نصوص أدبية
زنيم مرّة أخرى / فوزي الديماسي
أما الزَّنيمُ فمعلومٌ أمرُ استلحاقهِ في القوم حيثُ هو ليسَ منهم ولا يُحتاجُ إليهِ فيهم وأمرهُ إنما هو أمرُ الزَّنمة في المعز مما يجعلُ في أذنيها لتعلمَ بهِ من قرطٍ أو مما قطعَ من أذنِ البعيرِ وتركَ معلَّقاً لهُ ليعلمَ منهُ، ولذا فهو كما جاء “عتلٌّ بعدَ ذلكَ زنيم ” يعرفُ بلؤمهِ وحقدهِ كما تعرف هاتيكَ بزنمتها.
هل هي كليلة ودمنة في إطار جديد اختلفت فيه الرَّغبةُ بالإفصاحِ عن الرَّغبة بالإسرار ولا أمثولةَ منها إلا أخذها حكاية واحدة لا تستطيع لها إلا ما أرادتهُ لك؟ وبالتأكيد هي ليست دونكيشوتيات فهل هيَ سيرة مسيرةٍ دراماتيكية القهرِ والإمعانِ في احتساء الظلمِ بألوانهِ، أم هي فضاء سياسي بامتياز وجد له تطبيقاً روائياً مركّباً غاية التركيبِ، ومسنداً إلى كتلةٍ هائلةٍ من الحقائق والأحداث الجسام؟ أم هي صفعة حادة على وجه الزنيمِ الثقافي وإدانة للضياعِ من حولِ الزنيمِ الوجودي لهذه الأمة ولهذه الرؤية الحضارية؟! ربما بعض ذلك وربما كلُّه معاً، ولكنها في ذلكَ كلِّهِ أفقٌ جديد لرواية تستطيعُ خلقَ العلاقة المؤثرة بينَ اللغةِ ومعرفتها في الجدار الحيِّ.
إذا كان ذلكَ في الهاجسِ الذي يثبُ أمامَ القارئ أولاً، فثمة ما يستدعي في الأركان الفنيَّة تسلسلاً في الدهشة لا تستدعيها إلا تلكَ النماذج الفنية الرائعة التي تدعكَ في أجواء البطل “أنكيدو” وارتحالات المهلهلِ ابن ربيعة وما بين جلجامش وعشتار كما بين إزيسَ وثوانيها رغمَ بعضَ الأدواتِ الغريبة عنها كالطائرة والدبابة التي أصرّت على الحضور كي تُرَتِّبَ لنسختها الخاصة في هذا الأمر، إنَّ فيها ذلكَ الحبكَ بلا ريبٍ ولا جدال دعّمتهُ قدرةٌ جميلةٌ على استحضارِ النّّص القديمِ والغزل على شاكلته، حتى إذا استوى وقام على سوقهِ أمكن تطعيمه بنكتارِ ونكهةِ ما أعجزَ من القولِ مستفيداً بعضَ الوقتِ من براعة قَصَصهِ ناسجاً على منوالها، فإذا تمَّت ِ الأحجارُ حيثُ هي، تلألأت سطور من النثرِ المغري بأبيات الرهبةِ الطقوسية المناسبة.
أبطال هذه الرواية في كلِّ الأحوالِ خارجَ أبطالِ تسلسلِها، فهم ليسوا ما جاء فيها على لوحها السالبِ للصورةِ كما وردت، ليسَ “الغريب” وليست “نخلته” ولا هو “ربُّهُ ” الذي طفق يسألُ عنهُ سؤالَ إبراهيمَ الخليلِ من ربّي، ولا هو ما تلا “الجبلَ” من بحرٍ ولا ما أحاطَ بهِ من “صحراء” وبالتأكيد لم تكن البطولةُ “للنساء العشرين ” من امرأة واحدة، ولم تكن قطعاً “الباخرة” ولا أدواتها التي استحضرت معها من الشماليين ولا الرجل الأبيض الغريبُ ولا حتى ذلك “الدودُ” المسيطرُ على “الجثث” ولا حتى كلُّ ما في شوارعِ الزنزانةِ، فأبطالُها حقاً هم هؤلاء الذين على السطحِ الموجبِ في الصورةِ بما يوازي كلٍّ منهم، فمن هم هؤلاءِ حقاً؟!
ثمّ’َ مجموعة معقَّدة من الأسئلةِ المصيريةِ التي تنزاحُ بقدرِ انزياحِ أحداث هذه الرواية الممعنةِ في التشديدِ، ثمَّة تركيبة من التواصلِ الإنساني مع الوجود بما يصلُ إلى سؤال المشتركِ بينَ الوجودِ وبينَ الرَّهبة في مصيرِ السؤال ونتيجته، ثمَّة ما يروي ويبني ويهدم في هذه الرواية في ذات الوقت وعلى ذات القوة، ثمَّة ما يوحي بانفتاحات متعدِّدة ولكنها يمكن أن تبقى تُرى في جواب بسيط خارق للعادة الروائية لقارئها.
في مشرق الرواية ومغربها، في كتلتها الواحدةِ وكتلها الاضطرارية، أو كتلها “الجثَّوية” ثمة ما يفتحُ، وينير علاقة التاريخ بالجغرافيا كما يوضِّح علاقة العولمةِ بالزنزانةِ وقوانينها الجديدة، ثمةَ ما يستندُ إلى مرارةٍ كبيرةٍ وثورةٍ عاتية في آن على هذه التركيبة المشهدية “الجثَّوية” الداهمة الهاجمة، ثمةَ ما يقولُ ولا يتوقَّفُ عن القول في ذات الوقتِ الذي يحذِّرُ ويسخطُ على من يخدِّر، والحقُّ أني قد بحثتُ عنها طويلاً فوجدت عدداً منها في الجدرِ والأقواسِ والنوافذِ والأبوابِ مزروعةً هناكَ بعناية، لكني قدّرتُ أنَّ أجملها ما جاء في نخاعها جميعاً وتاجها جميعاً فلذا قدّرتُ أن أستقدمها من هناك، وأجدني وقد وقفتُ على ما يفتحُ منها هنا في هذه السطور:
“كان الله - قديما - حبّا . كان سحابة كان نهارا في الليل وأغنية تتمدّد فوق جبال الحزن كان سماء تغسل بالأمطار الخضراء تجاعيد الأرض أين ارتحلت سفن الله …. الأغنية الثورة؟ صار الله رمادا صمتا رعبا في كفّ الجلاّدين "
وبالضبط وعلى ذات المعادلةِ وبذاتِ المستوى الفني ثمَّةَ ما يغلقُ ويستدعي تبلورَ الرسالة في مكانها رغمَ أنفِ الطبيبِ الإسرائيلي المستقدمُ ورغمَ أنفِ “الجثَّوية” وتعليماتِ المواتِ السرمدي أو تعليماتِ تمثيلهِ واستدعائهِ، ثمةَ ما يغلقُ على نورانيةٍ كبيرة في هذهِ العودة للغريب التي لو أردتُ أن اقترحَ لها في مواجهةِ عودة الزنيمِ مرةً أخرى، لاقترحتُ لها “قيامةَ الغريب”، هنا في هذه السطور التي استقدمها من نصِّ الروايةِ الجليلِ تكمنُ نورانيةُ فوزي الديماسي ومشروعه:
“على كفّ الشمس استريحي ومن بين أنامل الضوء النسر الثلجيّ وسدنته بالنخل المطهّر استبيحي يا أيتها الأجساد المنتشرة في الأرض ارتقوا شتاتكم وازرعوا النخل ثلجا في عيون القحط يا أيتها الفروج المباركة اقذفي بالصبيان ورشّيهم ياسمين على كفّ الخلود يا أيها الكرمل بثّ في الرافدين الأزهار والأطيار والخضرة السرمديّة”
فوزي الديماسي يقدِّم مشروعاً روائياً جدلياً في هذا “الزنيمِ مرَّةً أخرى” على نفس قوّةِ ما أرادهُ النصُّ في مجموعةِ رسائلِهِ المتعدَّدِ التي أصرَّ على إرسالِها مشتبكةً ومنفصلة، ثمة رواية تنتصر على تفصيلاتها كما تنتصرُ على مواردِها وأبنيتها الدراميةِ والفنيةِ والإشتباكية، ثمة رواية تقدِّم حقولها تحدياً وأنموذجاً محتجاً في آنٍ على أقنعةِ “الجثَّوية” في النًّص شعراً أم نثراً وعلى استهلاكاتِ الجدر والحواجزِ التي أصبحت عنّةً دائمة أمام النورانيةِ العربيةِ في حربها ضدَّ الظلاميةِ و”الجثَّوية”، ثمة رواية تقول أنه يمكنُ الولوجُ ويمكنُ الوصول، ومشكلةُ هذا المشروع الجدلي ستكونُ في ظنِّنا ليسَ فيما أرادهُ من رسائلَ قويَّةٍ ومدويَّة فقط، بل هي في زحمة ذلكَ ستكونُ أيضاً في حيثيات البناء الدرامي والروائي الذي يمكنُ أن أسميهِ لو جاز لي أن أبتدرَ الحديثَ في هذا الجانبِ “بمشروعِ الرواية النقدية “، هي رواية نقدية بكل ما فيها من صادمٍ وحادٍ منتصبٍ تماماً لا يكلِّفُ نفسهُ عناء الحسابِ .
أسجِّلُ أملي لهذه الرواية ولهذا المشروع أن يجدَ لهُ متسعاً ليتحرّكَ من خلالهِ وانطلاقاً منهُ لأنها تستحقُّ أن تلاحظًَ وأن تقدِّمَ بيِّنةً في حيثيات الدعوى ضد “الجثَّوية”، فلتكن مشروعاً للصديق فوزي نقدِّمُ لهُ عليها التهنئة سلفاً، “زنيم مرةً أخرى ” رواية تجاوزت منذُ بدأت السباق ويبقى أن ندع لقارئها فرصةَ الانتقال معها كما انتقلنا وشكراً لفوزي هذه الفرصة الجميلة لتقديمها.
أيمن اللبدي
...................................
زنيم مرّة أخرى / فوزي الديماسي
-1-
على عتبات غربة زئبقية، قاب قوسين أو أدنى من شروق ضليل، تلوح على مقربة من البحر أرض مدججة بالدموع السوداء وبخور الموتى …
قافلة نخرة، تخبط في ليل الأرض المجلّل بالصقيع... تسير على درب مخضّب بدم الفجيعة ...
وعواء مفزع يمزّق وجوه القبور ...
جثث ملقيّة على الأرض ترمق بعين قاحلة كلابا تمزّق بشراهة زئبقية ابتسامة طفل وليد يهدهد حلما شريدا على باب البحر...
وسرب حمام مهيض الجناح يحلّق فوق الأزرق المراقص لعاصفة مجنونة تلاحق بألسنتها السّعير قطعة خشبية يتيمة تحاول على يأسها أن تدفع بصبح جثّة واقفة على متنها نحو المرافئ...
والواقف على متنها يجترّ بين الفينة والأخرى شتيت رجولة محطّمة على صخرة التيه الأزليّ.
الجثة والخشبة والخوف والموج العنيد والليل الكثيف...
نعامة ترقب من ثقب متعفّن راكب البحر ومطيته المتلعثمة في جفن الردى، والماء المزبد يراود الخشبة. والأرض على مقربة منهم مجهدة، تشيّع بعينين مثقلتين بين الحين والآخر تخبّط الزورق وصاحبه المتسمّر في الإصرار. استأسدت العاصفة، واشتعل الموج غضبا وبات كالبركان بل أشدّ وأقسى، واستحالت ألسنة الموج ثعابين وأفاعي تطارد آخر بذرة أمل، والواقف في العراء على متن خشبته مرتعد الأفكار يلفّه الويل من كلّ أقطار بدنه، أمّا نخلته رفيقة دربه فبالذعر متدثّرة في اضطرابها لا تريم، وماد الزورق براكبيه وكاد يلقي بهما فريسة للماء لولا بعض بأس (1)****
تعثّر الزورق مرات عديدة، وتعتعه الذّعر، وأنهكته الأمواج، وبعد مكابدة شرسة أتلفت بعضا من حجب الليل، بلغ الزورق الشاطئ الغارق في صمته .
نزل أشعث الأحلام مبلّلا، خائر القوى، لاهثا. دفع بخشبته المرتجفة بين يديه نحو الرمل، تارة في رفق، وطورا في عنف، ولمّا بلغ بها اليابسة أنزل منها متاعه ونخلته وألقى بجسده غير بعيد عنها ليسترد بعضا من أنفاسه المتعتعة.
ولمّا حلّت بالبدن السكينة، واستردّت نخلته أنفاسها، اجتثّ الغريب جثته بعدما عاد إليه رشده من رمل الشاطئ، وعواء الحلكة يحرسه، والريح تمدّ نحوه مخالبها، اتجه نحو خشبته بخطى متعبة، وطاف بها مرات عديدة كمن يبحث عن شيء ذي بال فقده، ولما أعياه التّطواف جثم على دمعتيه وراغ عليها بالتقبيل.
وبعد زمن لم يقدّره جثم بجانب خشبته وضمّ إليه نخلته، وبعث بعينيه يد رحمة تهدهد الزورق، وتهدّئ من روعه، والخشبة على سكونها تبدو مضطربة .
تلبّدت السماء بالغربان، وتدلّت منها عناقيد من دموع الحيارى، وانتشرت رائحة الموت في أرجاء الأرض، وأجهش الغد المنذور للنحر يأسا، وشقّ العويل أبواب الصمت المثقل بالصمت، وامتدّت الأنياب نحو الشمس المغلولة حدّ الذبول، ودوّت في تلك اللحظة نواقيس الجنائز السرمديّة في أرجاء الشجن المنبسط، واعشوشبت السكاكين العمياء حول الغريب ونخلته، وانتشرت العناكب تلفّ حروف الموتى بخيوط من وهم الفارّين من زمن السياط . اضطرب الغريب بين يدي الوجود، وانهمر من لسانه نشيد القبائل المسبيّة:
على كف الريح استريحي ....
يا النخلة الممتدة في وريدي ....
يا الحاضنة لربي المنشود ...
يا الباسقة بين جنبي نورا متوشحا بالغد المطرود ...
يا النخلة … يا الممتدة نحو الله … ردّي عليّ وجهي ...
و اكرعي من بؤبؤ دمي صحوك وصحوي ...
و استبيحي تحت قدمي الحمامة المسرحة في شراييني نحري ...
و انفخي في وجهي قمم الجبال … أجنحة الطير...
لكي ألدني من بين أصابع أرضي المنذورة للعواء والنهب ...
وانفخي في لساني الطوفان… وبثّي فيّ وفيك شرفة القمر
واسرجي أنفي للشرف المغلول بسلاسل العرش الأبدية
يا نخلتي … يا المنذورة لربي والرحيل ...
يا الرافلة في عروقي … هزّي إليّ بخيط الشمس الكامنة في ابتسامات الثكالى
يا نخلتي … لملمي صوتي التائه في السياط … وسرّحي الدود في نبيذهم ...
يا نخلتي يا التي تبذرين الأريج في الأفق
قد أهرق يومهم سوقي … وعقرت خفافيشهم نوقي … ومزّق إلههم المتأبط ذلاّ روحي الثخينة ...
يا نخلتي … يا المنذورة للغد القريب بثّي في لغتهم النخيل …
و نقّي أرضهم أرضي ... من الجماجم ... والقبور ... والذئاب
هكذا أسرّ الغريب لوحدته المعلّقة على باب الغياب، ثمّ تقهقر إلى الخلف خطوات محزونة، وبقر بطن رحيله بمستقرّه، وحضن نخلته، واستقبل بالشمس الجالسة في خدر غده أرض الأجداث والأشواك الممتدة نحوه كالليل البهيم . ثمّ قلّب زورقه الرابض على صمته ذات اليمين وذات الشمال برهة، وفجـأة تحامل على تردّده وأضرم النار فيه .
-2-
مشى الغريب مكبّا على شجنه، بيمينه متاعه، وعلى شماله نخلته تسير بحذر، وفوق رأسه حلّقت الغربان في رقصة جنونيّة على إيقاع همّ تليد ...
بخور ...
رائحة الموت ...
عواء وعواء ونحيب ...
وأشواك اشرأبّت أعناقها
سار الغريب نحو اللاشيء، يحدوه أمل زئبقيّ، سار نحو جبل يلوح كشيخ طاعن في الذلّ ... سار نحوه غير مكترث برماد زورقه المضرّج في آهاته ... هذه الأرض المسكونة بالخواء، ينام موتاها ملء غفوتهم ... وتحرسها ذئاب مطرّزة بالعمائم والخنازير ... والشمس على مشارف هذه الأرض تجلس كلّ صباح في شرفة الدموع تحتسي قهوتها وتتبّع بفضول متوحّشا بنتا لم تبلغ بعد سنّ اليتم، تبحث بين كثبان الشّجن عن قطعة ضوء كان قد حدّثها عنها جدّها ذات خيال محموم ... سار الغريب نحو الجبل رغم كلّ شيء ....
جماجم ...
وصباحات تنزف جراحها ...
رائحة الموت ...
عويل وعواء ونحيب ..
توغّل الغريب نحو الجبل رغم توسّل نخلته، ومدّ درب سيره ليقف على مصدر العويل والنّواح، إلاّ أنّ صوتا زلزالا أسدل جناحه الشوكيّ على المكان، ودثّر البحر بالخوف، واليابسة دثّرها بالصمت، كما طوّق الواقف على عتبة الرعب صحبة نخلته بحلّة من الاضطراب . تسمّر التائه في مكانه، كما ذهب عقله مذاهب شتى، وانحدرت سكينته إلى أسافل الفوضى . بقي كذلك زمنا غير محدّد يتخبّط في لجج التردّّد كخشبة لقيطة مستسلمة لأحكام الماء الهادر، ارتفع لهيب الضّجيج القادم من داخل الجبل ومن حوله، واشتدّ على إثره زئير جارح، وامتدّت مخالب الموت تنبش الدرب، تردّد الغريب، وتلعثمت قدماه، واستوى الخوف في قلبه واستغلظ، أشارت عليه صاحبته بالتقهقر والعودة، لكنه آثر أن يلوذ بجذع قبر غير بعيد منه، افترش الغريب خوفه والثرى خلف الرّمس، ولفّ نخلته بحذر مصطكّ العمد، وأسرج العمى ليبعث به رسولا للعيون المنتشرة حول القبور المنثورة هنا وهناك والخارجة لتوّها من الجبل مع الخارجين .
****
عاصفة الموت أفعى مجنونة، وجحافل من الدّود خارجة لتوّها من الجبل ملأت الرحب، وقوافل تنوء ظهورها بخيرات من كلّ الثمرات . ضمّ الغريب نخلته إلى رعبه، تاركا وراءه عينيه تتّبعان المشهد .
غناء كالنحيب، ونحيب كالغناء يرافق صوت الطبول، دود يزحف، ودموع تذرف، وحناجر تنشج، ونيوب تنهش، حرائر كثيرات يلبسن السواد، مغلولات حدّ الأذقان بالحديد والنار، ومشدودات إلى عرش محمول على ظهور حمير متأهّبة للفتك .
غلمان، وفاتنات، وعمائم، وشعراء، ونوق محمّلة بدنان المدام، وخيام، وقيان، ودفوف تنقر، وعبيد، وعسس مدجّجون باليقظة . لم يفهم الممدّد وراء القبر مرتجفا ما رأته عيناه، كما انحدر عقل نخلته إلى قيعان سراديب الحلكة ممتطيا صهوة البوار .
رجال كثير يدقون الطبول، يتقدّمون الموكب، والموكب يسير بسرعة النمل نحو البحر، يتقدم في خشوع جارّا وراءه اسودا مغلولين وعلامات التعب والسياط تحتلّ ظهورهم، فركت النخلة عينيها
و من بعدها صاحبها، ليريا رجالا تلامس لحيّهم بطونهم، يرتدون عمائم مبعثرة على زركشتها، ساجدين بين يدي العرش .
ضجّ المكان وران عليه الصخب، وتحرّكت الفاتنات في كلّ مكان بين الخيام المنتصبة على الشاطئ، يطفن من حول الموائد السافرات بالكؤوس والصحون يوزّعن الأكل على السادة والابتسامات غير آبهات بدموع المصفّدات في الأغلال . فاتنات عاريات إلا من عرائهنّ مقبلات في تغنّج على العمائم
و العرش ومحتفيات ببطانتهم في غير اقتصاد .
****
أكل الناسلون من الجبل الخيرات، وضحكوا، ورقصوا، وداعبوا القيان، وترشّفوا رضاب الأقداح . خمر ورقص، نحيب وضحك، تغنّج وعواء، نباح وفحيح، وعمائم مبعثرة في الأرض تحتسي المدام مع تراب الأرض المسكونة بالفجيعة، والليل المتيّم بالأظافر قد أرخى سدوله مناجيا بحرا ذلولا يتتبّع حمارا يواقع أقحوانة، ونيوب رافلة في السكر تنتظر صياح الديكة
الآذنة لها بالنهش .
****
استبدّ الصمت للحظة، وخيّم السكون على الوجوه المسافرة نحو الفجيعة، وتوكأت الأرض المسبيّة على فحش الأفق، وتوسّدت السماء الذبيحة عفن العويل المنبعث من أفواه المغلولات، تقلّب الغريب في نار فضوله وسعير الغليان، أمّا نخلته فقد أسلمت أمنها إلى براثن الليل اللقيط تعبث به على مقربة من القبور المرتعدة على أديم القحط، ومن حين إلى آخر يرفع الغريب جمجمته المثقلة بأسئلة معربدة، فيسترق النظر والسمع معا، ويبعث في الأثناء بعينيه المتيقّظتين رسلا يفتّشون في ثنايا القابعين على صمتهم ينتظرون، قافلة من الخرفان مسرّحة في شرايين الجبل المطلّ في انكسار على الجاثمين حول المغلولات والأسود .
أينع الفضول في العيون المنتشرة على الشاطئ تحت مطر من الأسئلة، أطلّ صاحب العرش السرمديّ، فشاع في الجوّ التهليل والتكبير وخرّ الحاضرون سجّدا لولي أمرهم،ترجّل صاحب العرش، ومشى بين صفوف الراكعين، الساجدين، والمهنّئين بعيد العرش، والقادمين من بين ثنايا الجبل،مشى بخطى ملكيّة نحو المذبح المقدّس حيث وقف كبير العمائم وبيمينه السكين المباركة تنتظر رقاب المغلولات الرافلات في الصمت والأنين . اطمأنّ صاحب العرش في وقفته، ثمّ فتح كيس الذهب والفضة وطفق ينثر الأموال والضحكات المتبرجات هنا وهناك، ومن ورائه النمل والخنازير والقردة والعمائم والجماجم يلتقطون النعم الجارية من بين أصابع يده الكريمة المبسوطة حدّ الفحش . وبعد تدافع وتنافس في التقاط الخيرات، وبعد هرج ومرج وتصفيق وتهليل وسجود وتقبيل، إذ بصوت كبير العمائم ينادي ان فكّوا عن المغلولات أغلالهنّ وقدّموهنّ قربانا للعرش في عيده، واهدوا الأسود الصابئة لأقبية النسيان والقبور والسياط .
اضطربت القبور المتلبّسة بالصحراء الثكلى، وحلّق في السماء النحيب والغربان، والشمس سقطت مغشيّا عليها قرب الصبح المغلول حدّ الانهيار، زأر الغضب في شرايين الممدّد بجانب نخلته المضطربة وراء الجدث، وارتفعت ألسنة الانتقام في دمه الضاجّ في مرجل القلق، انتفض الغريب الممدّد على حزنه، واستأسدت النخلة في تهدئته، ترجّته بدموعها الغزار أن يلزم مكانه، لكنه انتفض كمن به مسّ من الجنون، شدّته رفيقته إليها شدّا واستبسلت في إثنائه لكنه ترك توسلاتها وراء ظهره، وفكّ بكل ما أوتي من قوة وإصرار من بين يديها بدنه المزبد، وأطلق العنان لرجليه الملتهبتين غضبا وحقدا لينقذ من براثن السكين المنتصب في يمين كبير العمائم الحرائر المطروحات قرب المذبح المقدّس، ركض نحو المذبح كحصان مخبول، وارتفعت ألسنة توعّده تسابق الريح، لم تخفه صيحات الفزع، ولم تثنه براثن الوعيد والنهش، ركض كأنه لم يركض من ذي قبل، نحو كبير العمائم المدجّج بالليل والشوك العنيد ليفتكّ منه سكينه المتوثّب انتشر العسس في كلّ مكان، وأينعت رؤوس الأسلحة، ورانت على وجوه الواقفين علامات الذعر والفضول، وتحلّق رجال أشدّاء حول صاحب العرش، لم يخف الغريب بل زاده ذلك المشهد اضرار على بلوغ المذبح المقدّس، ولكن استقبله الرصاص من كل مكان قبل أن يبلغ مأربه، من الطائرات السابحات في السماء المنطوية على حسرتها، ومن الدبابات الرابضات على الشاطئ . دبّ الضجيج في الجماعة، وطوّقت العيون والمخالب المكان، وذابت النخلة وراء الرمس في خوفها الوحشيّ، تتابع خلسة تخبّط صاحبها في دمه .
أطلقت النسوة المغلولات الزغاريد، واختلط المكان بالرهبة والحذر والصياح والنباح والفرح الدّفين، وطوّق العسس الجثّة من كلّ مكان، وانتشرت العيون في مناكب الأرض بين القبور المتراصّة .
ألقت الكلاب بجثة الغريب الممزّقة على باب البحر بعدما قطّعتها عيون الخائفين والحاقدين. وبعدما أنزل الحرس بها عقابهم، ولملم الناس في أفئدتهم أشلاءها المتناثرة وأحلامها المبعثرة واستعاد المكان صفاءه، حينها تقدّم سادة الصحراء نحو العرش المبجّل وركعوا بين يديه تبجيلا واعتذرا، ثمّ توجّهوا جميعا نحو المذبح محروسين بالكلاب والذئاب والأفاعي والضفادع والقردة ليشهدوا النحر .
رفع كبير العمائم السكين المتأهّب في وجوه المطروحات أرضا، ثمّ نحرهنّ الواحدة تلو الأخرى، فانفجرت الحناجر بالزغاريد والنحيب والتهليل والصياح والبخور والغثيان، وسقت فرحا القيان الحاضرين خمرا معتّقة، ورقص العرش وكذلك رقصت الغربان، وسيقت الأسود إلى أقبية النسيان الأبديّ، ثمّ رفعت على ظهور الدّواب المنحورات على أن يتمّ نحرهنّ مرّات أخرى في أعياد متلاحقة ورفع حملة العرش سيّدهم ومن ورائه الخلق جميعا ساروا نحو الجبل من حيث أتوا، وخلا بذلك المكان إلاّ من النخلة الجالسة في بركة الذعر تواسيها القبور المرتجفة وتغطّيها السماء بكتمانها خوف أن تلقى ما لقيه صاحبها فتسقط من يمين حلمها الشمس الموعودة .
-3-
القافلة الناسلة من عمق صحراء التيه تغطّ في رحم عقيم، وابتسامة وليد فقدت نضارتها على مشارف خلجات الليل، مفترشة اليباب . جثة الغريب الملقاة على حافة الغدر مسجّاة بشدو الذئاب وصهيل الخرفان ومن كل همّين اثنين، والأشواك المنمّقة بالضياع تهدهد حلما سقيما، والدمعة المجروحة شريدة في كفّ النخلة، والنخلة تتفرّس وجوه دراويش تنوء أكفّهم بنعش مخضّب بالسفح والأماني الموءودة، والشمس المشدودة بحبل إلى جذع حيرة متشامخة تداعب بأناملها سؤالا يئنّ في قاع شجن ملتفّ الأوهام .
تحلّق الدراويش حول الجثة، والنخلة ترمقهم من كوّة صمتها الكئيب، غسّلوا الجثة بكلمات شاحبات، وطيّبوها بخيالات محمومة، ثم زفّوها للنعش المطأطئ .
مشت الجنازة مكبّة على حلمها، مشت نحو الجبل الجاثم على صدر الصحراء، وتبعتهم عيون النخلة المحتمية بقلق وارف الظلال . مشت الجنازة المشدودة إلى التراب بسلاسل من خوف عتيد، وتهادت على كفّ اليتم، حتى الماء غادر يومها مواقعه خوف العسس والأنياب المعربدة، وعانق دم الذبيحات دم المجلّل بالنعش وتراب الأرض الثكلى، واستأسد الصمت في جوارح القبور المنثورة بين شقوق الحلم، وغصّت شرايين الدروب بالأظافر والذئاب، ولاذت الأزهار بالأجنحة المهشّمة على عتبات الضوء العليل، واشتعل رأس الجبل المترهّل خرفانا تتبّع الجنازة بعيون ناسلة من عرش الصحراء المتيّم بالفتك . سار الدراويش على الشوك كأنّ النار تحتهم حذرين جيئة وذهابا خشية السيف المتطاول في البنيان . اقتفت النخلة آثارهم حتّى أدمى دموعها الشجن والسؤال، ومشت وراءهم حدّ الارهاق، لعلّها تظفر بجواب يذهب عطش الفضول فيها، لكن الدراويش كما الجبل صمّ، مغلولون بالذكر والدعاء والخوف حدّ الأذقان ... لقد ابتلعنهم الأرض فأضاعتهم النخلة وأضاعت دربها .
غابت الجنازة، وبقيت النخلة على عتبات النحيب تتقاذفها أمواج اليتم والعدم . نسيم جنائزي يولول بين جنبات الأرض باعثا في الوجود رعدة متوحّشة، وخوف زئبقي يعبث بقبور مبعثرة غادرت أعشاشها لتحطّ على أغصان الأفول . نزلت ابتسامة النخلة للوادي الشوكي لتغتسل من رجس الهزيع الأخير من الضياء على صياح الدّياجير، والبحر على مقربة منها أجهش صحراء
و من حولها انخرط الوجود في بكاء مديد، رتقت النخلة بعض شجاعة بالية وأقرّت العزم على اقتفاء أثر الجنازة بعدما حلّ الصمت بالمكان وأينع الأمان، اجتثت حراكها من قعودها، واقتلعت أمنها من
خوفها مصعّرة خدّها لقهقهات متبرّجات منبعثات من سفور الليل الأليل، ووجّهت وجهها شطر الجبل المرصّع بنجوم جنوبية صاعدة نحو الحضيض، تحاملت على إعيائها مقتفية آثار الجنازة . مشت بخطى سكرى على وقع الآثار، سارت بخطاها المترنحة، وولجت طرقا شتّى، بحثت عن الجنازة في الشعاب والجبال، والسجايا وفي الأفق الضّنين، وسألت عن مكانها حبّات التراب، وأمواج البحر الذليل،
سألت عن مكان صاحبها البوم والغربان والفئران الجارية على حافة الوباء الزلال، سألت عنها القبور والنجم الهزيل، بحثت عنها في ترائب القمر المعبّأ بالأنين، وذات دهشة مقمرة، وبعد مشقّة وقفت المنهارة على باب جبّانة منتبذة مكانا شرقيا، ولمّا تقدّمت النخلة نحو العمق خطوات رفعت دمعة عقيرتها بالممات، ودوّى صوت الفجيعة في السماء متفجّعا، ووجه الموت وقف عند رأس النعش
متبرّجا، وسليل الجلدة في شقائه ينعم متفرّجا، وسراب الأحلام قرب النعش في دمه مضرّجا، وعويل النفخة انبعث من السور مترجرجا، وهتف هاتف من وراء الشمس السوداء متوجّعا:
يا زمن الأزمان يا ألمي
و يا ألم الآلام يا زمني
و يا سنم الأدواء يا عمري
و يا حطب الأحلام يا عبثي
و يا عبث الأيام يا أربي
هكذا غنّت طويّة النخلة المتسمّرة على باب الجبانة لسجيّتها، وهكذا أسرّ شوك الزمان لقدمي التائهة بين القبور . تمشّت النخلة بين الأجداث مفتّشة عن ساكن قلبها، نادت عليه بأعلى صمتها، لكن لا صوت يأتيها سوى ترجيع حزنها، أعادت النداء مرة ومرتين، فاستقبلها زئير العدم من وراء القبور، واستوقفها فحيح القدر في قاع اللوعة، وصهيل التيه يدنو وينأى .
أعياها البحث، وأرهقها النداء، دبّ اليأس في سريرتها . ولمّا أعياها التطواف في مناكب السؤال النحيف جلست إلى قبر لتلملم أنفاسها، غمست رأسها في السقوط وأجهشت تلوّعا، لكن لا حياة مع اليأس، انتفضت من سباتها لتعاود البحث، وضربت في الأرض باحثة عن صاحبها علّها تجده
****
الليل همّ على كتفي الجبانة منسدل، وبرك من الدم القديم مبثوثة على أديم الأرض، أرض الجبانة على امتدادها غاصة بجثث متفحّمة وأخرى مبتورة الأحلام، مئات الأطفال المشردين ينامون بين أحضان سمرتهم الموءودة على فوهة الموت المتدلية عناقيده من كوة النار. نقيق الضفادع على حافة الصبح يذكي في عروق القبور الجاثمة على آهاتها فحيح الشوك .
قافلة من الخرفان تجوب عفن السؤال مفتّشة عن نقطة ضوء مضاجعة لخطيئة النهار، قافلة الخرفان احترفت مع زعيمها مغازلة القمر من ثقب جمجمة نخرة، فللجماجم حكمتها في تصريف الضوء، ويبدو الكون أجمل، والضوء أبهى حين ترمقه العين الخاوية أسوة بالخرفان من ثقب جثّة عفنة، الظلمة الشوكية المنحدرة من أعالي شحوب اللغات تربّت على كتفي الخرفان المفتشين غدوا ورواحا عن أشعة القمر المعانقة لنصب السؤال . تحاملت النخلة على طقوس رحيلها،وتناست فؤادها المخضّب بالوحشة، وأقرّت العزم على التوغّل في ارض الجبانة بحثا عن صاحبها فربما تظفر به ذات صدفة . مشت بين أكوام الجثث المتفحّمة والأخرى المتعفّنة، وشقّت برك الضوء الآسن برجليها المتعبتين،
سارت بين يدي القبور مترفّقة، تتفحّص الوجوه المنشقّة على دود كثيف خارج لتوّه من الخياشيم والجماجم والأرض الملفوفة بشجون متخمة، عاصفة حجرية تمشط عواءها بأظافر عرش قديم يزقزق على فنن أزلي .
تقدّمت النخلة خطوات وجلة وقد ظلّلتها سحابة من الأفاعي المتبرّجة، تحاملت على رجليها المتورّمتين وخوفها المتنامي، وتوغلت نحو العمق بين كثبان الجماجم والجوارح المنفوشة
و جيوش الدود وعفن السؤال، مشت بين صفوف القبور المتشابكة كالأغصان الناسلة من أرض يغطي الملح تفاصيل وجهها المتشقق . اقتربت من القبور الآهلة بالأفواه المختومة والشحوب، ولم تعر مواء المجهول وأنين الصباح المضرّج في عظام نخرة أذنا صاغية، لم يعقها عن الطواف بعينيها في أرجاء الجبانة نباح الأظافر وزئير الحريق المتردّد في سرائر اليتامى، أناخت سؤالها رغم كل شيء،، جالت ببصرها المتّقد بين القبور، وفتّشت بيقظتها بين الحفر وأسوار الجبّانة . طرقت بأسئلتها أبواب السماء، فأقبلت الأجوبة نحوها حبلى بالفراغ، لكن تلاطم الأسئلة في سريرتها دفعها دفعا عنيفا إلى أقاصي البحث، فأقرّت العزم على مساءلة بطون القبور المعبّأة بالصمت . جثمت على ركبتيها المرتعدتين قرب قبر وشرعت في نبشه بحثا عن رفيقها صنو قلبها وشقيق نفسها، نبشت بكل ما أوتيت من قوّة، وأطنبت في النبش، وبينما هي كذلك إذ ببطن القبر ينشقّ على رافدين، يجري أحدهما جماجم زلالا، والآخر يجري شوكا رقراقا، وبين النهرين تنام فاتنة مقطوعة الأوصال
تحمل بين يديها رضيعا مجلّلا بالردى، وقد تحلّق حول ثدي المرأة الجاري حليبا أسود ذئاب كثيرة تنهش تفاصيل بسمة عذراء سمل عينيها نسر ثلجيّ . تسمّرت النخلة، وتوقفت عن النبش تتبّع المشهد بحيرة زانية، سمّّر مشهد النهرين المذبوحين عينيها في محجريهما، ودثّرها برعدة وحشية، وأرسل بين جوانحها الحيرة ريحا صرصرا تذرو رمال السكون على بوابات الفجر المغدور، سرّحت النخلة لبّها في تفاصيل المشهد فيما أحجمت يداها عن البحث في أعماق السؤال المعلق على باب مدينة العذابات. بقيت النخلة المتجذّرة في حيرتها وخوفها الزئبقي تتقاذفها مواسم القحط الجرداء، ولولا وخز الشوق لصاحبها لاستسلمت للضياع .
انهمكت في التفتيش مرة أخرى بين ركام الدموع والعواء والحشرجة، شمّرت على شوقها والفضول، وامتطت أصابعها بساطا متيّما بلقاء صاحبها المفقود، اشتعلت يداها نبشا وراحت بحنين الأولين والآخرين تزيل عن وجه القبر تراب النسيان، قلّبت المشهد مرّة أخرى وكأنّها لم تقلّبه من ذي قبل،رحلت عيناها نحو النهرين المنحورين، وسافرت أسئلتها نحو الفاتنة مقطوعة الجذع، عشرات الذئاب محيطة على جنبي النهر بثديي الفاتنة تكرع حليبها الأسود، ومن ورائها على الضفّة الأخرى تجلس آلاف الجماجم والجثث فريسة للعراء والجوع، بحثت النخلة عن صاحبها أو عن أثره بين جموع الذئاب والجياع، بحثت في أزقّة الفاتنة وشعابها، ولما فازت بالخيبة ولم تجد صاحبها أطلقت سبيل القبر، وراحت تطلب ودّ قبر آخر، نبشت الثاني بعزم أشدّ عزما، وفتحت باب القبر فهاج الدّود وماج، وحطّ على يديها وغمرها، كما هاجمتها جحافل من العفونة بأنيابها الضارية، تناست الألم وتحاملت على الرائحة الكريهة وواصلت النبش حتّى لاحت لها جثث آدمية متعفّنة متحلّقة مع جثث لكلاب نخرة حول قطعة خبز مضمّخة بالعار تلتهمها أفواههم المختومة بشراهة زئبقيّة يحرسها سياط متآكل. بحثت الواقفة على باب دهشتها شاخصة التفكير عن رفيقها بعينين جائعتين فربّما نال الجوع منه فتحلّق مع المتحلّقين حول قطعة الخبز، أجالت بصرها في المتحلقين مثنى وثلاث فلم تستقبلها إلاّ الخيبة، أعادت التقّليب كرّة أخرى يمنة ويسرة ومن بين أيديهم ومن خلفهم فطلعت عليها جثث أخرى مغلولة بالحديد والنّار تكرع من بحيرة جنوبية مترعة الفحيح، وبين الفينة والأخرى ترمق الجثث بعين كسيرة سراب ضياء يرتق النهار بقمم جبال منذورة لجذع حمامة مهيضة الجناح . بقيت النخلة على باب القبر زمنا لم تقدّره تتابع رقصة زهرة موءودة ضلّت سبيلها إلى حلم القابعين في قاع القبر خلف الأنياب تلاحق عيونهم الخاوية من شرفة السفح ثعلبا يواقع دجاجة سمراء متغنّجة . نفشت القبر بعينيها لعلّها تظفر بصاحبها، ولكن كلما نفشت جثّة أينعت أخرى . أتعبها النفش والنبش ورغم ذلك أعادت الفعل مرة ومرّتين حتّى وقفت على قحط المحاولة،إذ لم تجد صاحبها بين جموع المتحلّقين حول قطعة الخبز، كما لم تجده في الطرق المؤدّية إلى المرافئ المنشودة . سألت عنه الثعالب الآكلة والخرفان المأكولة، بحثت عنه في أحشاء اللغات، سألت عنه جنبات القبر الموغل في المنيّة، لكن لا شيء ينبئ بالولادة، ولمّا وقفت على بزوغ الفشل، ودون عميق تفكير أسلمت القبر إلى الجثث والدود .
اقتلعت النخلة صحوها من غفوتها، ولملمت أملها المتخبّط في أحشاء الغيب، وانتقلت إلى رمس آخر، انحنت قرب الجدث الثالث أو الرابع أو المائة أو الألف وراحت تنبشه بنفس الإصرار متكتّمة على إعيائها وغثيانها، شمّرت على ساعد النبش وانهمكت في رحلة البحث عنه أو عن أثره، واستأسدت أصابعها في ازالة التراب من على صدر القبر، وكان معولها أملها المسامق لخيط الإجابة عن مكمن رفيق دربها وصنو روحها، وفجأة، وبينما هي في حالة نبش جنونيّة طلعت عليها جثث ملتفّة حول أسس عرش طاعن في السنّ جذعه ثابت وفرعه في الدم، الجثث تحاول مجتمعة اقتلاعه من جذوره والعرش ثابت لا يريم، يغرس الجالس عليه من حين إلى آخر أنيابه في الجثث المتربّصة به، وبين القلع والنهش تقف النخلة متعبة، محزونة الفؤاد، كفكفت النخلة إعياءها، وأطنبت في تتبّع المشهد . الجثث مستأسدة في زحزحة العرش، والعرش من فوقهم متنمّر يتحيّن فرص النهش من على الجماجم المنثورة على دربه، بعثت النخلة بعينيها رسولا إلى ما بين العرش ومقتلعيه فربّما غطّت جموع الغاضبين جثّة صاحبها، تمشّت عيناها فاحصة المقتلع والمقتلعين ولكن دون جدوى، بعثت بعينيها بين جموع الجثث مرّة أخرى، بحثت عن صاحبها في سرائرهم، وسواعدهم، وأصواتهم الغاضبة والمنبعثة من حناجرهم البركانيّة، بحثت عنه في دروب العرش الجاثم على الأفواه، بحثت عنه في السياط، وفي الأنياب، وفي الدم المهدور على سفح العرش ودموع الثكالى، سألت عنه جذور العرش، وجذوعه، وظلّه الممتدّ نحو أنين المصفّدين في الأغلال والأقبية، ولمّا وقفت النخلة على فشل المحاولة مرّة أخرى جنحت لقبر آخر تنبشه، واستمرّت ثورة النبش إلى أن أتت على الجبّانة كلّها، ومع فقدان الأمل في العثور على رفيقها عتقت رقاب القبور وأقرّت العزم على الرحيل بعدما أسرجت دمعتها ونحرت على عتبة الخيبة أملها .
سارت نحو باب الخروج، وقد ركبت دمعة جريحة سنم خدّها المبحوح، وأرخت حبل المسير لرجليها الناحبتين والقنوط . مشت بخطى كئيبة لا تلوي على شيء تدفع أمامها خيبتها والسؤال .
مشت مشي التيه لا تعرف أيّ الدروب تسلك وأيّ الطرق تلج، مشت مشي الأعمى في أرض لا عهد له بها - أو هكذا تزعم - على درب غير قاصد، سارت على طريق الضياع زمنا طويلا، وذات ضياء عليل برز لها من بين شقوق الشجن نعش صاحبها وقد تخيّر له من الأماكن أسفل الجبل .
أطلقت ساقيها للغنم وللفرح، واتجهت نحوه بكل ما أوتيت من قوة لا تلوي على شيء، ولما بلغته جثمت بجانبه على ركبتيها تتفحص الجثمان المسجى، ولما همّت بتقبيله وضمّه إلى صدرها استحال بين ذراعيها هباء منثورا . لملمته في كفنه على عجل خوف العيون، وأودعته قلبها قبل أن تحمله على ظهرها . سارت على شاطئ البحر المتتبع للمشهد بصمت . مشت مكبّة على عبرتها باحثة عن مكان حجاب تواري فيه عورتها الجاثمة في كفنها على ظهرها . مشت حائرة الخطوات تدفع بقدميها دفعا عنيفا يكاد السؤال يشجّ رأسها المفتّت . مشت على الشوك كأن الأرق تحتها، وصاحبها على ظهرها متجذّر في رميمه لا ينبس بحرف، تخيّرت لها من الطرق أوعرها، ومن المسالك أوحشها خوف العسس والرقباء، مشت النخلة المتيمة بالرميم المتوكّئ على صمته مدقّقة الحذر في البر والبحر خوف فتك عيون الليل وأنياب النهار، سارت على الدرب بخطى ثابتة مرتعدة في الآن نفسه على الشاطئ المتكتّم، ومن حين إلى حين تنزل رفيقها الرميم من على سنمها، وتتفقّده، وبينما هي على تلك الحالة إذ بها تظفر بمغارة قرب الشاطئ تحصي الخلاء وتؤنسه، فانحدرت نحوها انحدارا جنونيا .
-4-
اقتربت النخلة من فم المغارة المفتوح كاللحد، مندفعة في البداية، أصوات غريبة منبعثة من جوف المغارة شدّتها إلى مكانها بمسامير من ذعر . أصوات آدمية منبعثة من ركام السكون . لملمت الطمأنينة شيئا من شظايا مشاعر النخلة المشتّتة . تقهقرت النخلة خطوات إلى الخلف ن ثمّ عزمت على مغادرة المكان الغامض.
الظلام كثيف وعباءته الشوكيّة محيطة بالمكان الغارق في موته البارد، لا شيء ينبئ بالحياة، تملّكت النخلة مشاعر الرهبة والخوف المتأبّط ارتعاده، حتّى الرماد الجاثم في كفنه على ظهر النخلة سرت في مفاصله قشعريرة الهواجس المخيفة، تمسّكت النخلة ببعض هدوء، لكن عاصفة جنائزية اقتلعت سكينة الواقفين بباب المغارة من منبتيهما، عادها بأسها بعد غياب، فهتكت شيئا من تردّدها، وسارت نحو الدّاخل بخطى وجلة .
نحيب نسويّ يمزّق شعر السكون، والظلمة تتمايل ذات اليمين وذات الشمال، أرهفت الواقفة بباب المغارة السّمع ثم استرقته، نحيب ملطّخ بعويل شوكيّ . تقدّمت النخلة ... خوف زئبقي حلّ بالجاثم في كفنه، رائحة الموت منبعثة من كلّ مكان ... والظلام كثيف، مشت النخلة مشي من يتلمّس طريقه على شفا حفرة لتتنسّم العويل في مصادره يدفعها فضولها تارة، ويشدّها رعبها أطوارا .
الظلمة الحالكة تراقص أنين الصمت، وصوت البوم يغازل الأظافر الناهشة لوجنتي الوجود المتورّمتين، فرائص الجثة الرماد المنطوية في كفنها كزهرة يتيمة تعبث بها الدّمن العاتية، أصوات مفزعة ترفرف حول المكان والنخلة بين فكّي الخوف والفضول تحاول التقدّم نحو الأصوات خطوات .
و بعد عناء أسرجت النخلة سكينتها، وشدّت إلى الداخل ترحالها، ممزّقة بإصرارها النحيف خيوط الظلام المولولة . في قاع المغارة يلوح ضياء سقيم يتلوّى على صدر الجدار كالثعبان، وقد تحلّقت حوله ظلال رؤوس آدمية تميد كالفلك، اقتلعت النخلة خطاها، ومن ورائها على ظهرها صاحبها في كفنه مضطربا في بؤبؤ خوفه البركاني .
نساء كثيرات يناهز عددهنّ العشرين أو أكثر بقليل، يلتحفن السواد من الأقصى إلى الأقصى، متحلّقات حول قبر، ومنهمكات في بكاء، وعويل، وشقّ جيوب، وتمزيق هدوء، والقبر بينهن ّ يهدهد شمعة نحيلة . القبر قديم، تنبعث منه رائحة عتيقة تشيع في النفس أمنا بعد خوف، حزن أعشى يلفّ الزوايا بأجنحته المتكسّرة، وبرد زمهرير يرقب السواد المعاقر لآنية المنيّة . سارت النخلة نحو النسوة حذرة، ولما اقتربت منهنّ، وقفت غير بعيد، تتطلّع حذر المجهول إلى بطن القبر لتتفحّص نازله . لم يتفطّن لوجودها أحد . فالمكان برمّته غارق في عبرته المسافرة على جناح الليل السميك . حاولت النخلة الاقتراب من المتحلقات لكن التردد كان أقوى من عزيمتها . وبينما هي على خشبة الاضطراب تذروها ريح الانحدار، تفطنت لها إحدى النادبات صدفة، فانتفضت من مجلسها كمن به مسّ من الجنون، وصاحت في وجهها بأعلى صوتها، وانتفض على وقع الصياح الباقيات، وتوثّبن جميعهنّ للفتك بعدما أسدلن عليهنّ من أغطيتهنّ، ثمّ تقدّمن نحو النخلة رافعات غضبهنّ في وجهها، تقهقرت النخلة خطوات إلى الوراء، وحاولت تهدئتهنّ بكلمات طيّبات، رقيقات،، وقد حاولت مدّ حبل الحديث عن سبب دخولها، انفجر التوسّل من لسانها، وغطّت دموعها الغزار أرض المغارة، والواقفات على غضب يلوّحن بالانتقام . اشتعل لسان الرماد من على ظهر رفيقته تودّدا وتزلّفا، ولما تيقّن النسوة من بعد الخطر عن حماهنّ، كشفن عن وجوههنّ، وسوّين جلابيبهنّ، وعدن سيرتهنّ الأولى ... كفكفت الجدران هلعها، ودعت إحداهن النخلة للجلوس بينهنّ، فألقت بما على ظهرها وتخلّت، ثم افترشت الأرض وتقوقعت على ظنّها .
****
بطن القبر مفتوح يضمّ بين راحتيه شيخا يجلّله البياض من أمّ رأسه إلى أخمص قدميه، ينام ملء سكونه، على يمينه تجلس شمس مشرقة تحكي النور وتحاكيه، وترقص على يساره الخضرة جذلى، مبتسم في غير إسراف . راغت إحدى الجالسات على النخلة بالسؤال عن ساكن الكفن رفيقها . فطأطأت النخلة رأسها كمن يستجمع ذاكرته وأجهشت حديثا:
عاش غريبا، ومات غريبا، فارق أهلا، وعاقر نحيبا، عاشر سؤالا، وطوّف في شعاب عقله حتى أهرق التّطواف، وسار على دروب وعرة كثيرة حتى قضت نحبها تحت قدميه، عرّافة قالت له ذات رؤية مقمرة أن لن يستعيد وجهه إلا إذا عثر على إلهه المفقود المنشود، سفك السؤال لبّه وجدّ في البحث، فالعرّافة قالت له ذات رؤيا حصيفة أنه حتما سيجده، وسيستردّ من بعده أرضه، فجدّ في البحث، ورغم تجرّع الخيبات جدّ في البحث .
عاش غريبا، ومات غريبا، هو رجل نذر حياته للبحث عن ربّه الذي بذر في قلبه حبّات حبّه له معلّمه لمّا كانا رفيقين مترافقين في زنزانة العشيرة، وقد كان معلمّه مرشده في كتّاب الزنزانة مع بقيّة الصبيان قبل أن يصبحا صديقين حميمين متلازمين بعيدا عن أنظار الأهل والخلاّن، حدّثه معلّمه لمّا كبر واشتدّ عود الودّ بينهما، ولمس فيه ترحالا عظيما نحو ربّ لم تلده أيادي العابثين وألبابهم قال: ” إله الزنزانة قديم قدم حذائي، توارثناه عن أسياد آبائنا جيلا عن جيل وسيرثه من بعدي عنّي بقدرة
سلطان الزنزانة التي لاتقهر ابني وابنك، إنّه اله حفر فيه الزمن أخاديده، يقلّب السلطان أمره بين راحتيه كما يشاء ومتى يشاء، وإن نال منه التعب، أمر به أمين سرّه وكاتبه المقرّب ليتعهّده ويرمّمه، ويرقّعه لكي لا يصغر في عيون العباد، ونحن كما تعلم يا بني ّ على دين السلطان، فسر في الأرض وامش في مناكب عقلك وابحث عن الهك، ابحث عنه في الرعد، في البركان، في الشمس، في النخل . ولمّا أتمّ المعلم حديثه لرفيقه ذات سرّ والناس نيام، التقط بفمه حجارة صغيرة وثبّتها بين شفتيه المرتعشين خوفا واحتسابا ورسم شيخا طاعنا في السنّ عرشه معلّق بين السماء والأرض
يحاول رفع لقمة ثريد إلي فمه، ولكن أنّى ليمناه أن تبلغ فمه، وهي المغلولة بسلاسل من الحديد، ومشدودة لعرش سيّد الزنزانة وحاكمها، ولمّا أحسّ المعلّم بوقع خطى في اتجاههما يومها مسح الرسم بلسانه وتظاهر بالنّوم فربما كان القادم أمين سرّ السلطان ولو رأى الرسم لقطع رأسه كما قطع يديه ورجليه يوم تفطّن له يتلو شعرا على الصّغار في الكتّاب وقد قال فيه:
كان الله - قديما - حبّا . كان سحابة (*)
كان نهارا في الليل
وأغنية تتمدّد فوق جبال الحزن
كان سماء تغسل بالأمطار الخضراء تجاعيد الأرض
أين ارتحلت سفن الله …. الأغنية الثورة؟
صار الله رمادا
صمتا
رعبا في كفّ الجلاّدين
****
عاش الغريب غريبا، ومات غريبا، وبين الغربتين، ترعرع بين أحضان أمّ تقاسمت مع أبيها وأخيها وسلطان الزنزانة خلقه في الليالي الوردية . نشأ الغريب في أهله بين الزنزانة وضيعتها، يغدو إليها في الصباح مع الغادين، ويعود إليها حين تأذن لهم الشمس بالرحيل مع أهله المحملين بخيرات الأرض من كل الثمرات، وحين يستقر بالأهل المستقر بين جدران زنزانتهم، يلقي لهم السلطان بخبز وزيت، ثم يقف فيهم أمين سره آمرا إياهم بالنوم فغدهم، قبل أن تتمطى الشمس في خدرها، وتستل صحوها من كسلها سيكون شاقّا .
و حين تخلد الزنزانة للنوم، وتبحر الجفون في غياهب التعب، يزحف الغريب تحت جناح الحذر نحو مرقد معلّمه ليتلقّى منه كلمات تنفث الأمل في شمسه التائهة، وتبثّ فيه أريج إلهه الجالس على سفن الغد القريب المفعم بنسيم الصباح المشرق .
نشأ الغريب في أهله عاقّا، عنيدا إلى أن اشتدّ عوده، فازداد تمنّعا، وتكبّرا، وولها بمعلمه مقطوع الفروع، فما عاد يسجد بين يدي سلطان الزنزانة كل صباح مع أهله قبل أن يتوجّهوا للعمل، كما أصبح يأكل من ثمر البستان السلطاني دون أن يزحزحه عن غيّه وعد أو وعيد، وقد كرهت أمه سلوكه وخافت أن يحصد غضب السلطان والرب الجالس على عرشه على راحة أمين سّر الزنزانة .
اشتدّ كفر الغريب، وكان من اله أمه ساخرا، وراح يحثّ شباب الزنزانة كلما سنحت الفرصة على الانتقام من الرب الضعيف ومن أمين الزنزانة، ومن السلطان الشرس الذي صادف أن حدّثه عنه معلمه ذات ليل كتوم قائلا: " كتبت في سرّي قبل أن يقطع السلطان يدي ورجلي سيرته التي ذكرت فيها يوم ميلاده، فلقد شهدت أمه في ذلك اليوم عسرا لمّا جاءها المخاض إلى جذع همّ مغتمّ ذات ليلة بباحة الزنزانة، صاحت ليلتها صيحة أفزعت ما بين المشرقين والمغربين، فتعبت ليلتها وأتعبت،
حتى أن أطباء الزنزانة كلهم اجتمعوا ولم يوفقوا، حينئذ دعي طبيب إسرائيلي . جلس الطبيب بجانبها، وفتّش في ثنايا فرجها، أطرق قليلا، ثم أخرج من حقيبته موسى، وشقّ فرجها نصفين ليتسنّى للمولود الجالس على عرشه الخروج من طور الموت إلى طور الحياة، وظهر ولأول مرة في تاريخ جنوب البحر هذا الطفل المعجزة الذي يعدّ مفخرة لسكان الزنزانة . أبلت الأم ليلتها البلاء الحسن، طفل يجلس على عرشه الملتصق به التصاق الروح بالبدن، يمسك بيمناه سياطا وبشماله قناطير مقنطرة من الجماجم، وسمّي عام ميلاده بعام المعجزة . نشأ الطفل رفقة عرشه، إذ كانا ينموان معا، وكان يتنقل معه على أكفّ الراحة والتبجيل ممن اصطفاهم أبوه . ولقد نشأ الطفل السلطان زير نساء،ومقتف لآثار المردان، ومتهالكا على الملذّات، ولو في نساء أبيه، ومقبلا على الفواحش إقبالا سافرا حتى أنه إذا اشتهى غلاما أو جارية أمر بها حملة عرشه، فيرفعونها بلطف، ويركبونها قضيبه إلى أن يقضي منها أو منه زينته . كره المعلّم من الطفل المعجزة خلقه وخلقه، ورفع أمره إلى أبيه السلطان، فلقي منه ما كان يكره لرفضه مواصلة تزكيته وتعليمه كأقرانه في كتّاب الزنزانة .
كان الغريب المحلّق في اللاّمدى من أهله في الزنزانة جزوعا، وبمعلمه ولوعا، وبمعاشرته له قنوعا، ولقد كان أحبّ لقلبه من أمّه التي كانت على أثر قومها تهرع، تعبد إله السلطان خوفا وطمعا، خوفا من بطش أمين سرّه وجبروته، وطمعا في مكرمته وقوته، كره الغريب من أمه هذا السلوك ومجّه، وآمن بما جاء به معلّمه، لقد أينع بين يديه في كتّاب الزنزانة وبعده، وترعرع على قوله، وكرع منه إلى أن خطّ الزمان في شعره بياضه .
حثّ الغريب في أهله قافلة السؤال، وكذا في قفرهم، وعلى طريق التّيه بحث عن ربّه في الزنزانة ... في أقرانه ... فجاءه الجواب سياطا، وتجويعا، وعذابا، استأسدت في جثث الأجوبة المغلولة حدّ الجرح الأوهام، مشى الغريب مع معلمه بين جنبي طريق مسدودة، وجدّ في البحث كلّما خلا إلى أهله رغم أظافر الخوف المستمسكة بكل كيان .
عاش غريبا ومات غريبا، امتطى في الزنزانة سنم الترحال، وصعّد به في اللبّ بساط التّسآل، مشى بين الجثث الجاثمة على أحزانها المكبوتة بين أحضان الزنزانة الرؤوم يسأل كلّما أينعت أسباب السؤال، مشى زمنا طويلا من شبابه، وبعضا من كهولته بين جثث أهله بخطى مثقلة، سار في شوارعها سيرا غير قاصد . وذات يوم خريفيّ أقرّ العزم على كشف سرّه ودعوة أهله إلى إلهه الجديد المخلوق من الشمس جهرا، فبثّ في ذوي القربى رسالته، فكذّبوه، وعذّبوه، وفي الحقد سجنوه، وفكّت أسره دعوات معلّمه المتيّم بالنخل والشمس، لم يستسلم الغريب إلى ضعفه وآمن برسالته، وطلع بها على الناس رغم بطش السلطان وعيونه وأوليائه وأمين سرّه، وخرج إلى الشوارع يدعو إلى إلهه في وضح النهار .
الشوارع واجمة، والجثث على قارعة الطريق، ملقاة في غياهب النسيان، وتحت الجدران، قد طلّقت وجوهها ملامحها، جلس ذات سؤال القرفصاء بملل أمام جثّة من الجثث الملقاة في الصمت والخوف، حاول أن يتجاذب معها أطراف نجوى، فلم تعره أذنا صاغية،، ونظرت إليه شزرا، استعاد الغريب شيئا من حلمه وسألها: " أما مرّ بك ربّي؟ " فجاءه الجواب صمتا مقيتا، أخيرا تحرّكت الجثّة، بعدما قلّبت خوفها في الزنزانة ذات اليمين وذات الشمال، وبعد طول سكوت أفصحت مشيرة إلى قطعة خبز بيمينها باقتضاب: " هو ذا "، لمس الغريب الجثّة بيد رؤوم، وهمّ بالرحيل، لا يعرف أيّ الطرق يسلك، استمسك من فضوله بالبقية وكتم غيضه، وأراد أن يعيد السؤال، لكن الدود سبقه للسان الجثّة اللاّئذة بخبزها والصمت، فتّش الغريب في ثنايا الجثّة المحروسة بالدّود علّه يظفر بجواب، فلم يدرك منها مطلبه، أعاد تقليبها وكأنّه لم يقلّبها من ذي قبل، ظفر بورقة صغيرة أفرحته، لكن سرعان ما امتصّ ضحكته، واكتفى بابتسامة تنمّ عن القناعة والرضا، قلّب الورقة بفضول زئبقي ّ، فعثر على رقم يثبت هويّة الجثّة كالرقم الذي تحمله أمّه ومعلّمه وبقيّة أهله، نهض الغريب محبطا، ومخلّفا الجثّة لخبزها والدّود، واعتزم التنقّل إلى جثّة أخرى، لعلّه يرد المورد الزّلال في زنزانة اللّسان الأبكم، تنقّل بين الجثث المبثوثة، وفي طريقه إلى هدفه تذكّر قول معلّمه ذات ليلة وهما بالزنزانة مضطجعين: ” لكي تحيا ها هنا، هانئا، عليك أن تكون جثّة بامتياز، فأعرض الغريب الضارب في تيه السؤال عن الجثث، ومشى بين الطرق الحبلى بالقنوات المتفجّرة، بحث بعينين شاردتين عن مكان يقيه سيول الدّود والخراء، وبعدما انخفض به درب وارتفع به آخر حلّ به المقام في مقهى مزدحم بوجوه مكفهرّة تحتسي الفراغ، تجاسر الغريب على قرفه، وانطلق بين الطاولات السافرات إلاّ من خشبها يسأل نازليها عن ربّه المنشود، لكن لا أحد يعلم عنه شيئا، طاف بكلّ الطاولات، وسأل الجثث جميعها رغم قحط السؤال المفترش ألسنة الناس المتجذّرين في الجفاف . فتّش في عقولهم، وأفئدتهم، وجيوبهم عن جوابه المنشود، غير آبه بالعيون المنتشرة هنا وهناك وكذلك الآذان، وبينما هو يسأل إذ بجثّة تلوح عليها علامات النّباهة دعته بعينها الخاوية إلى حماها فتوجّه نحوها بخطى مثقلة، نظرت الجثّة بعينين مختومتين من الوريد إلى الوريد إلى صورة سلطان الزنزانة المعلّقة على صدر المقهى وكأنّها تقول للسائل عن ربّه: " هو ذا " . تنامت في صدر الغريب مشاعر خيبة، فطلّق دون عميق تفكير المكان . غادر المقهى، ومشى بين شوارع الزنزانة كسيرا، وبينما هو على بساط الشّجن، إذ به يرى مجموعة من الجثث تلبس السّواد متحلّقة حول اثني عشر قبرا تلطم الخدّ، وتشقّ الجيب، وتضرب الولدان بكل ما أوتيت من قوّة بقطع من الحجر والحديد بكلّ ما أوتيت من قوة إيمان، تقدّم الغريب نحوهم بخطى وجلة، ثمّ راغ على إحداهم بالسؤال عن ربّه، فرمقته الجثّة بازدراء مشيرة إلى تلك القبور المتآكلة قائلة في صمت: " هو ذا "، تملّكه شعور بالفشل، وغاب إلهه كما غاب من بين جوانحه الأمل، واستغلظت مرارة الخيبة في فمه، ودكّه الإحباط، وخيّب أهله آماله، فترك الجماعة، وأطلق ساقيه للفشل وللأحزان تنهشه . فارقه الأهل والصحب، وتنكّر له كل الأحبّة، وحذّروا منه كما حذّروا من معلّمه عيالهم، وطلّقوا مجلسه، وألحقوه بزمرة المفردين، كره العيش بينهم لولا بعض أمل دفعه إلى المكوث فيهم، كما أنكر منه معلّمه الاستسلام وحثّه على الإصداع بدعوته، ولو كان في ذلك حتفه، فسار على نهجه المزروع ليلا بهيما، وسار على دربه اقتفاء لآثار الشمس، والنخل المترع بالفجر المنبثق من بين شقوق الجثث المجلّلة بالدود والعرش، فلم يثنه التجويع وكذلك الحديد والنار، ولم يثبّط عزمه كفر أهله به وبغده الكامن في الأفق المتورّد البعيد … البعيد، وذات ليلة، وفي طريقه إلى مضجعه في ركن مظلم من الزنزانة اعترضت سبيله حبيبته، رمقته بعينين حائرتين فبادلها نفس الحيرة، مالت عليه وهمست:" مالي أراك كموج البحر في يوم مطير؟ أو كمن تحمل في بطنها وزرا، تودّ لو ماتت على |أن يراها أهلها، أو يفضح ساكن أحشائها أمرها، فراغ عليها بصوت خفيض:" زنزانتنا خراء، لقد ضقت ذرعا بجثثها وبإلهها العجوز العاجز، والمبارك لسلطانها أعماله على لسان أمين السرّ ... زنزانة أموات زنزانتنا هذه المتعهّرة، تدير وجهها للشرفاء وتحتفي بالسفهاء، لقد كرهت العيش على أرض تشرّد أزهارها وحمامها " . أنكرت منه حبيبته قوله ذاك، وصعّرت له حبّها، ومن معلّمه حذّرته، ومن سمومه أنذرته، وبدين الأهل أغرته قائلة: " الهي، اله أمّي وسيدي، ونحن على دين الآباء والآباء على دين الأسياد، فلا تكن نطفة المروق، فإنّي أخاف أن تلقى منهم ما سيلقاه معلّمك غدا صباحا في بيت القدّاس " . نزل عليه قولها صاعقة محرقة . واقتلعته كلماتها من سكونه وألقت به في قيعان الحيرة ووخز الإبر المسمومة . تحامل على سقوطه وحاول استدراجها في الحديث ليعرف منها أكثر عن أمر معلّمه، لكنها استمسكت بالصمت خوف الآذان المنتشرة في المكان . فأذكى صمتها نيران حيرته ونخرت كلماتها المقتضبة جداران فؤاده المحزون .
قضّى ليلته تلك متبرّما متململا كأنّ النار تحته، يرقب بين الحين والحين مطلع الصباح، تمطّط الليل وفارق النوم عيني المنتظر، وعصفت به في هاتيك الليلة رياح الذكريات العاتية، وحمله عقله المضطرب إلى أقاصي الجرح حيث الشجن الممدّد كالوباء، ضاق به فراشه ذرعا ولفظه، فاستجمع قواه وخرج إلى باحة الزنزانة، الأهل كلهم نيام، إلا الدود على عادته متأبّطا نشاطه ... عواء الذئاب الباعث في الجوّ نسمة سامّة متحلّق حول جثّة الفجر يمزّق تفاصيل وجهه، جرت بالغريب حيرة شموس في كافة الأرجاء، وطوّفت به في دروب الأرق المسامق لخيط الظلام، نفد الصبر وغاب الصباح، كل شيء هنا ينبئ بالبوار، الشوارع المجترّة لخريفها ... الجدران الجاثمة على صدر الأرض الضيّق ... الطيور المنشورة على مشانق الزنزانة المتوشّحة بالقرف، تسمّر الغريب في دمعته مترقّبا صياح الديكة والصباح، فحضر العويل ونامت الديكة على فنن السواد، وفي غفلة من يقظة الغريب امتطى الضياء الباهت صهوة الليل السميك ... حطّم الغريب وجومه وأطلق العنان لرجليه نحو بيت القدّاس .
لم يتصوّر الغريب كلما تذكّر كيف استطاع اختراق الحرس والمنتصبين على جنبي طريق بيت القدّاس كأشجار شاهرة نيوبها . الطريق الغارقة في الأظافر نظيفة على غير عادتها، حتّى المكدّون الأبديّون وطالبوا الصدقة قد تركوا مواقعهم تحت جدار البيت المعمور بحدّ السيف، فالسيد يوم عيد عرشه المنصرم أصدر مرسوما يمنع التسوّل حفاظا منه على صورة زنزانته في عيون الوافدين من وراء البحر، وقد جدّ رجاله، وأتباعه، وعيونه المعربدة منذ الصباح الباكر في اجتثاث المتسولين وترحيلهم عن الجدار الذي آواهم سنوات طوال قبل المرسوم وبعده، كي لا يرى السيد مشاهد تغضبه وتحرجه أمام زمرة من ضيوفه الأخيار الذين جاؤوا من كل فجّ عميق ليشاركوه فرحته بتنصيب الإله الجديد ومفتي الدّيار في عيد العرش .
ألقى الغريب بجثّته داخل بيت القدّاس، وأسدلت عليه الرطوبة ستائرها، وكذلك تهليل الخرفان، والفئران، والنعاج، والضفادع، والقردة، جلس الغريب على شوك الانتظار، يصارع صياح المرحّبين وتهليلهم المتطاول في البنيان، استسلم المتعب الحزين للانهيار والصمت، وطفقت عيناه تطرقان باب الخيبة بحثا عن المعلّم المنذور لليباب، فجأة ساد صمت كثيف، وتلبّس بالجدران، وبالمنبر الجاثم على صدر الأرض منتحبا . تقدم موكب سلطان الزنزانة وضيوفه محروسا بالكلاب والذئاب والأفاعي والتماسيح المعمّمة والحمير والعرجان والبرصان والصمّ والبكم والعمي، ومن ورائهم يجرّ حملة العرش السلطانيّ المعلّم مصفّدا في الأغلال . استقرّ بالموكب بين المحراب والمنبر المكان .
اشرأبّت الأعناق، وشخصت الأبصار، وتطاولت الهواجس في البنيان . صعد أمين السرّ - الذي ارتقى بعدما أكل حصير الكتّاب مؤخّرته في المناصب داخل الزنزانة بسرعة جنونية، لأنّه كان لا يرفض للسيد طلبا، كما كان عين السلطان الساهرة التي كشفت أمر المعلّم، لقد كان يخشى غضب سيّده،و يتّقيه، كما تعلّقت همّته بما عند العرش فناله يوم رفع النّقاب عن مؤامرة تحاك ضدّ العرش من قبل المعلّم أو هكذا قال، وقدّم لسيّده نسخة منقّحة من الكتاب المقدّس، وافقت هوى السلطان، فاستحسنها، وباركها - استقام أمين سرّ الزنزانة في وقفته على المنبر، وسوّى عمامته، ثمّ نظر في الوجوه الرامقة له، وأمطر الجالسين على يمين المنبر من بطانة السلطان وضيوفه ابتساما، ثمّ أطلق للسانه العنان، يعدّ نعم السلطان، ويحصيها داخل الزنزانة، وخارجها، مذكّرا بفضائل الكتاب المقدّس الجديد، ومشيدا بمكارم أخلاق السلطان، ولمّا أتمّ درّته، نزل من على المنبر، والناس لائذين بعيون جائعة، مضطربة في محاجرها، مشى أمين السرّ نحو السلطان بخطى وجلة، ولمّا بلغه جثم على ركبتيه بين يديه، وأخرج من تحت عمامته طينا وخلطه بكلمات، ناسلات من أصابع السلطان الجالس على بساط السكينة، أينعت الكلمات، وتمشّت في أوصال الطين كالسّنة، واستوت على سوقها، وتململ الطين بين يدي أمين السرّ، وتشكّل، فنفخ فيه من عمامته، فاستحال إلها سويّا، فقدّمه بين يدي السلطان هديّة، فخرّ الرب بين يدي السلطان ساجدا، ومن ورائه كلّ الحاضرين له سجدوا، وبعد ذلك قدّم الربّ للسلطان سياطا وخزائن رزق .
اقترب الغريب الجالس على سياط دهشته من حافة الجنون، لكنّه تحامل على نفسه، ليرى خاتمة معلّمه، شمل الخشوع بيت القداس بجناحيه، وانخفضت الرؤوس جميعا، وكأنّ الطير فوقها، سجد الغريب مع الركّع السّجود كي لا يفتضح أمره . ولمّا أتمّ الربّ وعياله السجود لسيّد الزنزانة، وقف أمين السرّ بأمر من سيد الزنزانة، وفكّ عن المعلّم أغلاله، وتقدّم به نحو المذبح المحاذي للمنبر، انتفض الغريب كالمسعور، واقترب نحو الصفوف الأمامية، لعلّه يودّع معلّمه رفيق دربه، رفع المعلّم عينيه الغارقتين في الدمع وكأنّه يودّع الدّنيا والنّاس، فالتقت عيناه بعيني الغريب حبيبه، فابتسمت العيون، وتعانقت، وبكلام نورانيّ تحادثت . انحنى أمين السرّعلى المطروح قرب المذبح، ليشقّ صدره كي يقتلع منه إلهه الفاسد المضلّل لشباب الزنزانة، وقبل أن يعمل فيه سكّينه المقدّسة، طارت من بين جنبي المطروح نخلة، واستقرّت في قلب الغريب، والنخلة هي أنا الجالسة بينكنّ هنا، فأحكم الغريب حفظي، والتكتّم عليّ، وخبّأني من العيون، كما صان حبّ معلّمه، وسرنا على طريق الخوف أياما عديدة، وليالي مديدة، نصارع البطش والذلّ في زنزانة احترفت وأد الصّباح . كفكفت النخلة كلماتها الحزينات، ولفّت الرماد الجاثم في كفنه بنظرة رؤوم ثمّ صمتت .
................................
(*) الابيات الشعرية للشاعر عبد العزيز المقالح
-5-
الليل والأنياب والدمعة السّقيمة ….
و مسامير الأفق المسجّى في دمه تجري في جناح وردة ثكلى ...
شمس الجنوب تمدّ نحو اليابسة أشعّة سوداء مخضّبة بخراف من الزمن المبتور...
و عقارب الوقت على قمّة رمس متشظّ تهدهد سياطا مضاجعا لنهر مفتضّ الثدي
الليل والأنياب والدمعة الحزينة ….
يد هزيلة متستّرة بالكتمان...
ووردة متسلّلة من كوّة عابسة تبذر في عين فجر مسبيّ خبز الصباح ...
و الماء على إجهاده يدفع عنه بين الحلكة والسواد المعاول الباسقة في ترائب خنازير الصحراء وأصلاب نعامها
الليل والأنياب والدمعة الحزينة
والكرمل المجبول على منفاه يضمّد جراح التائهين على عتبات الذئاب ...
و على مقربة من الحنين يرتق سراب الضحى نجوما تائهة على درب ضياء مصلوب ...
و قلوب العاشقين بين أصابع الردى تعبث بها أمواج شوكية ناسلة من مرافئ اليتم الأبديّ ...
الليل والأنياب والدمعة اليتيمة ….
غد شريد متأبّط برد النيام على وهن ...
و ليالي الدفلى تدفع أحلام الجاثمين على سنم منفى جليديّ ...
الليل والأنياب والدمعة الحزينة
المغارة الضليلة ارتداها البؤس منذ الأزل، ولفّ وجوه المتحلّقات صحبة النخلة حول القبر خريف بركاني . تدحرجت النخلة من علياء عبرة سحيقة متوكّئة على خيبة أزليّة، والقمر العليل من فوقها يسيل أنهارا من الضوء الرماديّ .
الليل والأنياب والدمعة القديمة
و النخلة التائهة على لوح الهجرات السقيمة تلملم جراحا متناثرة، وتعضد قلوب الحيارى المتحلّقات حول القبر منتظرات صبحا قد يأتي وقد لا يأتي .
الليل والأنياب والدمعة الحزينة والدرب الطويل العنيد
ضاع الغريب في شعاب غربة ممتدّة الأطراف، كما أفل معلّمه في متاهات متشعّبة، وتاه الإله المنشود في شرايين حلمة أضاعت طريقها إلى البياض .
صبح المغارة الثخين، يضمّد أخاديده بخيط من الفئران، في غفلة من فحيح عمائم خرافية . كما ضاعت شلالات العيون في زحمة نقيق أفعواني . لم يستسلم الغريب، وقد نشط في طويّته حبّ الإله الموعود، وضرب في مناكب عقله، منذ فرّ من بيت القدّاس تحت جنح الحذر، قبيل أن تنهشه العيون المزروعة في كل مكان، فتحرمه من هديّة عزيزة، تلقّاها من فؤاد معلمه، قبل أن يفارق الطين . وذات عدم شقيّ، خرج الغريب صحبة النخلة هديّة معلّمه تحت جنح الظلام، حذر العيون المبثوثة هنا وهناك، ولكن تفطّنت له كلاب الزنزانة، واقتفت آثاره لاسترجاع النخلة، وثقفوه جالسا على ابتسامة محشوّة بالدود، يداوي جراح نخلته بجراحه المتفحّمة، مستعرضا بين الحين والعبرة قول معلّمه: " سر في الأرض بحثا عن إلهك ... ابحث عنه في النّار ... في الرعد ... في البركان ... في النخل، وذرهم وما يعبدون قليلا " ... انتفض الغريب كمن أصابه مسّ من الجنون، لمّا رآهم متّجهين نحوه، وأطلق ساقيه للريح نحو البحر، بعدما أحكم إخفاء نخلته في أحشائه، واتّجه سابحا، نحو أعماق البحر، نحو زورق فاتح غمّه بالوصيد، ووجّه وجهه نحو شرق الماء لعلّه أرحم به وبصاحبته من غربه
الليل والأنياب والدمعة الحزينة
دمع المغارة في المآقي سال، والظلام المعربد استبدّ بالطرق، والدود المتورّد انتشر في المفاصل والتفاصيل كالوبال، والمتحلّقات على أرقهنّ داخل المغارة، يعانقن في النور الترحال . تململت النخلة المتيّمة برماد صاحبها الجاثم على صمته في كفته بجانبها، وتنحنحت، وفكّرت ثمّ قدّرت، واستقدمت سؤالها ثمّ استأخرت، وبعد طول تردّد راغت على إحدى الجالسات بالسؤال عن سرّ ساكن القبر وأسباب تحلّقهنّ حوله، فطأطأت الملتحفة السواد من الأقصى إلى الأقصى، وانسكب من صوتها المجروح الكلام:" نحن أيتها النحلة الغريبة، المعطّرة بسلاحف الوقت، نساء من قبائل جنوبيّة شتّى، وكنّا قبل ذلك امرأة واحدة ثمّ صرنا أقواما قددا، كان أبونا النائم في الجدث سورا مانعا في أهله، يذود عن حياضنا، ويردّ عنّا فلك الطامعين، ويحقن دماءنا، ولمّا نال منه الكبر وخطّ فيه الدّهر مداده اجتمعت عليه الذئاب، والكلاب، ومزّقوه إربا، وصنعوا من أعضائه من بعد ذلك نسوة كثيرات مبتورات الطرف ... منهكات ... خائرات ... كالنهر مشرعات للغاصبين " .
توقّفت محدّثة النخلة عن ذكر تفاصيل حياتهنّ، وكشفت عن أعضائها المبتورة، وكذلك فعل المتحلّقات من بعدها، والنخلة بينهنّ متسمّرة، في دهشتها، تتّبع المشهد بعين شاخصة . استأنفت محدّثتها قولها:" ثمّ بثّوا في أرحامنا عيالنا، رفعناهم في في علييّن، وعلّقنا عليهم آمالنا، وآمال المستضعفين، رفعناهم وعوض أن يرفعونا ويحفظونا غدروا بنا ... أبناؤنا غدروا بنا خوفا، وطمعا، وتزلّفا، وسقوا الوافدين دماءنا كلّ هذه السنين الطّوال، وكذلك هم منها كرعوا، واجتثّوا من ترائبنا أحلامنا وأحبلونا أحلامهم، فتفتّحت في وجوهنا من بعد أبينا عين الرّدى، وصرنا وليمة لأنياب الظلام، فحملنا أبانا في أحشائنا، في غفلة من العيون، حملناه أملا مبتسما للقمر الجريح في ابتساماتنا، آملين في عودته سيرته الأولى، لنعود من بعده، نهرا واحدا، بعدما مزّقنا الغريب وابن الجلدة جداول ...عرجاء ... صمّاء ... منهوشة على الدّوام . مضت القرون وما عاد أبونا سيرته الأولى، وما عدنا نحن إلى مجرانا، وبقينا على الشتات، تتقاذفنا العروش الشاحبة، والعمائم النحيلة، واللحيّ المتلاطمة، فتتوجه بنا يمينا تارة وشمالا تارة أخرى "
و بينما هي تقصّ على النخلة قصّتها، وقصّة صويحباتها، إذ بالأرض من تحتهنّ فجأة ارتجّت، وأخذت زينتها الأولى، ورفلت في بهجتها، وعلت محيّاها من الأفق إلى الأفق ابتسامة رضيع، ودبّت في البحر الحياة، وتداعت جدران المغارة وتبدّدت الظلمات، وعلى زغاريد الفجر الوليد رقصت الأمنيات، والماء المعطّر بالضّحى أينع، واستوى على الضياء، كما غارت الثعابين والأفاعي وذبلت الذّئاب المتدلّية من عناقيد الجرح، وألقت العفونة بأخاديدها وخدودها عل أديم الأفول، والشمس العليلة تغنّجت بالصبح الرافل في حمامة جنوبية تخيط لريشها بياضه، وتزفّ للحبور أجنحته، والسماء من فوقهم جميعا، اتّكأت في خيلاء على زرقتها، تدندن بمواويل البزوغ على وقع خرير جنين يداعب سؤدده، والوجود في زمرة من أصفيائه، رفع على أكفّ شلاّلات النهار جثّة الديجور. دبّ الذّعر في المتحلّقات حول القبر، وحلّ بأرضهنّ الذهول، ومادت بهنّ الحيرة، وسرت في أبدانهنّ رعدة
من خوف زئبقيّ . شدّهم المشهد إلى أماكنهنّ والسؤال، ونمت في عيونهنّ أمواج الاضطراب، فهدّأت من ذعرهنّ كبيرتهنّ بحركة متّزنة من يمناها، فعدن سيرتهنّ الأولى .
ارتجّ القبر، وانشقّ صمته على سرر المياه السندسيّة، وتململت جثّة الشيخ المجلّل في رمسه بالبهاء، وانقلبت نهرا يجري عسلا، لم ير له الوجود مثيلا، فانتفضت أسارير الوجوه المتحلّقة حول القبر شاخصة الذّهول،انتفضن جميعهنّ، وانحنين على القبر يتفحّصن جثة أبيهنّ السائلة، والنخلة بينهنّ تتقاذفها أمواج الاندهاش، سافر بهنّ السؤال نحو الأقاصي حيث المرافئ الغائبة، وتحرّكت العيون، ورجمت شجرة السؤال بالظنّ، فاسّاقطت عليهنّ رطب الفراغ تعوي حاملة بين جنباتها الخلاء، كلهنّ، حتّى النخلة عربدت فيها الحيرة، إلاّ امرأة وهي كبيرتهنّ، استمسكت بالخشوع، ىلم تحرّك ساكنا ولاذت بالهدوء الذي لم يطل لسانها المشتعل ذكرا، وفجأة اجتثتّ كبيرتهنّ لسانها من ذكره، وبدنها من وقاره، وصاحت فيهنّ بصوت منغّم:
" هذه أشراط بزوغ الشمس من الجنوب، فأطلقن يا بنات الصحراء بطونكنّ لابنكن الرافل في رماده الخصيب ... واهززن إليكنّ بروح نخلة الفجر العتيد، واكرعن من عسل أبيكنّ المديد …. فهذا ما بشّر به كتابنا المقدّس القديم ... " وقبل أن تتمّ كلامها، اتجهت النسوة إلى القبر يكرعن من عسله حدّ الاشتهاء، ثمّ نفخن من بعد ذلك في فروجهنّ من رماد ابنهنّ الرافل في كفنه قرب النخلة المتوشّحة بالكبرياء، ولمّا اختلط الرماد بالعسل ودبّت الحياة في الأرحام، وتنمّر الضياء، وجاء الصباح ينشر أريجه، هززن إليهنّ بجذع النخلة المستمسكة بلوح الحيرة العاتية بين أيدهنّ والضحكات، وأكلن من ثمار النخلة حدّ التخمة، ولمّا أتممن الطقوس، وأتين على الوصيّة، عرضن أرحامهنّ على الشمس،
فبذلك أمرتهنّ كبيرتهنّ، وضاجعتهنّ الشمس زمنا طويلا، وبثّت فيهنّ رجالا كثيرا، ونساء بيد كلّ واحد منهم نخلة، وسالوا من الفروج كالسيل الهادر، وانتشروا في الأرض يضمّدون جراحها بالنخل ويرتقون شتاتها منشدين:
على كفّ الشمس استريحي
و من بين أنامل الضوء النسر الثلجيّ وسدنته بالنخل المطهّر استبيحي
يا أيتها الأجساد المنتشرة في الأرض ارتقي شتاتكم
و ازرعي النخل ثلجا في عيون القحط
يا أيتها الفروج المباركة اقذفي بالصبيان، ورشّيهم ياسمين على كفّ الخلود
يا أيها الكرمل بثّ في الرافدين الأزهار والأطيار والخضرة السرمديّة
............................
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1447 الاحد 04/07/2010)