نصوص أدبية

صديقي فارع الطول

لجسدي بالهزال ولا لكتلتي بالإنكماش لأن ذلك لا يصلح لقصار القامة أمثالي، سأكون قميئا إذا سمحت بذلك وما فكرت باعترافي بقصر قامتي إلا تحت ضغط حقيقة كون صديقي حامد فارع الطول بالنسبة لي على الأقل، إذ لا بد لي من رفع أرنبة أنفي عاليا كي أكلمه أو أنظر لتعابير وجهه الطفولية، وفي الحقيقة كان لقائي وتعرفي بصديقي حامد محض صدفة وعادة لا تستمر مثل هذه العلاقة بين قصير وطويل فارع ووجدت أن سر ديمومة علاقتنا تكمن في ظروف صنعتها الطبيعة دون أن نتدخل في الأمر، مثل علاقة العصفور وفرس النهر،اعتقدت  بسري الصغير هذا وأخفيته واستمر الأمر دون أن يعكره شيء .

أنا وصديقي حامد الفارع عندما نسير في الشارع أكون أقرب منه كثيرا إلى الأرض، أرى الشارع المليء بالحفر والمطبات التي تنوعت واختلفت حجومها باختلاف أسبابها بين مساقط قذائف هاون عشوائية أو مجاري مياه ثقيلة مخربة أو أخاديد عميقة خلفتها سرفة دبابة مرت بهذا الشارع أو ذاك، كل ذلك أفحصه بكفاءة عالية تفوق قدرته على ذلك لأن الرب الذي منحه طولا فارعا، أعطاه أيضا نظرا قصيرا،أما أنا فنظري حديد والحمد لله، كنظر النسر الأمريكي الأصلع الذي نشاهده مرسوما على أكمام بدلات الجنود المنتشرون هذه الأيام بين ظهرانينا،و علي الإعتراف أيضا بحاجتي لطول صديقي الفارع عندما ننتظم بتلك الطوابير الإفعوانية التي طالما انتظمنا بسلكها كانتظام حبات المسبحة بخيطها من أجل الحصول على شيء تافه توزعه الجمعية بأسعار مخفضة ذلك الشيء الذي لا يمكن التنازل عنه لشعورنا بأن التنازل عن مثل هذه الأشياء التافهة يشكل تهديدا لما يتاح لنا من حقوق طارئة وهي بالطبع قليلة ونادرة رغم تفاهتها ولذلك فدور صديقي فارع الطول يتلخص بقدرته الفائقة التي لا يجاريه فيها أحد على حجز مكان مرموق في جسد الطابور الطويل وتوفيره لملاذ لي خلفه، كذلك حاجتي لطول صديقي الفارع في التجمهرات الكبيرة أمام الدوائر الرسمية التي تستمتع بتعذيبنا على مهل ولا تريد أن تعمل بنظام الباب المفتوح، تغلق أبوابها أمام مراجعيها وتفتح كوة صغيرة لا تكاد تكفي لمرور كف واحدة لأيصال طلبك إلى الموظف المستأسد بعرينه ، وهنا يستثمر صديقي طوله الفارع بوصوله إلى كوة الحكومة قبل الجميع ووجدت أن وضعي كقصير قامة جيد جدا بوجود صديقي حامد الفارع وإن اعتقدتم أن فوائد حامد الفارع لي أكثر من فوائدي له فأنتم واهمون، إذ أن صديقي الفارع طيب القلب تميزه سذاجة باعثة للحيرة لذلك لا بد لي أن أكون حاد الذهن سريع التفكير واسع المخيلة كثير الوساوس والشكوك فيما يتعلق بالآخرين كذلك كثيراما هرع لي صديقي الفارع لإخراجه من ورطة تورط بها مع آخرين دون قصد أو مساعدته في مواجهة معاضل طارئة تجعله في حيرة من أمره، لذلك فأنا وهو متعادلان وعلى ذلك توطدت علاقتنا حتى جاء ذلك اليوم الذي قيل فيه ما قيل عنا أذا أقبلنا أو أدبرنا، جاء(الرقم10) وذهب الرقم(10) يعني ذلك إنني أنا وصديقي الطويل نشكل رقم عشرة وقد شغل ذلك بالي كثيرا وارتبكت موجة تفكيري فيما يتعلق بذلك فعندما حسبت الموضوع بطريقة رياضية لأحدد قيمتي على انفراد من العشرة فوجدتني استحوذ على ال(6) من (العشرة) أو أقل من ذلك بقليل ولنقل (خمسة) لكنني في الليل أتقلب في فراشي وأجد إنني بالنسبة لما يعنيه الناس أمثل الصفر من العشرة ويمثل صديقي حامد الفارع الواحد الطويل من العشرة وشتان بين القيمتين، عند ذلك أصاب بكآبة شديدة تبدو مرسومة على سحنتي لتوصلي لهذه النتيجة التي لا ترضيني أبدا كل ذلك وأنا أعلم جيدا إن الواحد لا يصبح عشرة إلا بوجود الصفر إلى جانبه لكن ذلك لا يرد اعتباري إذ إنه ينطوي على اعتراف صريح بأنني ذلك الصفر في القضية وعندما ألتقي صديقي الفارع صباحا، أنسى ذلك وأراني بالنسبة له فوق الصفر ولا أبالغ إذا قلت إن ذلك ترك شرخا خفيا بعلاقتي بحامد الفارع وهو لا يرى ولا يعلم بهذا الشرخ وحرصت على ذلك، لكن الأمور تغيرت كثيرا عندما اختطفنا أنا وصديقي الفارع ونحن ذاهبان إلى عملنا في شارع الكفاح، شارع الصيرفة إذ كنا من الصرافين الصغار هناك، ظن الخاطفون إننا صيد ثمين لكننا في الحقيقة لا نحمل مالا إلا على قدر مصاريفنا اليومية وعندما طالبونا بإعطائهم المال الذي نخفيه أخبرناهم بالحقيقة ولكنهم لم يصدقوننا فانطلقوا بنا خارج المدينة ليجري تفتيشنا بدقة وعلى مهل أنزلونا وسط صحراء قاحلة في منطقة البسماية لا ماء ولا شجر ولا أطلال نلوذ بها من حر الصيف اللاهب، جردونا من ملابسنا وتركونا عاريين إلا من اللباس الداخلي ثم أمرونا أن ننتظر ولا نتحرك وإلا ... فامتثلنا لأوامرهم حرفيا وكانت الشمس عمودية على سمت الرأس وقت الظهيرة والفصل كان صيفا متطرفا وعندما انتبهنا من هول الصدمة كانت الشمس تحرق جسدينا العاريين وتشوي رأسينا الأصلعين، استنجد صديقي الفارع بي كعادته قلت له لا بأس سنتدبر الأمر، دعنا نستظل ببعضنا بالتناوب أنت تقف وأنا أستظل بظلك وعندما تنتهي نوبتي تستظل بظلي أنت فوقف حامد الطويل كنخلة سحوق ووقفت استظل بظله الوارف أحتمي به من حريق الشمس ولم تكن في ذلك مشكلة فهو طويل وأنا قصير، بعد قليل استغاث بي الرجل قائلا جاء دوري لأستظل بظلك ، فوقفت متطاولا ورفعت أرنبة أنفي عاليا لكن ظلي لم يقع إلا على قدميه، يا للرجل الطويل المسكين ورحت أحثه على أن يجثو أمامي لكي يحصل على ظلي الشحيح فجثا الرجل على ركبتيه أمامي ثم استلقى على قدمي يلهث من شدة الحر، وضع رأسه على قدمي ليحميه من الأشعة الحارقة وهكذا بين الإستلقاء على قدمي والقرفصاء أمام ركبتي انتهت نوبته بالإستظلال وجاء دوري حيث وقف حامد الطويل كالنخلة وأنا أستظل بظله المديد، يا له من طويل حسدته وهو يصنع لي ظلا سابغا وبعد كثير من الوقت ومكابدة الحر الشديد جاء الخاطفون، ألقو إلينا بملابسنا وبصقو علينا ثم تركونا على الطريق العام بعد إن عصبوا أعيننا، بعد ثلاثة أيام من غياب صديقي علمت أنه قد أصيب بحمى شديدة و(ضربة شمس) قاسية فذهبت لعيادته في بيته وجدته ممددا في فراشه يأن من تأثير الحمى التي أفقدته وعيه وكادت تزهق روحه ولم يكن في تلك اللحظة طويلا أبداو كنت أقف متطاولا أمام سريره وقد كان بمستوى ركبتي مرة أخرى أو دون ذلك وهو متقرفص على سرير المرض وكنت أنا طويلا في تلك اللحظة، أكثر طولا منه وقلت في سري أنا الواحد في العشرة الآن يا صديقي .

 

عبد الفتاح المطلبي

8-6-2010

 

 

 

 

في نصوص اليوم