نصوص أدبية

مدارج العـودة (19)

أزحت الستار أنظر من بلور النافذة... كان صوت منية يتردد وقد فجعت في غرق إبنتها هاجر في البحر، ولم تطف جثتها بعد....

 رأيت نفسي أقف أمام بحر في منطقة جبلية. أعرف ذلك المكان جيدا، ومررت به أكثر من مرة أثناء رحلاتي إلى الشمال... في ذلك المكان لمحت منية تشق ثوبها... وتداهم البحر الهائج..... وتنادي ابنتها هاجر... شق صراخ منية الجبل....

أفقت على صدى تلك الصرخة التي قطعت نومي، نهضت بتثاقل واتجهت نحو غرفة الجلوس حيث الأوراق المكدسة على إحدى الكراسي تسرد اكتمال الحكاية... لقد انتهت القصة بغرق هاجر.... في حين أن هاجر مازالت حية في الواقع، فهل أبحث عنها بين ثنايا قصة جديدة... أم أواصل كتابة القصة لتستحيل إلى مروية طويلة؟ كم كان يلزمني من الوقت لأغرق في غيبوبة الكتابة؟ 

بدا وجه هاجر شاحبا في ذلك اليوم الذي هربت فيه نحو البحر، وكأنها ترى بقايا ذاتها، فشعرت برغبة جارفة في كسر المرآة لتطل على أرجاء الوجود من إطار يخلو من الحواجز، ويحرر الوعي من خدوش المشاهد الرهيبة التي مرت بها، ولكن يدها تجمدت وتسمرت وهي تمسك بالمرآة ، وباغتتها رغبة في جمع أشلاء مشهد هرب العريس وعودته، وطفقت تبكي بعنف وشعرت أن دموعها لو فاضت لصارت بحورا تغرق الأرض وتبتلع مآسيها. 

كم سلب مشهد عودة زوجها بهجتها وبلل وجهها بالدموع.. كم حطم أحلامها.. كم محا صور الشمس التي تلون أمواج البحر بزرقتها، كانت تحاول التطهر من كلمات المواساة ومن ملامح صورة زوجها ونظراته المنكوسة، لم يبق غير الجنون يدعو إلى مقاومة الحياة بصورها المألوفة والتي ستؤدي بها للموت حتما . 

تراءت لي صورة منية من جديد وهي تولول وتشق ثوبها إلى نصفين وقد غرقت إبنتها هاجر في البحر في ذلك الليل الموجع الذي بكت فيه نساء وبنات الجبل أسفا على شابة في طراوة الحياة والعنفوان، ماكان يجب أن تتركها تغادر المنزل في تلك الليلة. ذلك ما لامت عليه نفسها، وتخيلت كيف ينزف قلبها وهي ترى البحر ماثلا أمامها. لكنني أدرك أن هاجر لم تمت وأنها حاولت السباحة نحو شاطئ الصيادين، وأن بعض البحارة أنقذوها وهي تعيش في حوش جبلي بسيط مع إمرأة مسنة كانت تعمل عندهم... فهي تريد أن تخلو لذاتها بعيدا عن الجميع...لقد اتصلت بي بعد عودتي لتعلمني بمكان وجودها، وطلبت كتم السر، وطفقت تحدثني عن تفاصيل نجاتها....

انقلب مزاجها في تلك اللحظات، غمرها صخب الموج بجنون، حطم استكانتها وهز أفكارها، وعصف بيقينها، تحطمت الأمواج على الصخر.. ارتخى جسدها على الصخرة وهي تستمع إلى هسيس خافت يدعوها إلى الانطلاق في طريق البحر. أغمضت عينيها. أدركت فضاعة المشهد، واتخذته سببا لاجتثاث بذور تجاربها مع هذه الأرض .. النظر بعينين مغمضتين فتح لها عالما تريد اكتشافه.. ظلام أخافها، بحار استفز سكينتها. يغريها البحر، تبحث عن أمواج تنتشلها من طريق التيه، تراودها رغبة ولوجه كطفلة تتقد إحساسا وتقترف الإثم، ها هو البحر الصاخب يناديها. البحر لا ينادي إلا الشجعان، غير المبالين بعمقه.. ارتمت نحو المجهول، نحو موطن عرائس البحر حين تعمتمت روحها وصارت من غير معنى.

شدت كل الأوتار إلى بعضها والجسد يمتطي الأمواج على معزوفة الريح.الأمواج عالية مزبدة... لم تقو على المواجهة ولا على الصراخ، البحر يفتح فمه ليبتلعها. سيقضم السمك جسدها ، ثم سيرمي به الموج جثة إثر سلب روحها. انغرز فيها الخوف واستحال إلى وخز أشواك . حملت الذعر في داخلها، ولم تستسغ أن تندفع أمواج البحر دون غاية.... ما فتئت تستمع إلى قرع الأمواج وهمساتها، وكلما تقدمت للأمام كلما انبعثت رائحة الملح أكثر عطونة. تاركة في حنجوتها مادة حارقة. تستحيل روحها إلى شمعة خافتة، تراها في مرايا العمق تنزف وتئن و تجاهد لإحيائها في لحظات موتها إذ عشقت رؤيتها ولمسها والتمتع برائحة الضوء المنبعثة من فتيلها كأريج الحبر الذي يرسم تنامي الحركة. 

- "ادفعي بجسدك" وصلها صوت البحارة من على قارب، يلقون بأنفسهم في البحر، لم تكن هاجر مدربة مثلهم على الغوص. لكنها لم تكن تملك بين طياتها نشاطا تصرفه.. تداهمها شهوة الحياة وتفتك بها تلك اليد التي تجمع الشمع المنصهر وتعيد تليينه وايقاده، عندها تعثر روحها على طريق آمن في بحر عميق، وتجذبها الأيادي من لجة الغرق إلى حيث القارب. هذه الروح الخافتة تنجلي شفافة متوهجة حية، تحلق في جسد رخو وفي قلب متفجر بالحياة.. ينفتح فمها، يمتص الهواء الفاسد من رئتيها، تتنفس بصعوبة تقرع أذنيها أصوات الموج . تهمس برقة الأم، تفيق من بعض خدر، تزداد الهمسات رقة، تنبري كأنثى حنون ترعى ثمرة...

 وبدت كأنها عائدة من رحلة التيه. 

كأنها اغتسلت في حلم بعيد عن بؤس الأرض، أو كأنها انزلقت إلى الذاكرة المهجورة وعثرت على حقيقة روحها، كأن الجمال يجذبها ويغوص بها وهي تتسلق الموج العالي، وكأن الهوة التي انفتحت في أعماقها كوة مضيئة، دافئة، فتزذاذ الروح نشوة وطربا وايقاعا، ولكن سرعان ما استشعرت الخطر المحدق بها وهي تخترق كل القيود .. الروح النائمة تستيقظ بحذر.... والفم الملتصق بفمها مازال يبعث الأكسوجين في رئتيها، تقاوم ذلك الخدر الأشبه بالشلل، تتخلص تدريجيا من جهد الأنفاس، كأنها كانت تقاوم الجروح التي نزفت في باطنها حيث الشرايين الغضة، فصارت انتفاضة الأنفاس أشبه بروح عائدة تشق حروف المستحيل.

حين نهضت من خدر الغيبوبة بعث طعم الملح العالق في لسانها حالة من الغثيان . وضع البحار إصبعه في حلقها. تقيأت رغوة الزبد والزعانف التي كانت عالقة في حنجرتها. كانت ككتلة حجرية مرة تحرق ما تبقى من لعاب ملتصق بأسفل لسانها الكالح وعادت إلى أنفاسها رائحة أعشاب البحر.

في طريق العودة استشعرت أنها عبدة لهؤلاء البحارة متسائلة في سرها هل هم أخيار أم مجرمون. الندبة الغائرة على جانب الوجه الأيسر لأحدهم بدت لها كضريبة للتوغل وفي وجع الواقع. أشعل البحار الذي أنقذها سجارة وطفق يغني بصوت متحشرج " قالولي روح يالبراني.. وقعدت نوح وحداني ".....

كانت الملوحة المنبعثة من مسامات جسدها تبعث فيها شعورا بالغثيان، دلتهم على حوش تلك المرأة المسنة، و هناك قامت تلك العجوز بتدفئة الماء ثم شرعت هاجر في الاغتسال، وفي تلك اللحظة عادت إلى ذهنها صورة الموج يدفعها إلى القاع والبحاريعيد جذبها إلى هذه الأرض، ويزيح عنها طبقات من الملوحة التي كانت ستحتم تمليح جسدها وتخثره كما ملح الرومان أرض قرطاج. وفي لحظات الغرق تلك شعرت بأنها تدور في دوامة عبثية أشبه بحفرة كابريدس تلك التي لا تقربها البواخر في البحر الأحمر... وكانت تسمع في تلك الحفرة صرخات والدتها الدفينة... وكان جسد هاجر المهزوم تعبث به الدوامة العبثية وتبتلعه حين أبتلعت كميات من ماء البحر المالح وزعانفه العطنة لستشعر أن النجاة مجرد وهم وخيال أو رغبة دفينة بعيدة عن الإدراك، وتجاوز حلمها مساحات الخيال إلى عوالم اللاشيء التي لا تحددها بداية أو نهاية . 

وفي قرارة نفسي لم أصدق حكاية غرق هاجر، وبدت لخاطري تفاصيل جديدة للقصة حيث اتفقت هاجر مع البحار الذي أوصلنا من شاطئ الصيادين لانتظارها، ليوصلها إلى حوش العجوز القريب من شاطئ الصيادين ... لتختفي هناك ولا يعثر لها على أثر.... 

وطفقت أسترجع حكايات ذلك البحار عن هؤلاء الحارقين الذين يرمون بأجسادهم للبحر، قائلين: " يأكلنا الحوت ولا يأكلنا الدود "، كان يدعوهم ليرحموا أنفسهم كي يرحمهم البحر، فكيف يرمي الواحد بنفسه في العاصفة في لحظة ما.. وصف البحار " الحارق" كذلك الطروادي الباحث عن أرضه وهو يركب صهوة الموج ولا يردع تمرده، قائلا إن تركيبة الانسان الضعيفة المشوهة هي التي تجعله يستعرض مأتمه في لحظة تهور، تلك التي تشبه لحظات اندلاع الحروب والنكبات التي تؤدي إلى تفسخ ملامح الإنسان وتخثره، مخلفا وراءه الدموع والحزن... 

حين نزلت من السيارة أمام البحر . استنشقت رائحة البحر، استشعرت أن الجرح سطحي وأنه قابل للالتئام، وأن البحر نزع عن هاجر الأوهام وهو يلقيها من قاع الخيبة ويسكب فيها أنفاس الحياة. البحار الذي عاد بنا إلى القرية الجبلية تراءى لي في الحلم بدوره.. أراه في الحلم يحمل هاجر بين ذراعيه ويحملها إلى حوش العجوز ..في تلك الأثناء وفي الطرف الآخر من الشاطئ البحري لمحت ذلك البحار الشاب، يسيرنحو البحر...

- جئت هنا لأشكرك لأنك أنقذت هاجر..... 

- هاجر لم تغرق في البحر، ولكنها غرقت في بحر الحياة...

- أعرف أنها تبحث عن الطمأنينة...

- سأعرفك على حوش العجوز إنها تعتني بها، ولكن من اخبرك بكل هذه التفاصيل...

- تناهت إلى من همساتها وهي تطلب منك البقاء على الشاطئ... لكنك تخاطر بنفسك لأن عائلتها لن تصمت.... 

 في مكان ما من ذلك الشاطئ الصخري ثمة حوش لا يتسع إلا " للحارقين "، الهجرة السرية تحولت إلى هاجس لكل شاب عشش الوهم في ذهنه، ونظر إلى الضفة الأخرى بانبهار، ودخل إلى حالة الحلم: الحلم بالهجرة، المخاطرة، الرحيل نحو المجهول.. المراكب تتجه شمالا، يمارس أصحابها تجارة بيع الوهم، لتغرق شاشة التلفزة بدموع عائلات الشباب الذين غرقوا أو هؤلاء الذين فقدوا، ولكن تغيب دائما صورة أصحاب المراكب عن الشاشة، فهل تحولوا إلى أشباح؟... وحدها هاجر انشغلت بتصوير هؤلاء من مكان ما في حوش العجوز وهم يقبضون آلاف الدنانير عن كل شاب يلقي بنفسه في بحر متغطرس ... وينتظرون إشارة ما ليبحروا بهم نحو مصير ما...

كان البحر عظيما، وكان الإنسان ضئيلا، يعلمه البحر معنى المواجهة، ليحصل على الثمار واللآلئ، لكنه لم يتعلم الغوص نحو الأعماق، بل قذف نفسه في دوامة كابريدس العبثية... 

 

 

 

في نصوص اليوم