نصوص أدبية

السيدة ذات الوردة البيضاء / عبد الفتاح المطلبي

فهو لن يحتاج أكثر من ساعة لينتهي من مشاغله بعد نهوضه من فراشه، تلك المشاغل التي تكاد تنسخ نفسها كل يوم في المواعيد نفسها، اعتاد أن ينام مبكرا بعد أن يقرأ بضع صفحات من قصة أو رواية أو صحيفة قديمة وينهض من فراشه كل صباح في الموعد ذاته، قبل ساعة من وصول باص الموظفين، لذلك فإنه كان مستعدا تماما عندما زعق بوق الباص معلنا حضوره و يبدو أن الموظفين الذين يستقلون الباص قبله من مناطق (جميله) و (أور) و(الشعب) كانوا يعرفون جيدا أن الكرسي الأول خلف حاجز السائق الزجاجي على يسار الباص هو مكان جلوسه المفضل لذلك فهم لا يغفلون ذلك و لو أن أحدهم غفل أو تغافل يتم تنبيهه فورا، ذلك لأنهم اعتادوا أن يلقي عليهم التحية ثم يخطو خطوتين واسعتين باتجاه كرسيه المفضل ‘ لا يكلم أحدا ويرد على من يكلمه باقتضاب و يجيب السائل على قدر سؤاله بجملة مضغوطة ليفهم المقابل إن الرجل لا يريد الإطالة في الكلام، بيد أن الجميع يكنون له التقدير و الإعجاب بانضباطه الصارم و التزامه بالمواعيد و يحفظ له هذا الجميل سائق الباص بشكل خاص، و لو سألت أي واحد من مستقلي الباص عن رأيه فيه لأجابك دون تردد أنه إنسان هاديء ملتزم لا يتدخل فيما لا يعنيه، كذلك اعتاد زملائه في الباص الهيئة التي يبدو عليها حيث يسترخي جالسا في كرسيه لاويا عنقه قليلا إلى اليسار ينظر بعمق إلى الشارع أثناء سير الباص متابعا بنظره كل حدث و لو كان صغيرا و كل قشة تتطاير بفعل سير الباص على الشارع الذي لا يخلو من مخلفات ورقية أو أتربة أو قطع من النايلون التي جلبتها الريح من مناطق بعيدة، هكذا هو الأمر كل يوم، كان على سائق الباص عبور جسر الأحرار متجها إلى مدخل حي الصالحية ليقل موظفين آخرين و لم يكن ذلك إلا طريقا يوميا اعتاد ساق الباص سلوكه، و في اللحظة التي يبدأ الباص فيها بالصعود معتليا ظهر الجسر المحدب، كان يمسح بعينيه الرصيف المقابل من الجهة اليسرى ابتداء من أول سنتيمتر لدبيب الباص على جسر الأحرار حتى نهايته يفعل ذلك بمتعة كبيرة يفحص بدقة رصيف الجسر الأيسر و ينتبه الى تلك التغيرات في لون الطلاء الأخضر لقضبان الجسر و دعامته محاولا استكناه سبب ذلك التفاوت في حدة اللون الأخضر و هل أن ذلك حدث بفعل فاعل عامد أم أن الذي قام بطلاء سياج الجسر لم يعتن كثيرا بتوحيد اللون و أخفق في أن يجعل خليط الدهان متجانسا، كان الرجل يشغل ذهنه بكل تلك التفاصيل و أحيانا يلجأ إلى عد القضبان الحديدية المنتصبة بين حدي سياج الجسر من الأعلى و الأسفل و عندما انتبه إلى أنه لا يستطيع ضبط عددها جعل من ذلك لعبة يمارسها يوميا في نفس الموعد على الرغم من أنه لم يحصل على رقمين متطابقين ليومين متتاليين .

في يوم الاثنين الفائت لاحظ شيئا معرقلا للعبة عد القضبان لكنه اعتبر ذلك شيئا عابرا و في يوم الثلاثاء نظر بشكل محدد، عند ذلك رآها تقف هناك تسند ظهرها على سياج الجسر تحمل في يدها وردة بيضاء و في اللحظة ذاتها التقت عيناه بعينيها فاستشعر قشعريرة لذيذة تسري في أوصاله و عندما تجوزها الباص أكمل لعبة عد القضبان دون مبالاة هذه المرة و هكذا كان عليه أن ينهي لعبة عد القضبان و لم يكن أحد من مستقلي الباص قد لاحظ ذلك و قبل ذلك لم ينتبهوا للعبة عد القضبان و كان الأمر طبيعيا في الباص ككل الأيام .

صارت لحظة مرور الباص من فوق جسر الأحرار تشبه طقسا يمارسه بسرية و عندما يتجاوز اللحظة يبقى طيف السيدة ذات الوردة البيضاء يشكل هاجسا حاضرا بذهنه و صار ذلك لا يفارق خياله حتى أنه رآها في منامه و هي تدعوه إليها، لاحظ مستقلوا الباص بعض التغير على هيأته لم تعد ملامحه مشدودة على بعضها كما كانت تمنعك من التوغل بعيدا في خرائط سحنته، صارت أقل انشدادا بل بدا ساهما في بعض الحالات و في حالات أخرى لاحظ السائق من خلال المرآة التي تنتصب أمامه شروده و تشتته الذي لم يعهده فيه من قبل .

وفي الليل و ليس كعادته لاحظت أمه إنه لم يعد ينام مبكرا كعادته و عندما نظرت إلى وجهه مساءا ساورها قلق عليه فقد اكتشفت أن ذلك الهدوء الذي كان يكسو ملامحه قد حل محله شبح توتر و قلق واضح، عزت ذلك لبعض المتاعب في عمله و عندما استقل الباص كعادته صباح يوم الأحد كان قد قرر أمرا مع نفسه بعد ما رآها في منامه تدعوه اليها مشيرة اليه بالوردة البيضاء، بدا و كأنه قد فقد صبره يتلفت كثيرا و يطرق برأسه طويلا نحو أرضية الباص و ما أن صعد الباص جسر الأحرار حتى التوى عنقه نحو الجهة اليسرى لكنه لم ير السيدة ذات الوردة البيضاء، جعله ذلك مستثارا بشكل واضح و على غير عادته بقي لاويا عنقه إلى الخلف بعدما تجاوز الباص المكان الذي اعتادت أن تقف فيه ، صدم الجميع بسلوكه الذي لم يألفوه من قبل لذلك تجرأ البعض منهم و اقترب مستفسرا، خيرا أستاذ، رد باقتضاب مصحوب بابتسامة مصطنعة، لا شيء ..لا شيء، ثم راح ينظر بين ساقيه مطرقا إلى الأرض إطراقة طويلة، و على مر الأيام الثلاثة التالية تتأهب عيناه ككتيبة من الجند ولكن لا أثر للسيدة ذات الوردة البيضاء .

كان شارد الذهن حين وصوله الى مصفى الدورة، شغله كثيرا اختفائها هكذا لذلك قرر أن يتواجد في المكان نفسه و في الوقت ذاته حاملا وردة بيضاء لعلها تراه و تفهم، لعلها تنتظر منه هذه الخطوة، أقنع نفسه أنه ربما كان ذلك يعني لها شيئا و بعد تقليب الأمر على كافة الوجوه و الاحتمالات رأى أنه الشيء الوحيد الذي يستطيع فعله حيال اختفائها المفاجيء، لذلك قدم طلبا للحصول على إجازة، و ها هو لليوم الرابع على التوالي يواصل رحلته سرا من البيت إلى جسر الأحرار حاملا وردة بيضاء منتظرا في المكان نفسه فلعل ذلك يعني شيئا و عسى أن تراه فتفهم فتقبل عليه مقدرة ما يفعل، مرت ساعة منذ وصوله إلى المكان الذي اعتادت أن تقف فيه يشغل نفسه بالنظر الى سطح الماء المتعرج حينا أو يعبث بتويج الوردة البيضاء حينا آخر ثم يقرب الوردة من أنفه موحيا لمن يراه بأنه يستاف عطرها، و في تلك اللحظة التي أخذ فيها نفسا عميقا هبطت كف ثقيلة على كتفه،

- تفضل معنا يا أستاذ ..

- ها .. أنا.. ماذا تريدون ؟

- تعال أركب معنا في السيارة

نظر إليهما كانا مسلحين بمسدسين تحت معطفيهما، قاداه بكل هدوء الى سيارة سوداء بزجاج معتم و انطلقت بهم السيارة .

 أغلقوا عليه باب الغرفة الضيقة التي لا تحوي سوى كرسي واحد، تركوه هناك يتخبط في أفكاره تتقاذفه عواصفها نحو كل الجهات، فكر أنهما ربما كانا واهمين أو أن خطأ ما حصل و ظناه شخصا آخر أو ربما كانت قد اشتكته للحكومة عندما رأته يحمل وردته البيضاء، أو...أو...

في الصباح أدخل على رجل يضع نظارة سوداء يجلس بجانبه رجل آخر يكتب ...

س: إسمك....شغلك .... عمرك.... عنوانك

ج: فلان ....أعمل في مصفى الدورة ......

س: ما علاقتك بالسيدة ذات الوردة البيضاء؟

ج: لا أعرفها، ....

أخرج الرجل ذو النظارة السوداء وردة بيضاء من مجرة المنضدة، صرخ به : و هذه،..ها؟

انهار الرجل فورا، قال والله العظيم لم ألتق بها بعد، قال له ذو النظارة السوداء : يعني ذلك أنك كنت تنوي أن تلتقي بها ؟ أليس كذلك ؟ ....

 سكت الرجل، ولكن الرجل الآخر الذي كان ولا زال يكتب استمر في كتابته زمنا آخر بعد إن عصبوا عيني ذي الوردة البيضاء وأخرجوه ولم يعد يجلس في كرسيه المفضل خلف السائق في باص نقل موظفي مصفى الدورة

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1439 السبت 26/06/2010)

 

 

 

في نصوص اليوم