نصوص أدبية

لقد كان قلبُك يا سيِّدي السنبلهْ / باسم الماضي الحسناويّ

 ولم يفزعا ذات يومٍ إذ انفجرت في فضائهما قنبلهْ

 

أتعرف يا سيِّدي ما الذي سوف يجعل طعم الحياة لذيذاً على الرغم من أنَّك الآن في عالم الغيب، إنَّ الحياة تلذُّ لنا ها هنا كونها حفظتك كما يحفظ الشعراء قصائدَهم في المحافل عن ظهر قلب.

وإنَّ الحياة تلذُّ لنا كون أنفاسك الآن قد أصبحت شجراً أخضراً ونخيلاً وأنهار شعرٍ.

 وإنَّ الحياة تلذُّ لنا سيِّدي كون روحك أبقت هنا شطرها، كلُّ شيءٍ لها جسدٌ، كلُّ شيءٍ لها مصحفٌ تقرأ الله فيه.

 

أجل كنت حياً وقد متَّ كالأنبياء الكرام، ولكن هل الموت عندك موتٌ؟ إذن قل لماذا أوجِّه عينيَّ نحو المياه فأبصر فيها حسيناً، وأبصر فيها قوامك جنب الحسين، وقل كيف أمسك بالأرض، أمسكها مثلما يمسك الأب طفلته ويدغدغ في إبطيها لتضحك، ثمَّ أبصرها فجأةً تتقمَّص صورة وجهك، تلبس نفس قوامك، ثمَّ تقول: أنا الآن راشدةٌ، لم أعد قطُّ مولعةً بالدُّمى، فأنا الآن في حكمة الفيلسوف.

أنا الآن أمٌّ لكلِّ بني آدمٍ، أرضع الكلَّ من ثدي هذا الحنان الذي هو عين الدماء التي نزفت في الطفوف.

 

 أنا الأرض فلتبعد إذن هذه الدُّمى

لأني بلغت الرشدَ واكتملَ العقلُ

فلي حكمةٌ لا الفيلسوف يحوزها

ولا الشاعر الرائي ولا العالم الفحلُ

أنا الآن أمٌّ للجميع كما ترى

سأرضعهم فليرتشف لبني الكلُّ

وما لبني إلا الدم الطاهر الذي

جرى يوم طفِّ الله كي يوجدَ العدلُ

 

إنه القبر، أروع ما فيه أنك فيه، أرى القبر يمشي، أراه على منبرٍ يخطب الناس، أبصره يتعطَّف جداً لكي يطعم الفقراء، أراه أراه صديقاً، أراه يعانق كلَّ الذين يزورونه خاشعين.

لعلَّك في القبر أكثر حباً وعطفاً، لعلَّك يا سيِّدي تتنقَّل بين وجودين، أنت تقيم هنالك في جنَّة الله قطعاً، ولكنَّ قلبك لا يستقرُّ، تريد عناق الذين هنا، وتريد لهم أن يكونوا جميعاً بعينيك نقطة ضوءٍ، تريد لهم أن يكون هواءك، أو أن يكونوا منامك، صحوك، حلمك، أن يكبروا من طفولتهم وهمو تحت أهداب عينيك، لست أصدِّق أنك تقدر أن تفقد الحزن في جنَّة الله، إنك تحزن، والحزن عين اللذاذة عندك، تحزن حين ترى أمَّةً تستغيث من الظلم، تحزن حين تشاهد قلباً إلى الآن لم يلج الحبُّ فيه.

 

تفلسفْ بحزن القلب يا أيُّها الذي

رأى الحزن عين الأجر وقتَ صلاتِهِ

لعلَّك حتى في الجنان تحسُّ أن

إذا لم يكن حزنٌ ترى قسماتِهِ

فقدتَ حبيباً فارتعدتَ لفقده

ولم تحتملْ قطُّ انطفاءَ حياتِهِ

لهذا فأنت الآن تبكي لفقدنا

بربِّك من عانى إذن من مماتِهِ

فنحن إذن موتى وإنَّك ثاكلٌ

نعزِّيك فينا يا وحيدَ وفاتِهِ

 

على أنَّني الآن أبكي، فكيف تطيق الحياة بعيداً عن العاشق المستهام، وكيف تطيق الوجود هناك بمنطقةٍ لستَ فيها، وكيف ستأكلُ، كيف ستشرب، كيف تحدِّث عن فلسفاتك غيري، لقد كنتُ أفهم ما أنت فيه، وقد كنت تفهم ما أنا فيه، ولم نتحدَّث بشيءٍ معاً، كنت أجلس قربك في مجلس الناس، أحدس ما سوف تنطقه قبل أن تتحرَّك يا سيِّدي شفتاك، وكنت تقول: هنا ها هنا رجلٌ يتفيَّأ ظلِّي، أفتِّش عنه فألقاه في الروح متَّكِأً ويحاورني، ضمَّه مجلس الناس هذا، ولكنَّه ليس يظهر، يبقى خفيّاً عن الأعين الناظرات، ولا يتوضَّح إلا إذا نظر القلب.

 

تلك العمامة أقصد تلك التي أصبحت خيمة الناس طرّاً من المشرقين إلى المغربين، وتلك التي هي آخر صقع المسافة ما بين عطف الإله وعطف الإله.

أحدِّثها وهي تصغي لمن يكتب الشعر فوق الضريح عن الأرض: إنَّ البلاد هي الآن منفى، وإنَّ البلاد بلادٌ بلا أيِّ معنى للفظ البلاد، تجيب: أجل إنها الآن منفى، ولكن متى لم يكن جوهر الأرض منفى، وهل للبلاد من الطعم طعم الحبيبة ما لم تكن لستَ تمسكها أبداً، فهي هاربةٌ منك دوماً تماماً كما لو بدت شبحاً، سل عن الأرض درويش، سله عن الحبِّ فيها، وسله عن الموت فيها، وسله عن الأمنيات العريضة كيف تكون بها، سيقول لك الأرض طائرةٌ من ورقْ

أو يقول لك الأرض أنثى نقبِّلها كلَّ حينٍ على سُرُرٍ من أرقْ

 

 للأرض معنىً واحدٌ هو أنَّها

لا تستجيبُ لنبض عشقِ العاشقِ

فيموتُ عاشقُها غريباً ثمَّ لا

يبكي عليهِ سوى الكلام الحاذقِ

يرثيه بالشعر الجميل جماعةٌ

متشبِّثون بكلِّ قولٍ خارقِ

هم أصدقاءُ الكلِّ أو أعداؤهم

لا فرق بين مفارقٍ ومطابقِ

فإذا أحبَّهم الجميعُ فربَّما

قذف الجميعُ جميعَهم من حالقِ

 

أحدِّثها عن بيوت الصفيح ومن يسكنون بها، فتجيب: لقد عاش كلُّ مسيحٍ بلا أيِّ مأوى، وهم أولياء الإله، ولكنَّ بلدوزر الحاكمين هو الفيل، أبرهةٌ يحكم الناس، ماذا توقَّعتَ، هل يرحم الناس أبرهةٌ في حكومة بغداد، أبرهةٌ يصحب الفيل دوماً، وأبرهةٌ ليس يبكي لطفلٍ يموت من الحرّ، لا يتأثَّر من مشهد المرأة الثاكلهْ.

وأبرهةٌ يقتل الكلَّ، يشرب حتى دم العائلهْ

 

وأحدِّثها عن كلام النبيين كيف يكون ذريعة فرعون، كيف يكون ملاذ معاويةٍ ويزيد، وكيف نرى هبلاً يتزيّى بزيِّ الإلهْ

تجيبُ: ولا ذنب للأنبياء بهذا، فهم علَّموا الناس كلَّ صفات الإله الحقيقيِّ، والزيفُ يا صاحبي واضحٌ من سواهْ

 

اللهُ أوضحُ ما يكونُ لمن رأى

واللاتُ والعُزّى لمن عبدَ الوثَنْ

أنظرْ إليهِ فأنتَ تبصرهُ فإن

خفيَ الإلهُ عليكَ فاتَّهمِ الفِطَنْ

لو لم يكُ الإنسانُ يعبدُ نفسهُ

لم ينحرِفْ عن شكر هاتيكَ المنَنْ

الكلُّ أبرهةٌ يهيِّءُ فيلَهُ

ويصولُ كي يجتثَّ أبناءَ الوطنْ

 

أبي يا أبي هل رأيت الرحيل جميلاً، أبي يا أبي لم أزل بعدُ أحتاج منك حنان الأبوَّة، في الأربعين أنا بيْد أني سأشعر باليتم حتى نهاية هذي الحياة.

أبي إنني راغبٌ أن أراك، فجِئْ كلَّ يومٍ وإن شبحاً في منامي، فحدِّث طويلاً طويلاً عن الحقِّ والعدل والحبِّ، حدِّث طويلاً طويلاً عن الناس كيف يحبُّهم اللهُ، حدِّث طويلاً طويلاً عن الشعر والحبِّ في الله، حدِّث طويلاً طويلاً عن الشعب كيف يقاوم كلَّ الطغاة.

 

2-

نادراً ما يكون الرجل في سنِّ الثمانين وهو على قيد الشباب، ليس هذا هو المهمّ، فأنا أقصد أن يكون على قيد الشباب وهو في حكمة الأنبياء، فهذه الخاصِّية وحدها هي ما يمكن اعتبارها في غاية الندرة، وهي لا تتوفَّر إلا في الرجل الذي جرَّب أن يكون شجرةً طيِّبةً مثمرةً طيلة الحياة.

آيةٌ أخرى تريك أنَّ الرجل بهذه الصفة ضرورةٌ قصوى بالنسبة إلى العالم، لا سيما عندما يكون هذا الأخير مهدَّداً بالمسخ أو بالفناء على الدَّوام.

وهي أن يكون الرجل مرهِقاً بالنسبة إلى الجميع، مع أنه في غاية الوداعة والحبِّ والطمأنينة، فالأًولى أن يكون هو من يشعر بالإرهاق، لا خصومه المشمولون بعطفه وحبِّه دائماً، لكنَّ الرجل الذي اعتبرناه ضرورياً بالنسبة إلى العالم لا يشعر بالإرهاق مطلقاً، بل يشعر خصومه بلا سببٍ واضحٍ من وجوده بذلك الإرهاق.

 

آيةٌ ثالثة:

أن تراهُ مبتسماً حتى في مواطن البكاء، وهكذا كان محمَّد حسين فضل الله مدمناً على الإبتسامة في تلك المواطن، حتى أنَّ حضوره في المآتم كان يشكِّل حرجاً كبيراً بالنسبة إلى رجلٍ جادٍّ مثله، ولهذا وجد حلاً لهذه المعضلة بأن يبتسم دائماً، لكن وفي عينيه يتغرغر الدمع، تاركاً على أهداب عينيه أشعَّةً من ضوء الإله.

 

آيةٌ رابعة

أن تتأكَّد من أنَّ بدن الرجل كلَّه من ماءٍ وطين، ولكنك تقسم بالله أنك لا ترى إلا شعاعاً، وهذه هي الآية الأقوى من بين الآيات الأربع كلِّها، ولهذا فإنَّ كلَّ من رأى السيد محمَّد حسين فضل الله قال في حقِّه هذا، حتى أولئك الذين قالوا إنه آبقٌ من ملكوت الله، فإنهم نادراً ما كانوا يجرؤون على النظر إلى وجهه طويلاً بسبب ذلك، حتى أنَّ بعضهم نقل لي صادقاً أنه كان يشعر كما لو أنه كوكبٌ منفلتٌ من المجرَّة في حضرته، وعلى هذا كان محمَّد حسين فضل الله أضخم كثيراً من حجم الأرض، لأنه كان بالضبط كائناً مثل المجرَّة.

 

كان السيِّد محمَّد حسين فضل الله يتلذَّذ بالعشق، ويرى أنَّ له وجوهاً كثيرة:

الوجه الأوَّل: كان يقول: إنَّ طعم العشق طعم النار، وهو يقصد أنَّ النار باردةٌ كالسلسبيل، فكان كلَّما زادت النار من لهيبها قال ارتويت أكثر، ولم يكن يصل إلى حدِّ الغرق مطلقاً، لأنه كان يستوعب كلَّ مياه العشق، ما يعني أنه كان يفيض عن حاجة كلِّ نيرانه، ويمكن اعتبار هذا الوجه من وجوه تلذُّذه بالعشق آيةً خامسةً على أنه كائنٌ وحيد الطراز.

الوجه الثاني:  في أحيانٍ أخرى كان يقول: إنَّ العشق بطعم الملح بعد الطوفان، بمعنى أنَّ العشق لا يمكن تخيُّله إلا قريناً لحربٍ معلنةٍ ضدَّ قريةٍ ما، وغالباً ما كان يسوق الدليل على ذلك من قصص القرآن، فيقول: إنَّ نوحاً كان عاشقاً جداً لقريته، وما قرية نوحٍ إلا كلُّ العالم بالطبع، ولهذا شاء أن يراها محاطةً بالملح بعد الطوفان، لأنَّ في ذلك دليلاً على أنها برئت من أوصابها كلِّها، وبالفعل، قبَّل نوحٌ ملح قريته بعد الطوفان، وبكى طويلاً، بكى حتى رأى أصحابه في بؤبؤَي عينيه صورة القرية قبل الطوفان، بكلِّ ما فيها من النساء والرجال والأطفال، فاحتفظ بهم في بؤبؤيه هكذا، وظلَّ يسقي خيالهم دمعاً حتى الوفاة.

الوجه الثالث: هذا الوجه مأخوذٌ من واقعة الطفّ، فلقد أخبرني السيد محمد حسين فضل الله مرَّةً أنه رأى جدَّه الحسين عليه السلام في واقعة الطفِّ عياناً، رآه ينظر إلى جمع القاتلين المارقين، فكان يستخرج من أصلابهم أجيالهم، وكان يقول: انظر إليهم كم هم عاشقون مخلصون، انظر إليهم كيف يتشبَّثون بشبّاك قبري ويبكون، انظر إليهم فإنهم أحبّائي جميعاً، حتى رماحهم تلك، فإني أقرأ فيها آيات العشق، ولهذا سأعانقها أثناء القتل، سأعانق تلك الرماح حياً وميتاً، حتى أكون أنا وتلك الرماح جسداً واحداً، فتعلَّمْ -أي بُني- كيف تستنبط من كلِّ خصمٍ صديقاً، وتعلَّم كيف تستخرج من صلب كلِّ عدوٍّ أصدقاءك الغيارى، فإن نجحت في ذلك فأنت حقاً وليُّ الله.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1451 الخميس 08/07/2010)

 

 

في نصوص اليوم