نصوص أدبية

مـدارج العـودة (18)

تنقلب صورالحلم فيضحى الواقع نومة واهمة، وحين أفتح عيني من جديد يكتسح حلمي بتمديد إقامتي في المنزل الأول أفقه. كان إطار الحرية ما حفزني لرسم الصور الباطنية وتجسيدها على الورق. فأنا أود التحرك في فضاء الحكاية، كم أنا بحاجة لرسم صورة الطفلة تصاحبني في الأطر الحالمة والأماكن الصادمة لتستحيل إلى مرآة تعكس ما بداخلي من رؤى... 

- لماذا بترت دور زنوبة في الحكاية؟

- لقد أعدتها إلى القرية، وتركتها لتتحرك خارج ظلي....

- والراقصة زهوة ...

- لقد فقدت تلك الشخصيات صورها واستحالت إلى ظلال...

- لم يبق لك الآن إلا أن تصوري الظلال...كنت تبدين ساهمة النظرات وأنت تطلين على الحديقة و وكأنك تسترجعين ملامح الطريق القافر في الجبل. 

إثر عودتي مع هاجر من الشاطئ الصخري، وقبل بداية الحفل كانت الشخصيات تتوافد، وكل شخصية تريد أن تصر لي بما لم تبح لي به... صحيح أنني لست طرفا في الحكاية، ولكنني شاهدة على بعض تفاصيلها... تقدمهم ذلك السيد الذي استسمحني لمشاهدة الصور التي التقطتها بالكاميرا...كان ذلك في مكتبه بالطابق السفلي، وقد لمحت عددا كبيرا من معاونيه. وضع الشريط وطفق يشاهد مشاهد الطريق، والنساء الجبليات، والأشجار المتعانقة والصيادين...

مد لي الشريط وقال: أهذا ما أعجبك في قريتنا الجبلية؟

- أحببت تشعبات الجبل...والشاطئ الصخري...

- بلغني أنك قمت بجولة للتصوير صباحا مع خيرة...

ـ أحببت ان أصور الناس، لكن الحركة قلت هذا اليوم..

ـ اليوم يوم سوق بيع الأغنام والقرية تكاد تكون قافرة هذا اليوم، الجميع يذهبون إلى السوق...

عادت إلى ذهني صورة المرأة القروية التي التقيتها على طرف الطريق في اليوم الأول لدخولي القرية، لقد سارت نحو السوق بدورها ولم تخلف وراءها سوى الغبار...

- لكن الحياة الحقيقية مرآة لتوحش الحيوان في الإنسان... ذلك هو العالم الطبيعي... كان عليك أن تصوري صيادي الذئاب والخنازير...

تمنيت أن يختفي هذا الطيف ذي النبرات المتحشرجة، لبس صوته الصاخب ووصلني مصمما وكأنه يتعمد استفزازي، كأنه لا يريد أن يراني أخلو إلى نفسي. كان أكثر ما يقذع نفسي الصوت الآدمي وضجيج السيارات والآلات، والكلمات التي تخترق عالمي. ينغص علي الصوت رؤيتي الخاصة، ويقرع اذني بنبراته الساخرة، فيبعث في شعورا مريعا، ويشعرني باختلاط الرؤى..

- الطبيعة جمال وصراع ودراما...

- ما شاء الله.... ما شاء الله... صوت البحر الصاخب يوحي بهذه الدراما... والصيادون العشاق لم يستطيعوا ترويض الحيوان الكامن فيهم لينطلقوا نحو أعماق البحر....

ماذا يريد هذا المتعجرف؟ لم يمنعني من الاستماع إلى معزوفة البحر.فهل كنت أتصدى لهذا الصوت حقا؟ أم أدافع عن أوهام خيالي في تصويري لتعايش الإنسان مع البحر؟.. كنت أعيش مع عالم من الصور، وكنت أحبذ الأفلام الصامتة، وأحنق على مخترعي الصوت في السنما، وأشتاق للأفلام الصامتة حيث الكاميرا تقول الحقيقة من خلال العين وتعابير الوجه وتفاصيل الحركة، أما الصوت فهو غالبا ما يضعف الصورة أو يركب عليها، ويحملني إلى عالم من الضجيج..

- أريد أن أعرف لماذا صورتني بهذه الكاميرا في ذلك المشهد مع خيرة؟

أخبرته أنني كنت قد صورتهما صدفة لأنني كنت منشغلة بتصوير بعض الصور الطبيعية لأنها لن تتكرر من خلال الأضواء المنعكسة على السماء، اصفر وجهه وكأنني خيبت أمله. 

 قال إنه على علم بأنني اكتشفت طريقا أنفذ به إلى حوش خيرة وصورت الجمال الطبيعي، " كانت تحدثك عن رغبتها في تصويرك لنا، وفي قرارة نفسك كنت تبحثين عن نيتها الحقيقية، وكنت تدركين أن خيرة تريد إحراجي بالصور."

- ذهبت لتصوير الحوش الصادم فحسب... ولا أعرف من أين تأتي بهذه التفاصيل...

لمعت في عينيه رغبة ما، وكنت على يقين بأنه لم يصدق في قرارة نفسه الهدف من زيارتي للدار، لكنني حولت تخميناته إلى ذهول...

- كان أحمد هناك جالسا تحت شجرة الصفصاف ولم تتفطنا لوجوده في البداية: وأردف بتهكم: "ستقضي خيرة بقية حياتها في غيبوبة"، وابتسم بمكر. 

تذكرت خيرة التي تحدثت عن مصباح صغير ستتركه مضاء وسط الدار، وعن الثقب الكبير في الحائط الذي بامكانه أن تثبت منه الكاميرا، وقد قرأت حسابا لكل التفاصيل. 

ويبدو أن أحمد سمع ما كانت زوجته تخططه، ولكن لم تظهر على ملامحه المبالاة، وقد وشى بها ليتخلص منها، ويستحوذ على الحوش.. وباغتتني رغبة في توديع أحمد وخيرة والحوش والإسراع في مغادرة الجبل...كلها أحداث مركبة لابتزاز الرجل الثري... فخيرة تسأل عن الكاميرا وتفاصيل التصوير... وكأنها وجدت في ظهوري ما يفتح لها أبوابا مقفلة... أو ربما كان ذلك من تدبير الرجل الثري ليوقعني في فخ ما....

أخبره أحد معاونيه أن الراقصة حضرت. دخلت الراقصة زهوة، وعاد بعد لحظات ليقول له أن أحدهم بانتظاره. ترك الراقصة قربي في المكتب وغادر ، وكان يبدو على الراقصة زهوة الابتهاج وهي سترقص للمرة الأولي في حفل رفيع، يعيد لهاجر صورتها المشرقة...وسرعان ما انتقلت للحديث عن خيرة التي يبدو أنها تشعر بالسعادة لزواج هاجر، وابتعادها عن طريق زوجها، لقد تركتها هناك في الحوش....

 وسألتني عن زنوبة، فتذكرت كيف تحولت زنوبة إلى بجعة، وكيف كانت تحدثني عن رغبتها في أن تصبح راقصة، بعدما أقفلت كل أبواب الشغل في وجهها فلم تشفع لها لا شهادتها الجامعية ولا نزواتها... تقول أن قطار العمر يجري وهي لم تغنم من الحياة لا بمبلغ شهري بسيط ولا بأي فلس، قال لها المعتمد "سنعينك على أخذ قرض"، ولكنها لا تعرف إدارة المشاريع ولا ترويج المنتوج، كل ما تعرفه مادة الآداب والرقص الجسدي، وهالني أن تحكي الواحدة منهن عن جسدها بتلك الطريقة التي لم أهضمها...

المطرب الذي صعد على الركح سرعان ما استعاذ عن الفن الشعبي التونسي بأغان مصرية شعبية والراقصة زهوة تتلوى وتتمايل كأفعى تقتنص كل النظرات.. ولكن السيد خرق ذلك الجو الصاخب طالبا من الفرقة الموسيقية أن تعزف أغنية " الرضا والنور" لأم كلثوم والكف عن هذا الضجيج، وطلب من الراقصة الكف عن الرقص الشعبي فهو لا يروق له....

غادرت الراقصة باكية، وطرد العريس، ورشقت سيارات عائلته بالحجارة، وغابت هاجر التي يبدو أنها غادرت المنزل قبل طرد العريس... وبدت ملامح السيد المخادعة لا تجذب إلى اليقين، فالحفل الذي أقامه من أجل استدراج زهوة وإهانتها ، واستقبال العريس وعائلته لطردهم...

 

- جلبتها لأسخر من سخفها... الراقصة المشعوذة... 

- كان عليك أن لا تتركها ترقص منذ البداية..

- لقد دفعت لها أجرها مسبقا، وهي لا ترى في الأمر إهانة...

 

... في غرفتي بالنزل. دق الباب، وجدتها زهوة تريد رؤيتي.. أدخلتها، بدت لي متوترة وهي تحمل حقيبة ملابسها..

- هل ستغادرين؟

- لا مكان لي عند الأثرياء...

-...

- لا تغتمي، لقد قبضت مبلغا هاما من المال ورقصت في ذلك المنزل الفاخر، وأنت هل ستبقين طويلا في منطقتنا؟

- يبدو أنني أنهيت التصوير...

- عموما اكتشفت أن السحر لا يركب على الأثرياء، فيبدو أنهم يبطلونه بسحر أقوى...

طفقت اتأمل الحديقة من النافذة. التقت أغصان الأشجار ببعضها وتعانقت ، تشابكت خطوط قلقي إلى حيث المجهول... إلى ذلك البحر الذي هربت إليه هاجر في تلك الليلة قبل اكتمال المسرحية...

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1426 الاحد 13/06/2010)

 

في نصوص اليوم