نصوص أدبية

مــدارج العــودة (17)

... يسكن العش طائر غريب الشكل، كثير الألوان، ينشذ ألحانا تهز أغصان الشجرة، ثم "تدوح" بها برفق، وحين يصمت يهدأ الريح ، فتهدأ الأغصان وينام العصافير، ويخيم الظلام على الكون... تنفلت العبارة من دهاليز الصمت وتحلق كالفراشات التائهة، الباحثة عن شذى الروح. وتحلق في سماء نورانية، ويتعالى عزفها كصرخة تخترق أصداء النفس، وتخترق أسوارها، وتشع بأشكالها ، فترتسم الروح على شكل دوائر... تأخذني إلى أمواج البحر ذات الحركة الدائرية الارتدادية، إلى رؤية الكاميرا، إلى هؤلاء الصيادين الذين يبحرون في ذلك الشاطئ الصخري... إلى ذلك المكان اصطحبتني هاجر رفقة حارسها الضخم ، الحامل لسلاح مرخص.. وكان الحارس يحاول أن يصرفنا عن مواصلة المشي على الشاطئ الصخري... وتصرخ فيه هاجر: " وما خطبك... جايبتك معاي عسكر كرضونة؟ ". فيصمت ذلك الرجل الضخم ، ويتحول إلى شخص وديع...

 تبينت ملامحها الشاحبة، وقد غابت عنها تلك الجاذبية التي كانت تشد الآخرون لها ، ولم تتخضب وجنتيها بالألوان الندية ، وبدا وجهها مجردا من كل ايحاء ... وانبعثت من البحر روائح الملوحة تعلق بالحنجرة عبر نسمات الهواء الطلق ، تتراجع خطواتها للوراء وتكاد تتعثر ، أواصل طريقي، فيبلغني صدى خطواتها وهي تتبعني.... تعانقت أطياف الحلم في قلبها الحالم ، لتتحدث عن معنى تدفق الأمواج ، فصورتها على لوحاتها ذات الوجوه التي تشخص الحلم المشوب بالحيرة ... وهي ترسم كانت تتمثل احساسها وتنقشه من وراء أسوار الأشكال ... فلصخب الموج قوة تتحدى التقاليد، و لنسيمه رجفة ترتخي لها كامل أعضاء الجسد، فتلين الألوان وتشعر وهي ترسم كأنها تمشي على رمال لينة... وكان البحر يشعرها بالانسياب وتدفق الألوان في شرايين اللوحة... ترى نفسها من جديد تسير بين منعطفات الجبل....وحين يسدل الليل ستاره تتوارى اللوحة في كهف الظلام ، وتستحيل الحيرة إلى عواصف تقتلع جذور الانسجام...

اعتكفت في الدار أياما وفقدت كل رغبة في الالتقاء بمن حولها.أثارت حالتها فضول الأصدقاء، تعددت أسئلتهم عن سبب التغير المفاجئ الذي حل بها، فتظاهرت بالإنهاك كي يكفوا عن شغبهم، لكنهم لم يتركوها تستقرئ تفاصيل وحدتها. قاومت وضعها وأخبرتهم أنها بدأت تتعافى، غير أنها شعرت بالحسرة وهي تدرك أن خطواتها بدأت تتعثر وأنها ترسم لهم صورة واهمة. إنها تريد أن تنهي صلتها بمن حولها وأن ترحل عنهم وكأنها اختنقت بحبال تطفلهم. نهضت من الكرسي الذي شدها طويلا إذ اشعرها بالراحة والتركيز.. واتجهت نحو الجدار لتتفحص آخر لوحة رسمتها...إنها لا تختلف كثيرا عن الألواح الأخرى، تعكس ألوانها الزرقاء رؤية للآفاق الرحبة وتعكس أحلامها الموشاة بشقائق النعمان وتوقها للربيع المشرق.. لكنها الآن غير قادرة على رسم إشراقة نفسها التواقة نحو الجمال. فأي حفرة تعثرت فيها فعجزت عن الصعود؟

تاهت بين أشجانها وعاهدت نفسها ببتر ماضي إحساسها. استنفرت وألقت بها على الأرض محاولة تحطيمها.. فلم تجفف تلك اللوحة دموعها.. لم تشعرها بأوجاع روحها.. حاولت عنوة تناسيها، لكن مشاهدتها قلبت جمرات الرفض.. لقد خيبت جميع لوحاتها ظنها حين راودتها كنوبات النفس الهستيرية تحت تأثير الشعور الغريزي بالجمال المتآلف..

لقد عاد زوجها الأول يتمسح على عتبات منزل والدها... سيقيم أخوها الحفل، ولن تحضر هاجر لترد له الصفعة، ولن يحضر أحد عدا شخصيات الحكاية... يريد أخوها أن يخرج مسرحية جديدة تصدم الحاضرين... وتخفف من وطاة الصدمة التي عاشتها هاجر....

 

بدا لي البحر جبارا. يضمد جراحه بأرواح البشر إذ يقتبس منها النور والبقاء. ولكنني تقدمت نحوه، شمرت سروالي إلى الركبتين وشعرت بالانتعاش بالمشي وبرجلي منغمستين في الماء، تحررت وتخففت، ولمحت هاجر التي عبرت عن رغبتها في السباحة في الأعماق في صورة عروس البحر وهي تتجمع مع عرائس البحر ويغرين البحارة بأصواتهن العذبة، تراءت عرائس البحر في أسطورة آتية من زمن قديم يسبحن بحرية ويرددن بأن المشي على الأرض يؤلم، فيردد البحر أصداء ألحانهن.. وتعزف الأمواج أصداء ايقاعها. ولمحت ذلك الشاب الذي صبغت جلدته ماء البحر ما انفك يتبعنا ويسير في طريق مواز لنا، وهو يتأملنا، وكأنه يبحث عن الطعم المناسب ليخترق عالمنا. كان الشاب قد توقف عن المشي وهو يقترب منا. غسلت وجهي بماء البحر فقال بلهجة المتعاطف:

- المشي قرب البحر هنا خطر. فهذه الجهة لا يطأها إلا البحارة أو بعض الشباب الذين يعاقرون الخمرة.

مسك به الحارس الضخم من كتفه، وصرخ:

- عسكر كرضونة أنا؟ ارحل من أمامي.... 

التحم البحر بالأفق، بدا كالإلهام الذي لاحقت أطيافة أرواح الفنانين وهي تهتز على أوتار نشوته الصاخبة.. شدني الجمال المذهل.. واستشعرت تلك الحرية التي تخترق المسافات والتواريخ والأشكال والحدود التي وضعها الإنسان ولم تقدر على اقتلاع الفن من أعماقه... امتدت ذاتي في أعماق البحر وأعماق كل الأشياء من حولي.. وكانت الكاميرا قادرة على تسجيل المشهد، والتقاط حكايا الصيادين، وقادرة على بعث الضوء في الأمواج المعتمة مع هبوط الظلام ، حيث يسرد صخب الأمواج حدة المشاهد الدرامية في الصراع مع البحر... ايقاع قلق متوتر... صور صادمة....

انشغل الحارس الضخم بالحديث مع البحارة، و بالتفكه معهم. وهم يتحدثون عن ذلك الشاب الذي قدم من الصحراء وأراد أن "يحرق" لايطاليا. وحين وصل بهم المركب إلى جزيرة لمبادوزا لمح الشبان يرمون بأجسادهم للموج العالي. لم يكن يعرف السباحة بل كان مستسلما لظهر الناقة تحمل عنه أوزاره لا تحفل بالقيظ ولا تكل مشقة الطريق ولا تقف في مفترق الطرق.. واضطر صاحب المركب إلى أن يعلمه بأنه سيرميه في البحر.. قهقه بحار آخر وقال إنه خيب أمله في أهل الصحراء. كم يلزم صاحب المركب من وقت ليلكزه على مرفقه قائلا: " أنظر إلى أصحابك، لقد بدأ البعض منهم يصل إلى مشارف الجزيرة. وقال البحار الآخر: "دوحي يامباركة يبدو أنه يحلب في حلاب مقعور.. ليسوا أبناء بحر أهل الصحراء والحياة الشاقة عندهم أشهى من خبز الطليان "...........

 البحر أشد فتكا من زواحف الصحراء، أكثر دربة في تحديد مكان الفريسة... قرب جزيرة "لمبادوزا" مات الكثير من الشباب في البحر، وعثر عليهم خفر السواحل مشوهي الجسد بعدما نهشهم السمك، وتفسخت ملامحهم. ركوب الموج ليس رحلة سياحية... انقض الموت عليهم كما تنقض الأفعى السامة على فريستها. 

حين غابت الشمس كان الظلام المطبق يعكس وحشته ليواري الذاكرة المهجورة، تحرسه شعلة الضياء التي تفتح لها دوائر حياة الجسد عبر كل الزوايا. كان البحارالذي تكفل بإعادتنا على ظهر القارب للقرية الجبلية، يحدثنا عن الإنسان الذي عثر على نفسه لكنه دفنها. 

وهناك بين القوارب وفي غرف المراكب وفي البيوت الخشبية انشغل بعض البحارة باقتراف العشق مع حبيباتهم. هي الأوتار تشد إلى بعضها في هجعة السكون، والليل شراب النشوة وسكر الروح، واستشعرت أن للامواج سرها وهي ترضعهم حليب البحر الحامض، فيصير للماء لون اللوحة العذراء، وعادت إلى أنفاسي رائحة الجذع الملتصق بالأرض المبقعة بالماء وبدا لي أن للموج أيقونة الضوء. فللأمواج جرحها وهي تبحث في ظلام السماء عن دوائر الضوء... 

هناك لا تناجي الذات إلا من تحب ولا ترى إلا من تشاء في المساءات المعطرة برائحة البحر، وعبر ذلك الالتحام يرسم البحارة خط الأفق ويحددون نقاط الانطلاق ليعاودوا رحلات التوغل في دروب البحر والابتعاد رويدا رويدا عن صور الواقع الزائفة لتصفح صور البحر بأمواجه الهادئة والمتلاطمة، الهامسة والصارخة، هؤلاء البحارة يبحثون أبدا عن مرفإ وعن حبيبة وعن صور، واقتنصت صورا عبر الكاميرا التي تغري المشاهد بإشعاع القمر وعمق لونه وهو يغوص في الموج، ليرسم لونا لماعا ويحدث أشكالا ضوئية لها دلالاتها التي يستجيب لها وزن الشعر وتقرع لها أجراسه. 

ربما لا تضاهي نشوة هؤلاء العشاق انتشاء روحي واندفاعها كالأمواج المتدفقة في معان تجرف رواسب الموت والدمار وتنبض بالحياة العميقة، هي أرفع من نشوة تحن للثمار والخضرة في الحياة الحبلى بالمطر، تلك النشوة المخضبة بالندى المرتسم على أوراق الشجرة الخضراء. يرتسم الحلم بالحياة على روحي كبقايا الشمس المرتسمة على أجساد البحارة، تلك التي ترنو للحرية بجهدها وأمانيها. كنت قد ودعت لحظات الموت كما يودع الإنسان ضغوط الواقع وضيق العبارات المتسمرة على الصور الشاحبة، تجاوزت حدود الزمان والمكان، وتراءت مرايا الخيال الممتدة في البقاع البعيدة التي جرفنتني إليها الأمواج المخادعة... 

وكان البحار يستعرض تفاصيل الإنسان في مواجهته للبحر، وكان خيالي منشغلا بتتبع تفاصيل المسرحية في المنزل الجبلي.....

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1425 السبت 12/06/2010)

 

في نصوص اليوم