نصوص أدبية

أحـــلام / عبد الفتاح المطلبي

ولا بالضعف هكذا كان الأمر مع الجميع عندما حدثت الأمور بسرعة توازي ذلك الزمن الطويل الميت الممتد على مدى متسع من اليأس، لم يصدق الناس بل لم يستطيعوا متابعة ومجاراة الأحداث  لذلك بقي كل شيء معلقا في مكانه، كل شيء قيد الانتظار، لا يستطيع أي  واحد اتخاذ قرار خشية أن يكون ما يحدث مجرد أزمة من تلك الأزمات التي كانت السلطات تجيد صناعتها، لذلك ظن الضابط المسؤول عن سجن سري يضم سجناء إستثنائيين وسط منطقة جرداء داخل المسيج الكبير الذي يحيط بمباني ومنشآت الحرس الجمهوري  ومخازنه، ظن أنه لابد من الاحتفاظ بمفتاح السجن السري معلقا في سلسلة مفاتيحه، كيف لا يعتني بذلك وهروب المسجونين يعني إعدامه فورا، وعندما جرت الأحداث بسرعة وسادت الفوضى لا زالت الأهمية القصوى عند ذلك الضابط في تلك الأحوال هي الإحتفاظ برأسه سليما فوق كتفيه لذلك عندما هرب على عجل لم يفكر بالمسجونين  وفي الوقت نفسه استبعد أن يستطيع أحد ما العثور على باب السجن المموه جيدا وسط ساحة تحجبها أشجار الكالبتوز بعيدا عن مرمى النظر ...، ظن السجناء الخمسة عشر عندما لم يأتهم السجان ب(جلكان) الماء لليوم الثاني  ظنوا أنها عقوبة كتلك المرة قبل ثلاثة أشهر لكنهم استبعدوا تلك الفكرة  فهم لم يفعلوا ما يستدعي ذلك كما إن حساء العدس الذي كان وجبتهم الوحيدة  خلال اليوم لم يصلهم أيضا ليومين خليا  لذلك فقد صاروا نهبا للجوع والعطش، أما باب السجن فكان بإمكانهم الوصول إليه من خلال ارتقاء إحدى وعشرين سلمة منها ثماني عشرة سلمة في الاْسفل وثلاث فوق حيث الباب المنزلق المصنوع من الفولاذ السميك والذي لا يمكن فتحه إلا من الخارج  كذلك ظنوا أن خللا في التيار الكهربائي سيتم إصلاحه بين لحظة وأخرى وهم يعلمون جيدا أن الكهرباء لا تنقطع في المعسكر، وهكذا فهم لا يعرفون الليل من النهار  كان لهم مصباحا واحدا ينير لهم القاعة المستطيلة المبنية من الإسمنت المسلح على عمق خمسة أمتار تحت الأرض ..........، استندوا جميعا إلى الجدار البارد عراة لكي يجعلوا أجسادهم المنهكة قادرة على تسريب بعض من حرارتها إلى الجدران الباردة نسبيا  ثم بدأو يتحدثون ..، قال أحدهم : غير معقول هل ماتوا جميعا، كيف يفعلون بنا ذلك ؟تت

 إنهم بحاجة إلينا  فنحن سجناء مرموقون لسنا عاديين .

قال آخر : أخشى أن أمرا قد حدث ذلك أن السجان آخر مرة قبل أربعة أيام كان مشوشا عندما جلب الوجبة ولم يكن على عادته يصرخ بنا ..

أما فوق : فكان الناس منشغلين كانشغال النمال وهي تجمع زبلها، يحملون

كل شيء على رؤوسهم وفي عربات يدوية وسيارات صغيرة وكبيرة  ينهبون مخازن المشفى العسكرى بعد أن هرب الجميع حتى المرضى وتركوه للجموع الهائجة، وهكذا بعد يومين فرغ المعسكر المنهوب ولـــــم

يعد يغري أحدا  ولا زال السجناء الخمسة عشر المرموقون يلصقون أجسادهم الملتهبة عطشا على الجدران الإسمنتية الباردة  يذودون بصعوبة بالغة أخيلة الموت التي كانت تنتابهم وقد أشرفوا على الموت عطشا لكنهم عندما تعبوا من النضال ضد أخيلة الموت بدأت تراودهم أحلام جميـــــــــلة وهم أنصاف غائبين عن الوعي، حلم أحدهم أنه قد نزل الى مجرى نهر بارد  شرب منه حتى ارتوى، يصيح على زملاءه الذين يقفون على جرف النهر  تعالوا لكنهم لا يلبون دعوته وتتملكه الحيرة من ذلك...................

أما الثاني فقد كان يحلم أن ابنته ريم الصغيرة قد ألصقت خدها  على عظام خده الغائرة فشعر أن خد إبنته ريم بارد  كالثلج فتملكه قلق شديد من أن تكون إبنته قد ماتت قبله  فصارت باردة كالثلج وتتابعت أحلام الآخرين على المنوال نفسه وفي الوقت ذاته الذي بدأ ينفذ شيئا فشيئا، يجمع أحلامهم جميعا شعور بالبرد اللذيذ ..، وهكذا مر إثنا عشر شهر حين اصطدمت سكين البلدوزر العملاقة بكتلة الإسمنت الكبيرة والمغطاة جيدا ببقايا حوض خشبي على قياس الباب الحديدي المنزلق والذي كان مفروشا ببقايا عشب أمريكي ميت، وبعد ثلاثة أيام من العمل الليلي المتواصل  توصلوا إلى فتح تلك الخزانة السرية، ......

أحاط صاحب البلدوزر الأمر بسرية تامة ولم يكن يعلم بالأمر غير إثنين من أولاده وأخيه، اتفقوا جميعا على أن يتقاسموا ما يجدوه بشكل عادل، كان ذلك منتصف ليلة من ليالي المحاق وكانت الظلمة شديدة فأخذوا قسطا من الراحة  وناموا جميعا وكأنهم مخدرون  لكنهم كانوا يحلمون .....،  

وجد سائق البلدوزر في حلمه تلالا من صناديق خشبية مليئة بسبائك من الذهب وراح يفكر بنقلها ووجد أنه مهموم رغم وجودالذهب في حلمه، أما أحد الولدين فقد حلم بوجود أكياس مليئة بملايين الدولارات الخضراء لأنه كان يعلم أن الدولار كان للحكومة فقط، أما العم والأخ الثاني فقد كانت أحلامهم متقطعة ومشوشة ينتابها عراك وعويل، وفي الليلة التالية ولج سائق البلدوزر وأخوه يتبعهما الولدان ينقلون خطواتهم بحذر شديد وفي يد كل منهم مصباحا ولما سقط الضوء على الهياكل العظمية المتكأة على الجدران الإسمنتية، شعرت أرواحهم الحائمة حولهم  بفرح غامر، تنهدت روح أبي ريم قائلة ....آه لقد وجدونا أخيرا، إلا أن عاصفة من الخيبة المريرة اجتاحت نفس صاحب البلدوزر وأخيه وولديه بينما انسلت الأرواح الخمسة عشر طائرة  بخفة نحو الفضاء، تم تسجيل خمسة عشر رقما لخمسة عشر رجلا مجهول الهوية  في ورقة من سجل لا زال موضوعا على طاولة في غرفة في بناية يدخل ويخرج منها الكثير من الناس الذين ترتسم على وجوههم خرائط أحزان  قديمه .

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1441 الاثنين 28/06/2010)

 

 

 

في نصوص اليوم