نصوص أدبية

الطيّب الغالي

..كان غالبا ما يدعو أخصّ أصدقائه إلى سماع آخر ما وصله من الأشرطة والاسطوانات وتلك طريقته المثلى في الاحتفال والانطلاق..

كان كثيرا ما يردّد عبارة:"الفن هو أرقى درجات الفرح التي يهبها الإنسان لنفسه.." فرط حبّه للموسيقى حوّله إلى ما يشبه الكريستال ذلك الزجاج الرقيق النادر، كما أن تنقله من عاصمة إلى أخرى منذ طفولته المبكّرة بحكم عمل والده في السلك الدبلوماسي حوّله  إلى مواطن العالم ونأى به عن التعصب لفكرة أو رأي أو جنس أو ثقافة وعزّز لديه القناعة بان سرّ الإنسان كامن فيه  وأنه أشبه  بأخيه الإنسان من الماء بالماء..

كان يحلو له الحديث عن أطايب ولذائذ مطبخ البلاد التي حلّ بها أو أقام فيها وعجيب عاداتها وخصائص أهلها..  لديه استعداد دائم أن يقع في الحبّ وبإمكانه أن يعيش كل يوم قصة حبّ غير عادية.. حدّثني أنه كان مرة بإحدى العواصم عندما رأى صبية ذات جمال وحياء..جمالها  من ذلك النوع الذي يزعزع أساسات القلب ولا تنفع معه أيّة مقاومة - والعبارة له- سحرته نظرتها ومشيتها وجميع ما فيها فلم يملك إلا أن تبعها حتى رآها دخلت دارا فذهب واشترى بعض الهدايا وقصد تلك الدار ودقّ بابها ففتح له شيخ كبير تبدو عليه علامات التعب والإرهاق التي لم تنجح في إخفاء بقايا جمال يوحي بالعراقة والنبل فاستأذنه في الدخول فسمح له ورحّب به ولم يظهر أي استغراب أو استعجال لمعرفة سبب الزيارة وجلسا وكأنهما كانا على موعد وتحادثا حديث صديقين وكان على قدر كبير من العلم واللياقة والاتزان وكرم الأصل وأخبره أن من أخلاق العائلة أنهم لا يردّون غريبا ولا يتجهّموه لان جدّهم جاء من بلاد بعيدة كان فيها قاضيا وتعرّض لمظلمة فهاجر إلى حيث يسكنون الآن وترك لأولاده وأحفاده عدة وصايا وتوجيهات ظلوا يتوارثونها كما التحف والنّفائس فيها الكثير من الحكمة والنبل والشّهامة والإنسانية منها :"الأرض جميعا وطن الحر، فإياك أن تضطهد حرّا لأنه أخ لك".. وعندما أعلمه أنه جاء يطلب يد الآنسة التي دخلت الدار منذ حين – وقد كانت ابنته – أخبره أن لها إخوة يقيمون بالخارج وأنها الوحيدة التي بقيت معه بعد وفاة والدتها وأنه لا يرى مانعا من تزويجه منها بشرط أن تبقى معه وأن لا يسافر بها إلى بلاده قائلا له :"ما كنت لأشترط عليك هذا الشرط لو كانت والدتها على قيد الحياة وكان إخوتها معنا فإن وافقت فأهلا وسهلا بك صهرا عزيزا وكنت رابع أبنائي.." وبعد أن فكّر في الأمر ووجد أنه من الصعب عليه الإقامة في تلك البلاد قال له :"يا عم كم كانت تشرّفني مصاهرتك وتسعدني لو لا ظروفي التي تمنعني من الإقامة هنا وأنت منذ الآن عمي الذي اخترته وقد تركت عندكم قطعة من قلبي.." ذات نزهة صرح لي قائلا :"إني من فرط حبّي لولدي سوف لن أنجبه!؟".. ليتك أنجبته يا صديقي وجسّمت من خلاله حبّك وحلمك وجمّلت به العالم وصنعت به أملا وتركت فيه ذكرا لك في الوجود..

صديقي الذي حدّثتكم عنه أخ لكم لم تعرفوه - كان يمكن أن تعرفوه وتحبّوه  ولعلّكم قد فعلتم-.. قصد المحجّة التي ينتهي إليها كل حيّ وانطفأ ذات صباح بمصحة لم يكن يعرفه فيها أحد ولم يتجاوز منتصف العقد الرابع بعد أن عبّأ حقيبة سفره بالموسيقى العظيمة التي كان يحبّها وأسعدنا دائما بسماعها.. ليتني كنت بجانبك وأنت تغادر فأضع يدي في يدك وأحضنك بحرارة اللقاء الذي لا ينتهي.. إن فاتني ذلك فلعل روحك التي كانت دائما ترفرف حول أصدقائك تسمع هذه الكلمات.. لها الله تلك الصباحات والمساءات.. لها الله تلك النقاشات والحوارات والنجاوى.. لها الله ذكرى تذيب الحشا..

غامضة أحلامنا..

رويناها للموج فصارت بعض ملحه

أطفال الشمس كنّا

حينا من الدهر رضعنا ثديها

اختمرت بها الرّوح

وخوّلتنا من الأفق مدى

ولأجلنا نثرت فيروزا ومرجانا ولؤلؤ

زينة لجيد عروس البحر تتجلى لنا

نحن أحبابها

عارين كنا إلا من براءتنا الأولى

عيونا تأتلق بأفراح الوجود

وألوان قوس قزح..

يا جذر الطفولة الريّان

كم أوحشتنا..

عد فقد جفّت أقدامنا على الدروب البعيدة.

 

5/11/2003

محسن العوني

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1433 الاحد 20/06/2010)

 

في نصوص اليوم