نصوص أدبية

مـدارج العـودة (الأخيرة)

تقليعات الإغراء في غياب الصوت الجميل ... واستبد بي أمر الصور، الصور المتدفقة  من الفضائيات . صور تصل كل لحظة .  صور متدافعة، متلاحقة، سريعة، "مرتبة ترتيبا صناعيا"، تلبي متعة المشاهدة، تقذف أسلحتها في لحظات خاطفة، وفي خضم زحف الصور أقلب ألبوم الذكريات أتصفح صور الأجداد علني أبث الحياة في الصور، وأسترجع الذكريات، من خلال عالم انقضى و زال،  على يقيني بأن الموت تلبس بالصور وحولها إلى أشباح للماضي،  وكأنني أتحاور مع الأطياف في عالم هلامي، يغيب فيه الجسد الذي تحول إلى آلة معطبة، خالية من الروح ...

 

 ولكن الذكريات لا تكشف عن اللحظات الغائبة بقدر ما تعكس تصدع مكونات العالم من حولي، أدرك ما تعنيه الصور المنبثقة من مرآة الذاكرة كواجهة للحظة التعري، أو الذاكرة كمرآة لصور ميتة . قد ترتسم حلما أو استرخاء، أو ظلالا .  تغوص في أعماق نفسي لتكشف ذلك العالم المتخفي في خبايا الذاكرة .  تتقنع المرآة بوهم الماضي كلما تفرست في المرآة كانعكاس للحظة الوهم في مواجهة الحقيقة، فحقيقة الصور الآنية مرعبة، فيها الكثير من سفك الدماء في فلسطين والعراق، لكن لحظة الاسترجاع لصور الذاكرة كفيلة بارجاع صدى الحياة .

 

أسترجع صورة جدتي  لأشكل المعنى، وأجسد صورة حية نابضة بالحياة، وفي حالات خط الصورة، أعيش تجليات الأنوثة وأعيش حالة وضع الحكاية العسيرة .. حكاية تكسر صورالعقم والموت، وترسي الخصوبة في تجلياتها الجمالية والتشكيلية . ولو عبر شخصية واحدة في النص وهي الرسامة هاجر التي عاشت بين شخصيات مهزوزة وتابعة ..

 

 وجدت هاجر قد حولت حوش العجوز إلى مرسم، وزينت جميع جدران ذلك الحوش بلوحاتها، وكأنها تستنهض القيم على الجدران المتآكلة .. أرى في لوحاتها هدى الفلسطينية، تلك الطفلة التي قتلت البحرية العسكرية للعدو والدها العجوز الذي حفرت شروخ الزمن وجهه ـ تجري على الشاطئ الصخري تنادي والدها القتيل، وخيرة تركض وراءها باحثة في ذلك المشهد عن ظل جدها الذي سقط في النهر . وتنجلي في لوحاتها صور متفسخة دون ملامح لهؤلاء الحارقين  الضحايا  على مراكب تجار الموت،  وترسم هاجر سهاما لهؤلاء البحارة الحراقة، وتشير إليهم وهي تندد بالجاني الذي لا يظهر في الصورة، ويلقي بالضحايا في البحر، وبين القضبان، وترسم مستشفيات علاج نفسي لمعالجة الضحايا ..

 

 و تنبري فتاة تتلف فلم الشياطين، و تحمل لافتة تندد بتجار الفن ... وترسم في لوحاتها دعاة التبشير، وتلتقط صور المرتدين، وترسمهم في مقابر نجسة، وينهض الجدود من القبور يتقدمهم جد خيرة، يمنعون هؤلاء البيوعة من الدفن إلى جوارهم في مقابر الهوية، صارخين " الدين وطن ومن باع دينه ببعض الفرنكات باع وطنه"، وترقد  الأجساد المرمية في شوارع العراق وفلسطين ولبنان إلى جانب هؤلاء الأجداد مطمئنة  . وترسم هاجر تلك  الأجساد التي تلقي بها الآلة الإعلامية الإشهارية .... واللحم الرخيص المرمى على قارعة الطرقات وفي القنوات .. أتفرج على هبوط الإنسان إلى أرض الدمار والحروب وقد تعرى تماما من أوراق الجنة في لوحات ترسم جراحات الجسد وهو يرقص رقصة الروح الذبيحة ...

 

 

وتتصدر تلك اللوحات صورة عجوز ذات ملامح صلبة تلبس الزي البربري وبيدها عصا غليظة تسوق القطيع وتتوعد تجار الفن والدين بنظرات قاسية .

 

أحدثت في هذه اللوحات المشحونة بالأجواء الهستيرية حالة شبيهة بتلك التي عشتها  ليلة غزو العراق في إحدى المطاعم التونسية، ففي تلك الليلة كان المطعم غاصا بالعابرين  الذين يبحثون على ما يسد جوعهم في جو كئيب يهدد باغتصاب صرح عربي  .... كانت ليلة مشؤومة، برد يقرص الجلد ويلذعه، وكان صاحب المطعم  يلهو بأعصاب هؤلاء الذين جاؤوا لإشباع جوعهم ... كان يمر من قناة الجزيرة إلى  فنوات غنائية ... وكانت نانسي في كليبها " أخاصمك آه " ... وبقدر حرص الزبائن على معرفة آخر الأخبار فلم يقاوموا الرغبة في مشاهدة الفنانة الجميلة في فستانها المغري ... يمر صاحب المطعم الى لقطات إشهارية لذات الفنانة بفستانها الأحمر و بمقاطع نفس الأغنية، و يتحول القلق  إلى توجس، و يتحول صاحب المطعم إلى لاعب ماهر يلعب بالأعصاب ويمارس فن التهدئة .... " أخاصمك آه، أسيبك لا " .... وانفجرت كلمات ساخرة  لأحدهم وهو يقول لصاحب المطعم : "هل تريد أن تمرر لنا رسالة بوش لصدام عبر هذه الأغنية  " ..."أخاصمك آه أسيبك لا" .... ويردد آخر "هو لا يقصد صدام بل يقصد آبار البترول"، ويضرب آخر كف على كف ويلعن الزمن المشؤوم ... لا يجيبهم صاحب المطعم لكنه يمر إلى قناة كليبات تعرض أشباه مغنيات يرددن أغان هابطة في ملابس خليعة ... ويرد آخر "نستاهل نحن الذين رمينا بأجسادنا للكلاب" ..

 

ترتسم  لوحة سريالية لهذا الجسد العربي المفتت، كبقايا جسد يرمى للكلاب في المدن المعتمة الأشبه بكهوف، والمدن التي اكتست بلون الغربان، تدعونا  إلى وليمة فرح في حفلة تنكرية تنكأ الجراح وتعكس لنا صورة أخرى للبهجة ... حروب وجراح وجسد منكل به : رسالة خفية في صور  تنكرية ... وصناع الفن يريدون ايهامنا  بأن الجسد هو السعادة وهو الايروس وهو الفردوس الأرضي ....

 

  صورة المرأة العجوز بزيها البربري  صورة مجسدة أمامي ولا تحيل إلى ماض  انقضى بسحره وجماله وبريقه،  صورة لملامح امرأة غزت ملامح وجهها التجاعيد وداهمتها الشيخوخة، لترى الغد من خلال غياب رونق الماضي وجماله . وصور الذاكرة التي حملتها معي وأنا أعتلي مدارج العودة نحو الذات .. لا تشير إلى الموت من خلال بقائها كأثر بقدر ما تشير إلى الموت كقراءتي لصور الحاضر . فالموت يلازم صور الذاكرة ويعكس قدومه القريب عبر آلة العدو الآثمة، مما صبغ نفسي بالكآبة والوحشة، أستشف من خلال الصورة دلالات الرحيل، رحيل كل التفاصيل التي تصنع السعادة وتشع من خلالها الحياة . انتابني الوعي بتهرم الحياة وزوالها القريب، ولكن هذه التجاعيد في وجه العجوز التي تلبس الملية البربرية، وتحمل بيدها عصا وتسوق القطيع  بذلك الجسد النحيف  المستقيم، ما جعل جسد الجدة حاضرا، فلم أدعي موته في الواقع ؟

 

وأدركت أن ذلك البحار صاحب القارب هو إبن العجوز وقد تزوجته هاجر، وهي تعيش تجليات الحمل في ذلك الحوش البسيط مع تلك العجوز المتغضنة الملامح، وبين تلك الجدران المتآكلة التي علقت عليها لوحاتها ... لوحات تضج بالحركة،  وبالخروج من عالم آسر، قد يميت الذات ما لم تتفصد منه صوره ومفرداته . هي حالة مكابدة وآلام فعالة تجسد تمخضات الولادة، ولادة المعنى مكتملا في شكل صورمشخصة .

 

أتفرس بدوري شريط الصور في غياب الضجيج والكلام  ..  أحفل بالجانب المرئي الراهن والعلامات المرئية المتحركة والجامدة . و تبدو صور العجوز البربرية هناك  شبيهة بصورة جدتي التي كان لها أثر باق في الذاكرة ولم ينمح بفعل الزمن  ...

 

 انبلجت ذات تحل أسرار الحلم وتفسر معاني الألوان وتفك صور الصمت والكلام . ينبلج السواد، يسترسل في المسامات كخطوط متشابكة  . يشع الضوء فتنصهر الروح كقطعة من الحديد وتتمخض . ننعكس قبلات خيوط الشمس الأولى  .. أرنو نحو جمال السماء .. نحو الأفق، أتطلع للآتي .. وأستشف حقيقة ذاتي وقد وعيت بها بكل أبعادها . في لحظات النشوة تلك ارتقي بفكري وأعماقي إلى حيث الحلم ...

 

الحلم يحميني من قيظ شموس الصخب ومن أمواج الروح الحائرة .. الحلم هدوء يقهر العبث والجنون، ويرسمني بموسيقى الحياة لأخلد صفاءه كلما نقط حروفي وأتدثر بحرير كلماته وأصحو على صدى ألحانه . يهبني أغلى رحيق في الوجود من نافورة قلب لا ينضب وعشق لا يأفل وحب لا يزول، تأملت قسماته فاكتشفت أن كل تقاطيعه دروب رسمها لي كي أعتلي مدارج العودة ....

 

انتهت

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1429 الاربعاء 16/06/2010)

 

 

في نصوص اليوم