نصوص أدبية

مدارج العودة (15)

كبؤس الراعي حين يترك مزماره الشادي، ويبحث عن قطيعه التائه. الصوت مكفهر، كالسحب السوداء، كالليل الدامس في السحب المختبئة، كالأمواج الثائرة... أتأمل بين طيات نفسي مشهد البارحة حيث استقبلتني هاجر بطيف شاحب لصورتها، صافحتني بفتور وأدخلتني غرفة الجلوس. اتجهت نحو الشباك تغلقه، وأسدلت الستار. التف الظلام بالغرفة فشعرت بالانقباض، واستفسرت: - لم العتمة ؟

تجهم وجهها وهي تشعل شمعة...إصرارها على الصمت، وعلى التصرف بغرابة ما جعلني أشعر بثقل اللحظات... قطعت الصمت متسائلة: كم شمعة انطفأت بنفخة الواحد منا ؟ كم أشعر بحاجة لأكسر عقلي بمطرقة قبل إخبارك... لكن ما عساي أفعل، أنت صديقتي، ولا ظلام الدنيا يتمثل قسوة الظلام الذي أحمله بين جوانحي الآن... شبكت يدها النحيفة بيدي وضغطت على أصابعي بعنف... 

 - اطفئي الشمعة وأزيحي الستار... 

- عفوا سأحضر لك شرابا باردا...

اللوحات الكبيرة المعلقة على جدران غرفة الجلوس التي ارتسمت عليها الألوان الباردة والمؤطرة باللون الذهبي كفيلة بتهدئة مزاجي وإن اكتسى وجهي بملامح هادئة مخادعة، عاد حلمي القديم في هذه اللحظات بممارسة فن الرسم، ولكن الرسم مهارة وجنون فاستعضت عن الرسم بالكاميرا... في حين كان هاجس الكتابة يستبد بي....

حين أحضرت كوب العصير، كنت قد تناولته جرعة واحدة وهممت بالمغادرة. ربتت على يدها ورجوت لها الصبر... لكنها قطعت علي الطريق لتعيد تثبيت صورة الشجرة من جديد... تلك الشجرة التي لا تحمل أوراقا وارتسمت كلوحة عبثية اقتلعها أحمد من حوش خيرة... تلك الشجرة نفسها هي الشجرة التي تقع في مدخل منزلها بالفلدير، لكنها لم تكن ميتة، ولم تحزن على فراق الأجداد، كل ما في الأمر أن صفعات الريح عرتها من أوراقها....

دوامات الريح تعصف بالشجرة، تصفع أغصانها، تجردها من أوراقها. تتعرى الشجرة، يشمخ هيكلها ويتجذر جذعها في الثرى. الشجرة عارية بعدما خلعت ثوبها الأخضر... ويأتي أحمد كرجل غريب هارب من العاصفة، يمسك بجذع الشجرة، يتشبث به، يلتحم به، يقاوم عصف الريح. الجذع ثابت والأغصان تختض، وهو متشبث بالجذع. لامست شفتيه عبير الجذع، ولم يعد يبالي بوقع الريح يصفع ظهره. وتطل عليه هاجرمن بلور نافذتها، يتفحصها وتتفحصه، يتشبث بالجذع، ويتشبث بالحلم....

وهو يوجه نظره نحوها، يرى في تلك النظرة دعوة ما، وتمنى مرور العاصفة لتستحيل تلك الأنثى إلى شجرة. يقتلعها من الثرى ويمددها على الأرض.... ماذا لو ضخت الريح جبروتها في هذا الجذع المتكلس، واستحالت إلى فأس تهوي عليه وتشقه إلى نصفين لتنبعث رائحة الرحيق العبقة. ماذا لو مارست نلك الأنثى فنها القديم وألقت بجسدها للريح، أو فتحت أزرار الرغبة الجامحة. أو فتحت له باب بيتها بأنامل مرتعشة وروح هشة مخدرة بنعاس العشق. بدا كأنه يحلم أن تصرع دوامات الريح أبواب منزلها وتشرع نافذتها ليؤويها إلى أحضانه. ماذا لو نادته وفتحت له سرائر جسدها وجاب تضاريسه بأنامله...تلك المرأة الشامخة كالشجرة، حين نادها لم يعد عابئا بدفع الريح . كان ممسكا بسياج الشرفة يدفع الباب الخارجي ويندفع إلى المنزل ويجد نفسه في مواجهة المرأة الباردة. لم تعد مغروسة في التراب تلك المرأة. 

لقد وجد اتصالات متكررة منها على هاتفه الجوال ، قائلة أنها تريد رؤيته على الفور، وحين سألها عن سبب اللقاء في ذلك الجو العاصف، ارتبكت، وعللت رغبتها في الحديث عن موضوع مهم. راودته أسئلة عاصفة. ماذا تريد أن تخبره ؟ هل يخصه الأمر أم يخصها ؟ لم لم تؤجل حديثها إلى ما بعد العاصفة...

شغلت أجهزة الكاميرا بالطابق السفلي، تلك الأجهزة المثبتة في كل ركن من الأركان ، ثبتها أخوها دون أن تعلم بها ، وعلل ذلك بأنه لم يكن يعطي الثقة الكاملة لأحمد، وهي أجهزة دقيقة وصغيرة لا تستطيع العين التقاطها، فقد تحولت الكاميرا بالنسبة إلى أخيها إلى هاجس يراوده في كل تفاصيل حياته بعدما درس السنما بفرنسا... ترك لها الأشرطة لتشاهدها بمفردها....

خيرة التي جرحت يدها وتخضبت بالدماء طلبت منه أن يجردها من العقد والإسورة والخاتم، " صياغتها " التي ورثتها عن جدتها... هذا عقدها وهذا خاتمها وهذه إسورتها التي طلبت منه أن يجردها منها، هدية منها، يأخذ هذه الأشياء كلص محترف وقد لمع جسدها في بحر الألوان وتهب وجهها للماء.. انبلجت الدماء المضرجة على الضمادة البيضاء كالحناء في لحظة كالضياء.. بدت كفه كخرير مياه يروي الصحاري ويروي ظمأ سنين الحب في جسد جائع . تمتد يده وكأنها تقطع مسافات التاريخ بأرقى التجليات . وكانت لغة يده أرقى من سحر الكلام وعذوبة المشاعر... أهذه حكمة جنونها ؟ هل تعطي كل ما عندها من أجل لقائها الحميم به ؟

باغتته بهذا الشريط من شرائط عديدة تركها لها أخوها...في اللحظات الحاسمة، كانت ستعرف كيف تصفي حسابها معه. وكان أخوها يعتبرها خطوة أولى لابتزاز أحمد ليواصل تنفيد توجيهاته بتصفية كل أعداء الفكر العلماني المنتقدين لرؤيته المدنسة للمقدس ..

ذلك المساء قررت أن لا تواصل مشوارها معه ودعته ليبحث عن غصن أخضر يخضب جراحه، هي من صلبها الكبرياء فلن يترقب منها وجبة بدائية كخيرة. وكانت لا تصور الزواج كحلم طفولي تستعيد تفاصيله، بل مجرد صفقة لتصفية الحساب القديم... 

- أنت بائس، أنت حقير، تنهش لحم خيرة من أجل المال... أعد لها "صياغة جدتها " وإلا لن أرحمك....

- إن الغوص داخل كلماتك سيواري بشاعتك التي تدوسين بها على الناس أمثالي...

- وتتشفى بهذه الفعلة ؟؟

- أنت إنسانة لا قلب لك وتدعين التعاطف مع خيرة، قلبك صخرة، انت قاسية وتدعين الطيبة، هل تذلينني بهذه الشرائط ؟ بالمصروف الذي تضعينه تحت الباب... وتشعرينني أنني حشرة...

- الحشرة تؤذي، وتترك سمومها على الجسد البشري، معاذ الله لم أقل أنك حشرة، ولكن الكثيرين يرونك فيروسا ألقي لتسميم الساحة....

- طيب أنا فيروس، ولكن من ألقى بي ؟ هل جئت لوحدي ؟ كل ما في الأمر أنني أريد تكسير الأصنام....

- نبي أنت، أم صاحب رسالة ؟ أنت مخرب... أنت آداة...

- والسيد الثري الذي يستغلني، ويبتزني هل هو حشرة بدوره أم شخص نبيل رفيع ؟

- أخي أرفع منك... أخي تاجر فن.... وجد الخميرة جاهزة... فأعطاكم فرصة للاتجار بكم جميعا ...

- الكل في مستنقع واحد... ذلك هو الواقع.... أما أنت أيتها الرسامة الحالمة، فقد تجاوزك الزمن، وتجاوزتك الأحداث... ولم يبق لك إلا المال يسند آرائك البالية...

- جميل أن يسند المال بقاء القيم....

- لو لم تكوني شقيقة السيد الثري لقمت عليك بحملة تدنسك وتحط من قيمك التي تتشدقين بها....

- حقير، مرتزقة، منفوخ بالهواء وبالوهم، مجرد خادم لتمرير مشروع علماني فلا تعتقد أنك شخص رفيع، أنت تروج لبضاعة فاسدة، ولكن من يسمعك ؟؟ الناس لا يسمعون أمثالك...

- عيب عليك، عيب عليك، أنا فلان، أنا...

 

- أنت من جماعة غاياكي، أنت واحد منهم، يردد " أنا صياد عظيم أقتل بسهامي "....

 أتركك لأوهامك....

 أدركت أن أحمد يعاني من العصاب جراء نقمته على الناس وشعوره بالمهانة والاحتقار كلما وضعت له مصروفه تحت الباب.. لقد ذبحه الفقر من الوريد إلى الوريد.. اقتلع بذور الانسانية من وجدانه وزرع فيه الكراهية، حين بدا لها على تلك الصورة أدركت أنه كان بركانا خامدا وقد ثار ليحرقها به.... رمى على وجهها مصوغ خيرة، تراءى لها المشهد في صورة عنيفة زعزت كيانها. وقد تفحصت خيرة الفزعة تنكس وجهها في قاع الغرفة، ولم تفق إلا على وقع الوجع ينخرها ويفتت مشاعرها ويشل تفكيرها، لم تتساءل عن أسباب نقمته عليها، لكنها وصلت إلى حقيقة واحدة، إن هؤلاء لا يستحقون العناية، فسجلات الخيانة أشقى على نفسها من كل هموم الحياة...

- سأتزوج خيرة... وآخذها معي الآن...

- خيرة لن تغادر هذا المكان قبل الطلاق، فلتغادر من غير رجعة....

دفعته نحو الخارج، نحو عصف الريح يصفعه ويجلده، ليطل وجهها في المرآة هادئا باردا ، فصرخت في ذاتها: تحركي أيتها التمثال، بددي غموضك ؟ جرحي كلماتك... لن يعسر الكلام ولن يتوارى عن أعماق الصمت.. اكتشفي في صخب الايقاع ما يبدد صدمتك.. 

 خالت نهايتها في خضم المسالك الواعرة.. لكنها تقولها جهرا لنفسها وهي تهذي: "لن تموتي، ولن تخبئ وجهك في زوايا التركيبات الزائفة ولن تطليه بغشاوة الفوانيس الحالكة. فمهما عبث به عصف الريح فلن يقهر العبث، سيفتح لها مدرسة التائهين، سيعلمها حكمة البحث عن المجهول واستمداد المعنى من اللامعنى، واستمداد الدلالة من اللادلالة حتى ينير بفتيل الشوق للمعرفة...

 أما خيرة فقد اكتسحت نظراتها بالحلم، رأت في تيهها صورة أحمد يجيء بها كعروس على الجحفة في القرية الجبلية.. ترى في لهب الشهوة زوجها يرفع حجاب الخجل ويبوئ ركح الجسد. كمن يرفع الستار عن الظلام من حوله. كفها المخضبة بالدماء، حناء أمه، هذه بقايا العاصفة. اندمل جرح الذكورة بجرح الأنوثة فلم يتبدد لون الشهوة الأولى. تطلع إلى جسدها المرتبك أطلقت عليه ثورته فاغتال يقينه وحول أمنيات المثال إلى شظايا الرمز، فكتبت بالحبر سرائر الجنون التي تغزو خرائط الكتمان. وارتوى ذلك الجسد المتصلب من منهل متدفق بالنشوة. انبلج الحلم أشقر يلون سبيلها، فسحة يأوي إليها الحائر وواحة يأوي إليها المتشائم. ودروب يهذي فيها الحالم.. انبرت ذاتها كتحل أسرار الحلم وتفسر معاني الألوان وتفك صور الصمت والكلام. الأبيض سبيل الحلم وراية انتصاره، آيات التفائل الصادقة وأسرار الأمل المقدسة... الحلم صور الفرح المرسومة على ستار الليل الأسود بالحبر الأبيض شاهد على رنين الزمن . 

توارت تلك الصور والكلمات حين تلاشى صوت هاجر المتقطع الجاثم كالجليد... في مرايا الحلم وهي تتوعدها بإجهاض هذا الحلم : تبا لنهار يهبك نورا اصطناعيا يخسف أعماقك ويطرف نظراتي الشغوفة بالأفق. تحدثي عن الشجرة التي اجتثها أحمد لتتحول إلى قبر يسعكما... هيا تحدثي، تحدثي، لم هذا الصمت، سأرفع في وجهك العصا لتتحدثي عن المكيدة التي دبرتماها لي... لا تقولي أنك بريئة، فقد ضبطتك الكاميرا تتوجهين إليه بعدما همس في أذن العريس وصاحبك للحوش، وفي ذلك الصباح اجتث الشجرة ورماها أمام الحوش، وأخذته إلى المنزل المهجور...

طفقت تستعيد الحكاية وتعيد تثبيتها مكان الشجرة التي تقع في مدخل منزلها الشجرة. التي عراها عصف الريح، وحلت محل خيرة وهي تنظر له بازدراء وهي تراه في صورة عامل جلبته ليحفر مسبحا صغيرا ، وكانت تنبعث من عينيها نظرة ازدراء وهي تقول له: "عندما تنهي عملك فاغتسل تحت دوش الحديقة. يوجد في هذه الحديقة الخلفية دوش ومرحاض وغرفة صغيرة عليها فراش حديدي، ومرهم يعالج تشقق أصابعك المتيبسة"، وينظر لها بشك وكأنه لا يقتنع في قرارة نفسه بفكرة المسبح الدائري الصغير. سيدة المنزل تغادر نحو مقهى، ولن تعود إلا بعد ساعتين، وخيرة لا تكل عن مراودته... 

استمعت إلى حكايتها وقد ايقنت أن ذلك الرغيف الذي كانت تتسلمه لم يكن يشبع جوعها....في أعماقها شعرت بحالة غثيان وتناسل المرارة الحارقة في هوة آسنة.... استحمت تعطرت ثم ارتدت بدلة أنيقة. انتعلت حذاء جلديا ذي الكعب العالي وتجملت بطريقة محت قسمات وجهها الحادة وأضفت عليها هالة من الهدوء ثم سرحت شعرها ليسترسل على كتفيها بنعومة، وتكفلت بحجب نظراتها القلقة بنظارات سوداء. أغلقت إحدى الغرف على خيرة ورمت لها ببعض الأكل وقارورة ماء... وأحكمت قبضتها على حقيبة يدها. وغادرت نحو منزل خالتها القريبة علها تواسيها ...

تناولها خالتها عصير البرتقال وشرائح الكايك، لكنها تشعر بمرارة في الحلق و لا تحبذ طعمه وتشعر ببعض الازدراء وتكتفي بغمس أحلامها في الجبل كما تغمس الرغيف في خبز الطابونة في صحن العسل وزيت الزيتون، وتنبعث إلى أنفها روائح الاكليل والزعتر... وتسترسل زخات المطر في تتابع، وهي تتأمل مشاهد المكان من بلور النافدة للمنزل الكبير القابع على الربوة.

لكن خالتها قطعت صمتها ولحظات تأملها بصوت مبحوح:

- أين زوجك لم لم يرافقك ؟

-..............

- ألم تجدي رجلا غيره تتزوجينه ؟

- سأطلقه كما تزوجته.. انتهى كل شيء..

اتسعت حدقتا عينيها، لكنها أمعنت في التصدي لفضولها: - غدا سأخبرك بكل الحكاية، الآن أنا متعبة من عناء الطريق ؟

- والعشاء ؟

- شبعانة....

كم تود السهر مع خالتها في هذه اللحظات المتكلسة، حتى وإن سردت لها كل تفاصيل الحكاية... 

تقول خالتها: هل قدمت الطلاق حقا من زوجك الزاني ؟ 

تبتلع ريقها، و هي تشك في معرفتها للحكاية، لكنها تسترسل في الحديث عنه: لو وجدته أمامي لأشبعته ضربا بالعكاز الذي أتكئ عليه ...

- لماذا ؟

- لأن أمك طلبت مني أن أحرصك منه بعد تلك الفعلة التي فعلها ولد الشانعة ليلة زواجك الأول... لقد أخبرتني أوخيتي بكل تفاصيل الحكاية...

- لا حكاية ولا رواية، لا تغتمي خالتي، طلاقي منه ليس مشكلة، ما زلت عذراء...

- موشي راجل، ويتبع في النساء ...

- كان زواجا على الورق وانتهى الأمر، وسنطلق بالتراضي...

- مكتوب بنيتي مكتوب ...

لفظت هذه العبارات، لكن كلمة المكتوب طفقت تدغدغ ذاكرتي وتكتب بخط عريض في هذه المنطقة..

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1423 الخميس 10/06/2010)

 

في نصوص اليوم