نصوص أدبية

زمن نفسيّ / محسن العوني

بصريّة عجيبة تنطبع فيها الوجوه  والملامح والأشكال يستحضرها بسرعة فائقة وكانت مجهوداته في هذا الاتجاه تنتهي بالفشل الذريع حتى غدا بقايا ذكرى متهافتة بغير اسم ولا ملامح.. في المقابل تتجلّى وجوه أصدقاء الطفولة واليفاع وتتوهّج في الذاكرة والخاطر وكأنها الأقمار ويجد ذكرياتهم محفورة في قلبه وكأنها حدثت اللحظة ولم تمض عليها عقود طويلة.. محمّد.. هشام.. سليم.. أحمد.. جعفر.. مصدّق..إلياس.. ما أبهاكم أيها الرفاق.. أنتم ذخيرة القلب في المسيرة الموحشة... اقتسمنا المال والطعام والأحلام وعبر الزمان وما عبرتم وتغيّرت الظروف وما تغيّرتم وتبدّلت السحن والملامح وما زلتم في القلب هامات وفاء ومودّة وأنس.. كم أنت عجيبة أيتها الذاكرة، تقرّبين من تشائين وتثبتينه وتبعدين من تشائين وتطمسينه وتتصرّفين في الزمان اختزالا وتكثيفا وإحضارا وتغييبا محوا وإثباتا..  أستحضرك أيتها الجدة الأندلسيّة الحنون فأراك قادمة نحوي بقامتك المديدة الجميلة المهيبة ولباسك الأصيل البهيج.. تحملين طبقا عليه قهوة الصّباح والخبر المسخّن تنبعث منه تلك الرائحة الزكيّة وصحن الزيت والعسل وصحفة المربّى والزبدة وصحن الحلويّات وكأس العصير.. فأهمّ بمدّ يدي بعد أن رأيتك هنا ملء صدري على شاشة اسمها البصيرة وأنا لا أكاد أصدّق أنك هناك قد غادرت منذ سنوات طوال وقد صدق القائل "ليس جارك من جاور دارك، إنما جارك من جاور قلبك".. فليتغمّدك الغفور الودود بواسع رحماته وليسبغ عليك سجال عفوه وكرمه، فقد كنت كريمة محسنة..هل جزاء الإحسان إلا الإحسان.. وأمضي أجوس خلال الغرفات الداخلية فأراك يا شيخ عليّ وأنت تجمّل المجلس بحكاياتك وذكرياتك وتعليقاتك الرّشيقة فأكاد أنطق باسمك وأناديك؟!.

أستحضرك يا عمّ عبد العزيز بابتسامتك الجميلة وصراحتك المحبّبة ومشيتك المتمهّلة وأنت تمسك اليد اليمنى باليد اليسرى خلف ظهرك..  وروحك الشبابيّة الرائعة.. أكاد أسمع صوتك الحبيب وأنت تناديني في الطريق باسمي وكأننا أتراب.. فأرسل نحوك نوارس حبّي حيث أنت..

مشاهد تومض في الداخل كأنها الشهب يحوّلها تراكم الخبرة الحياتية إلى مصادر تقوية وتعزية وحوافز مواصلة واستمرار وموارد يقين وإيمان.. الزمن النفسي حالة من الشعور والإحساس والانفعال تختزل الحاضر والماضي والآتي وتثبّتها في نقطة واحدة لو اعتصرنا جميع المعاني من كل القواميس والمعاجم في لغات العالم لما استطعنا وصفها أو التعبير عنها أو فكّ أسرارها.. الزمن.. النفس.. لكل كلمة أبعادها وأغوارها وألغازها وستظل من معضلات العلم وعجائب الكون والوجود.. فكيف عندما تجتمع في دلالة واحدة تنسب الزمن إلى النفس وتربط المجهول بالمجهول؟!.

وتزعم أنك جرم صغير

وفيك انطوى العالم الأكبر

وأنت الكتاب المنير الذي

بأسطره يظهر العالم المضمر..

الزمن النفسي يحيل على عالم التجلي والرؤية الداخلية ويدفعنا إلى التأمل في عذوبة الحياة وتجلّيات الأسرار الإلهية في الآفاق والأنفس لنفجّر منها معاني الأمل والإصرار والاستمرار والبحث والتعلّق والتسامي وطلب المعالي حتى لا يحق لأحد أن ييأس أو ينطفئ أو يفقد إيمانه بمعنى وجوده وخيريّة الحياة.. بمنطق الزمن النفسي بإمكان كل إنسان أن يعتبر تجارب الآخرين ومعايشاتهم تجاربه الشخصية ومعايشاته الذاتية.. فيضرب حياته بعدد الخلق في كل الأزمنة فإذا الإنسانية بين جنبيه وإذا بها نفسا واحدة وإذا بالنهر يعود إلى منبعه..

 

محسن العوني

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1457 الاربعاء 14/07/2010)

 

 

في نصوص اليوم