواية قصيرة قيد الإعداد

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1422 الاربعاء 09/06/2010)

 

 

 

في نصوص اليوم