نصوص أدبية

مـدارج العـودة (16)

 الحلم وحطت على أغصان الشجرة غير عابئة بالأمطار المتدفقة كالسيول، كنت أحلم بلحن صادق ينبعث من من موسيقى الروح، لم يركب بحشرجات العقل الخالي من البصيرة بل بنغمات الطبيعة...

 العصافير تترنم حروفي الناصعة وحلمي بالحرية فتتداعى لها أوتاري، تتغلغل في طياتي، تتلبس بي وتخترقني وتبدد صمتي، وتلتقط بذور لغتي التائهة، صارت لغتي عشا، تستكين فيه العصافير وتنام فيه .. لغتي سطور الذاكرة العذبة وأغاني الصبا في هذا المنزل. حروف لا تنطق إلا نورا ولا تشدو إلا نقاء، إني شغوفة بجذور الطهر التي أنبتتها. فهل أرسمني أم أرسمها؟ فحين أرسمني تستحيل إلى أمطار صاخبة، وحين أرسمها يضيع كل شعور بالحيرة في هذا المنزل، تنسج زخات المطر أوتاري المبعثرة.

تتربع تلك الطفلة على المكتب، وتتصفح أوراقي، وتتبع تفاصيل الحكاية، وتدخل معي في حوار، تحثني على تحويل شخصيات القصة إلى ضحايا لترتق فراغات الحكاية.... أتأملها وأتساءل: من أنت؟ ما أنت؟ ماالذي شدك إلى أزرار القلب؟ من أتى بك إلى ديار السفر التي تحركها أمواج الروح؟ أكان مجيئك حلما؟ بالتأكيد لا. فلم تكوني مجرد طيف تراءى لي مرة ومضى. أكنت تسكنين خرائط الذاكرة؟ الأرجح لا. فحين رأيتك لمست بين تفاصيل نظرتك طعم البداية، وغمرتني لذة اكتشاف خباياك... أنت من عثرت بين طيات ابتسامتك على سحر الفن... ابتسامة تحرك كل حرف مكتوم، تدغدغه، وتغريه بسجل البوح. تنهضين الكلمات النائمة كي تستيقظ من غفوة الحلم، وتقولين لها: كوني وفككي رموز الهوى والجنون.

حين أتساءل من أنت؟ أطل على أعماقك في مرايا الروح فتعكس لي سنبلة تظلل بذور العشق... أراها ذهبية، متوهجة كضياء القمر في ليلة معطرة بالحنين... تغريني كلماتك للغوض في معاني العبارات الرحبة... فأنا أهوى التعمق في تركيبة الحروف، وموسيقى النبرات، وأروع ما يدهشني فيك غموض القصيدة إذ تبقى كلماتك حدثا... تتجول بي في تفاصيل السؤال المثير... تطفو الإجابة عبر رنين الحروف الملونة وتتموج كجدائل الغجريات، كضفائر القرويات، كرقصاتهن الثائرة في الأعراس... هكذا تستحيل معانيك إلى أسطورة حالمة... إلى خرافة لا تقل غموضا عن البحر... معان تشبه السحب البعيدة الرمادية، تحوي جداول المطر المسترسلة... كجدائل العذارى...

- ما الذي جعلك تذهبين إلى بيت خيرة باكرا؟

- لأناولها تلك الصورة التي أسقطتها الراقصة وعثرت عليها، فابتهجت لأنها استرجعت الصورة بعدما ظنت أنها أضاعت ذاكرتها.

- أي صورة؟

- تلك التي كانت ترتدي فيها الملابس المحتشمة وكانت مع هاجر... لأتكشف على خبايا المرأتين اللتين تزوجهما أحمد..

- ومن حدثك عن هذه التفاصيل؟

- شخصيات الحكاية....

 - هل نذهب لزيارة خيرة؟

- في مثل هذا الوقت الباكر؟

- لا بد من تصوير الحوش....

باغتتني رغبة في تصوير المنزل الصادم والمزري الذي سيساعدني في وصف المكان بصورة صادقة ويعطي أبعادا فيزيائية لقصتي...في الحوش وجدت خيرة تغسل الملابس، وقدر الماء يغلي على "البابور" تحت "البورطال"، و تغمز بعينها دلالة على أنها تخلصت من هاجر من جديد، ستعقد المرأة خطوبتها على زوجها الأول.. 

أخبرت خيرة برغبتي في تصوير الحوش، فطلبت مبلغا من المال. 

- كم تريدين؟

- ورقة واحدة تكفي...

أخذت الورقة ودستها بسرعة في صدرها..لكنها سرعان ما لبست ابتسامة ماكرة وهي تحثني على أن تصاحبني لأكتشف المكان، وكنت أريد المغادرة نحو الفضاء الخارجي... 

تهمس لي الطفلة: "اسأليها عن تلك الفترة التي عانت فيها ويلات التعذيب في منزل هاجر"... طفقت خيرة تسترجع مشاهد التعذيب. لقد انهالت عليها هاجر النبيلة، المرأة الباردة القاسية بالعصا.. وعندما هربت إلى الغرفة لتغلقها بالمفتاح، عندها دفعت الباب، أرعبها المشهد فلم يقو أحد على نجدتها، انتابها الذعر، أشعلت هاجر سجارة... ولم تعد خيرة تستوعب هل هي في واقع أم في كابوس... وإثر حرق يديها بسجارتها، تشمت فيها هاجر حين تناولها مرهم بنيسلين تضعه على بقع حروق السجائر... وخيرة تصرخ من الآلام.

تملكني الصمت الرهيب، وهالني فعل المرأة التي نكلت بخيرة . وباغتني شعور بعدم الطمأنينة .ازدادت نفسي ضيقا وتناسلت دوائر الدوامة، وغصت في ذاتي. وشعرت أنها تفتح لي أبوابا مغلقة.. . 

كانت تلك الأيام حسب تعبير خيرة، كأوراق الخريف... كبقايا رماد وحطام... لا تحمل ورقة أمل خضراء... وكان الطقس كئيبا كأصداء نفسها... امرأة في مفترق الطرق... ترى نفسها تسبح في البرك والمستنقعات وتغرق كجثة هامدة، تطفو كورقة مسطحة... 

ترفرف الذاكرة كأشرعة المراكب التي تقاوم العواصف... تتغلغل الكلمات في أعماق المستحيل.. تتموج كأمواج البراءة، فيطل الحلم كرؤيا صادقة.. هاجر التي كانت ترى في عينيها زرقة البحر وخضرة المروج وعاطفة نبيلة تكنها لها... تحولت إلى جلاد بعد مشاهدتها للأشرطة... وهي نداوي الحروق سمعت وقع أقدام تلج الممر نحو الغرفة. كان أخوها ومعه رجال غلاظ. وما ان ولج الغرفة ووقع نظره عليها، حتى بدت على وجهه علامات الضيق. نادى أحمد، عجبت خيرة من وجوده هناك بين هؤلاء الرجال. رأته يستجيب إلى الأوامر، والسيد يقول لأخته: " سيطلق أحمد في أسرع وقت "...

ـ أحبذ أن تتفاهم أنت معه، أريد الآن أن أعالج هذه العاهر من الحروق ، ولكن ثق أنني لم أكن أقصد ايذاءها.

 قالت له خيرة إنها تريد المغادرة نحو الجبل، أجاب ببرود...

- بإمكانك الخروج إلى الحديقة، أما الباب فهو مقفل والأسوار عالية ومحروسة...

-....؟

- سنضيفك إلى أن تطفأ الحروق...

- أريد أن أغير ملابسي... أريد أن أغتسل...

ارتسمت على وجهه ابتسامة ذئب:

- أمامك الحديقة والمطر اغتسلي هناك...

حين عادت للجبل بعدما أنقذتها تلك الآنسة الموظفة في الشركة، وتزوجت أحمد، رمقتها بنات الجبل بنظرات شفقة وازدراء... ولكن حلمها لم يخفت، بل ظل يراودها برغبة في تغييره كلما تفحصت وجهه الأسمر المكسو بنور الشمس المتوهجة... تتمنى أن تنقلب صورته إلى فارس يقوم بجولة في أطراف الجبل، والناس يحيون رجولته وصلابته... لكن مخالب الفقر هتكت قيم الشرف وجففت خضوبة الروح ورقة العواطف... وكان زواجها به أشبه بعقاب، وظل حلمه يراوده بالانتقام من هاجر.. إلى أن تلفحه أشعة الشمس الحارقة وتصبغ جسده بلون داكن، ويتيبس ذهنه ....

تراه وقد تكسرت أحلامه كشغاف الأسئلة المتمردة، تراوده كجنية مشاكسة، تدفعه لمغادرة فراشه الحديدي المتآكل، يذهب نحو المدينة، يستنشق الهواء الملطخ بروائح الاسمنت ودخان المحركات في الحي الصناعي... تتواصل الحياة في خط منحن، يغادر غرفته في وكالة شعبية... تريد تلك الجنية أن تفتك بعقله وتقوده الى الجنون.. ولعن ليالي السهر، واجتهاده في الدراسة لنيل الشهائد، لكن هيهات فدروب الحياة واعرة، وعليه أن يقبل بالكتابة كما يريدها الآخرون، وعليه ان يلبس قناع الشيطان للأبد، لأن الحديث عن الأخلاق لا يناسبه، والحديث عن القيم الانسانية يدفع الآخرون للسخرية منه، فيرددون "ابليس ينهي على المنكر "، وكان يدرك في قرارة نفسه أن التغيير لا يقوم على الهدم والنسف للإرث الفني وتدنيسه في ليلة وضحاها، وإنما على الارتفاع بالذوق العام...

تعلم أنه يحقد على المرأة.. وأنه يشوه صورتها... وأنه يجتث عفتها بكلمات نابية، وبصور يخترعها خياله... يحنق على كل شاعر سخر من كلماته... وعلى كل مبدع لم يدخل من الأبواب الخلفية، يشتمهم على الورق، ويتودد اليهم في رسائله الهاتفية، يتمنى أن يمزقهم اربا إربا، ويستعمل كل السكاكين الممكنة، تشتمه المرأة، فيراها في صورة ساقطة، يشتمه كاتب فيصفه بصورة حيوانية، وكلما هددته واحدة بتقديم شكوى، ويتراجع رئيس التحرير عن مساندته، تدوي المشاهد المتشابكة في ذاكرته، تربت تلك الجنية على كتفه.. تشحذ عزمه ليتطهر من تفاصيل الواقع المقرفة.. يمشي وسط الجموع، تقرع الذاكرة طبول الرهبة، تسد كل ثغرات الأمل، تضيء جنية الحلم الطريق المظلم...لا بد له أن يبتسم ليتظاهر بالثقة.. ينجرف حلمه فجأة، وتغادره الجنية مذعورة... يرتبك ويشعر بالغيظ.... ويشتعل الحقد كحطب ليأسه...وتتوقع أن يشهر بها لو عرض "شريط الشياطين"... فتمعن في سقيه بنبتة " الساكت والسكيتة "...

تقول لي خيرة:

- لو عرض الشريط عن "عبدة الشياطين" لانتهيت....

- لا تقلقي، لا أحد سيسمح بعرضه...

- لا شيء يقف أمام معارفه وماله........

- لا، لا تقلقي، أجزم لك يستحيل تمريره....

- لكن، لماذا كل هذا الدنس، وهذا التغرير؟

- التجارة... ليس لها دين، ولا مبادئ... كل شيء يباح في سوق العرض والطلب...

-......

- هناك فجوات للتهوئة سمحت بكل هذا....لو سد جدك الفجوة لجننت نهائيا، وحين تركها حصل ما حصل لك... المهم أن الأمل موجود... 

- سأعرف كيف انتقم منه................

 - ولكن لماذا قررت الانتقام منه فجأة؟

قالت خيرة بعدما سرنا بعض الخطوات: اليوم سيأتي العشيق للحوش، فهو متواطؤ مع زوجها لإخلاء الجو له من حين لآخر...

- كفى خيرة، لا أصدق هذه الترهات...

- اليوم ستصدقين بالعين والكاميرا...

- الكاميرا؟

- لانك ستصورين المشاهد الغرامية من مكان لا يتفطن إليه الجن ....

- ماذا؟ هل جننت؟ دبر على روحك ...هذا مستحيل المستحيلات...

 

حاصرت صورة خيرة مخيلتي من كل الجوانب. خيرة وذلك الثري. هي تسعى لتطويق الرجل من كل الجوانب ليستسلم لضراوتها، تقتنصه بمهارة كما تقتنص الأفعى فريستها. والرجل يضغط على رقبة الأفعى إلى أن تتقيأ سمومها. صورتها وقد تضخمت تكسر رتابة ما ذكر عن استسلام المرأة.. أحكام لا تجترح إلا الهزيل من المعاني لحاطبي الليل. هي تشكل من طين اللغة ما بدا لها خلقا لتنفث كيدها العظيم.

  

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1424 الجمعة 11/06/2010)

 

 

 

في نصوص اليوم