نصوص أدبية

المهمــــــــة / عبد الفتاح المطلبي

....بعضنا ينتظر لا يتزحزح عن مكانه مثل حجر وهذا المنتظر الحجري خلال انتظاراته المفتوحة يقلب  تنوعات مصيره ابتداء من القلع والانفصال عن كتلته  إلى الإلقاء في قعر ما  ثم التفتت والذوبان في عفونة ذلك القعر الذي صار في لحظة ما مصيرا، البعض الآخر ينتظر كفكرة في رأس تمارس مخاضها العسيرو تعاني تحولات نضجهاو هي مختفية في حدود ذلك الرأس تمارس انتظارا من نوع ما،بعضنا ينتظر لأنه ببساطة لا يجيد غير ذلك، لا ...لا الأمر لا يتعلق بالإجادة  فالكل صنع لينتظر، الحبر في رأس القلم ينتظر لا يخرج متبجحا بلونه الداكن إلا بعد انتظار، لا يتحرك إلا بفعل فاعل  وسيزاول انتظاراته عندما يندحر الفاعل، هكذا إذن وبموازاة هذا المنوال  كلنا منتظرون، في عالم الإنتظار لا تدعي المعرفة، فإنك لن تعرف أبدا أي شيء حتى فيما يخص أتفه التفاصيل، وليس لك خيال لتستثمره، لأن من يمتلك خيالا لا ينتظر، انه يتحرك بمراكب خيالاته ولا يعرف الإنتظارأما في عالم الإنتظار فليس لك إدعاء المعرفة، لأنك لو فعلت سوف لن تكون من المنتظرين، ففي عالم الإنتظار يكون ذلك زائفا منذ البداية، لذلك لا محاولات من هذا القبيل، المنتظرون ليس لهم أن يحاولوا، إنهم محاطون بلحظة مبهمة لا تفصح عن نفسها لمنتظر من المنتظرين وفي لحظات نادرة من زمن الإنتظار الميت ربما تلتصق بهم تهمة  العجز والاستسلام طواعية إلى ( المابعد) المجهول ذلك المغلف بالوساوس والتكهنات التي تقول إن المنتظرين  متيقنون تماما أن لا جدوى من تقليب التراتيب  أو فرز الاختيارات  ذلك ببساطة لأنهم منتظرون هكذا كلنا نحن المنتظرون عندما يدحرنا الإنتظار بصريره المدمر  نتوغل فيه نقبع في زواياه التي لم يتشكل لها معنى بعد والعجيب إن كل الزوايا قد تركت لنا لنمارس فيها انتظارنا  وذلك كل ما يمكن عمله لحد الآن وهكذا كنت قابعا في زاوية من تلك الزوايا أزاول فيها انتظاري  كما تفعل الأحجار، زاويتي المفضلة التي كانت مهملة كما أنا تنتظر من يعبث بدقائق زمنها وكان انتظاري على سطح واضح الميل، لا يبدو أنه يحصنني من السقوط المريع نحو هاوية ما إلا على قدر تلك المواهب المتعلقة بالإنتظار والتي كانت تميزني كحجر  منتظر لا تعنيه كل قوانين الحركة التي طالما ا نتظرت من يعبث  بها، وليس لي أن أصف الخوف والهلع واليأس ذلك لأنها مراحل فد تجاوزتني كمنتظر وإنني أعلم وذلك شيء ليس علي ادعاؤه إن انتظاري سيفضي إلى حضيض ما، وكل ذلك في لجة انتظاري الذي لاأعرف ماذا بعده وبذلك يزداد تصلبي كحجر .

و تحت ظل هذه الظروف التي طال سردها  تحرك حبر لقلم بلحظة من لحظات انتصار فاعل ما وبدأ برسم الأمر، شعرت بقدرته الفائقة على التدخل في اللحظات التي نسميها حاسمةو هي ليست كذلك بالمرة في عالم الإنتظار لكنه وبسهولة مخزية اقتلعني من انتظاري، جعلني بين حرفين، قال لي إبحث لي عن خطيئة، كنت مأخوذا  بقدرته ورغبته القاهرة التي دحضت كل حججي  فلم أعد حجرا صنعته الإنتظارووجدت في تلك اللحظة قدمي تسيران على تلك المسافة المحدودة بين الحرفين وفي جوف دهشتي اكتشفت إنني أحد اصطناعاته، هو من صنعني وأحاطني بجيوش شروطه وليس له إلا أن يأمر فأطيع قال لي إبحث لي عن خطيئة  ثم لفظني خارج قوسه  إلى فضاء أعده لي منذ قبل صنعي وعلمت بما يريد إذ تركتني قدرته على القنص لقضائي وكنت مأخوذا بخيوط القدرة واهتزازات القوس ورهبة العبور إلى عالم إن لم تكن فيه مدفوعا فأنت مجذوب لا ريب في ذلك وهكذا  لامسني برد الرعب  فانتفضت مشمرا عن بصيص الوعي  الذي منحني إياه حين كلفني  بمهمة البحث عن خطيئة لا يراها  وهذا أعجب ما في الأمر إذ إنه يراني في كل لحظة مسحوبا أو مدفوعا، لكني والحق يقال قد انحرفت وبخبث وأنانية استخدمت بصيص الوعي في الإنتقال المغلق عبر متاهات الشد والجذب وفي تلك   المتاهة أتذكر ما كلفني به  لكنني لا أملك نفسي المدفوعة والمجذوبة  نحو عوالم قد صنعها قبلي  وهذه روحي المتمردة كبالون ينفصل عن أرضه  لم تزل بين مصائد الأكوان التي صنعها قبلي والتي تناثرت في كل مكان، لا قدرة لي على البحث عن خطيئة أحد، فأنا قد شغلتني نفسي ، أخطائي المولودة توا متذكرا في الوقت ذاته إنه قد كلفني بما يريد ورغم محاولاتي إلا أنني أسير هذا الفضاء الذي علمني  اتساع رغبته وضئالة روحي المتوأمة مع روح نملة في صقيعها، قال لي  لا عذر لمن أُنذر ورغم محاولات روحي إلا أن الأمر قد آل إلى ضياع داهم  ينتاب طرقي دون سابق إنذار فأنزلق عبر دهاليز الوهم وأنساه  ولطالما تشبثت بحبال الخوف ونتوءات المحبة الخالصة له  إلا أنني بعد قليل من الطمأنينة أنساه فأجدني في بركة غرور مائع نافخا أوداجي  معجبا بظلي المديد ذلك الظل الذي خلب لبي  فاتجهت إليه لا أنظر إلى سواه  والعجيب أن  كثيرين مثلي قد انشغلوا بظلالهم  لكنهم يصرخون بي ويصيحون  ثم يراقبون ظلالهم بإعجاب واضح  يصيحون بي ويذكرونني أن لا أنسى (ما) أنا ومن أنا  وفي ذروة انتشائهم بظلالهم المديدة أترك فريسة لهواجسي، ينسون المهمة وينسونني ومع تنفس كل صباح جديد تزول ظلالهم  ويزول انتشاؤهم ويبدون حائرين حتى تدور الشمس من جهة أخرى  فيرقبون بزوغ ظلالهم من جديد وهكذا يتعالى اللغط والصراخ  فأهرع صوب حبال الخوف والرهبة أتشبث بها وكلما غزتني سنة من النوم وتراخت قبضتي على حبال الخوف وخيوط الرهبة يصرخون بي وبقيت على هذا الحال طوال عمري القصير كفقاعة ذات مصير محتوم ، وهكذا بعد كثير من الوهم قررت أن لا أتقاطع مع ظلي  أو ظلالهم وأن لا أسمح للزاعقين وضاربي الطبول  الذين يضنون أنهم وجدوا هنا ليذكرونني بالمهمة عند ذلك قررت أن لا أحابي أحدا وعندما اجتزت كل الطرقات دون العبور على الظلال اكتشفت بعد كثير من الوهم أن تقاطعي مع الظلال هو الذي يعطيها الحياة والقدرة على زجري والصراخ في وجهي  لذلك عندما مررت دون النظر إلى الجوانب لم يكن في الشارع الممتد غيري وعندما تعبت جلست ممددا ساقي  على دروب غير مطروقة تغريني وتدعوني إلى عوالم المنتظرين لكنني صرخت وكنت أواصل صراخي البائس حتى تردد في كونه المنصرف كليا عني وأدرك أو ربما فعل ذلك  إنني قد نفضت كل ما لدي ولم أعد إلا صدى  واه لا يؤثر على اتجاه إرادته  التي صنعها عبر تصور مسبق ولم تفلح معي، ترى هل كان ذا خطيئة أو ربما خطأ وعند هذا الشك المتردد بين الخطيئة والخطأ  انتهيت وكان الحجر الذي كنته قد تفتت، لم يعد لي إلا أن أنظر إلى حيث وجب أن أنظر....، في تلك اللحظة كان وجهي يقابل سماء ليلية ساكنة والنجوم كأنها ملايين العيون تراقبني وعلى الجهتين من اليمين والشمال  مخلوقات هائمة يحركها الوهم نحوي، أدركت الآن إنني تعب وأن لا جدوى من البحث، حاولت أن أجمع شتات الأصوات المهدورة أصنع منها صرختي الأخيرة قبل الأنطفاء  لكنها لم تخرج إلا همسا وكأن حبال صوتي قد اجتثت جميعا، قلت هامسا والتعب باد علي، يا سيدي لم أجد لك من خطيئة، أنا خطيئتك الوحيدة وقد غفرتها لك قهقه ضاحكا ثم من قلمه المقوس  خط ّ علي خطوطا حتى اختفيت  حيث يجب أن أكون في عالم الإنتظار فأنا منذ البداية حتى النهاية كائن منتظر .

 

عبد الفتاح المطلبي

 4\ 6\ 2010

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1443 الاربعاء 30/06/2010)

 

 

 

في نصوص اليوم