نصوص أدبية

ببغاء بغداد / حامد خضير الشمري

كان هناك ببغاء حاد الذكاء

يتوقف المسافرون في السوق ليسمعوه

فقد كان بوسعه أن يتلو كل كلمة

من سورة الفاتحة

حتى سمعت أن الإمام استشاط غضباً

لأن قراءة الببغاء فُضلت على تلاوته

وبهذه الحجة أضفى ذلك الببغاء مزيداً من المشاعر على النص.

*    *        *

 

وذات يوم أصاب الطائرَ البائسَ برعب شديد

قطٌّ يطارد فأراً

عندما اندفع على حين غرة إلى البيت

فينشر طائرنا جناحيه وقد أربكه المشهد بحدة

ويحلق إلى الأعلى نحو السقف

ليبتعد عن الخطر ويحط فوق أحد الرفوف

حيث استقرت بعض عطور الورد

المكرسة لأنوف البايات والباشوات المترفة.

*    *        *

 

وصل الرف لكنه، واأسفاه، اسقط القناني في عجالته

وأحدث جَلَبة مفزعة

فاستدار سيده ورأى الزجاج المذّهب

وقد تهشم بكل محتوياته النفيسة

ولأنه رجل متهور الطبع

وغالباً ما يذعن للنزوات الطائشة

فقد تناول عصاه واندفع فجأة

نحو الطائر وضربه على رأسه

وألقاه ممدداً على الأرض وكأنه ميت تماماً.

*    *        *

 

لم يقتل ولكن تغيراً حدث لذلك الطير المنكود

منذ ذلك اليوم

فقد سقط عُرفه وريشُ قمةِ رأسه

حتى صار أصلعَ كطير الغرّة الذي يضرب به المثل

لكن الأسوأ من هذا إنه قد أصبح أخرسَ

فلم تعد تتناهى إلى الأسماع

لغته الورعة التي جعلته حتى الآن

شهيراً بين الناس

وكذلك طرائفه ونكاته

ولم يعد يجذب حشد المشترين حول باب العطار.

*    *        *

 

وعبثاً حاول العطار البائس

أن يحمله على الكلام بالوسائل الوضيعة والحسنة

ولم تنتزع مرآةٌ وُضعت أمام عينيه

أيَّ شيء سوى نظرة زائغة

وعندما فشل كل شيء ركن العطار للصلاة

والى اللعنات ولكن دون جدوى

لأن السماء رفضت أن تتدخل في الأمر

وانه لأمر غريب أن يتصرف الناس وكأن بوسعهم

أن يداهنوا السماء أو يرعبوها لتذعن لهم.

*    *        *

 

وأخيرا عندما تخلى عن القضية

جاء شيخ يرتدي جُبّة الدرويش

أصلع الرأس كقدح خزفي

فقهقه الطير الذي أحب النكات لدى رؤيته

وانكسر صمته العابس

أول مرة منذ ذلك الحدث المشؤوم

ولهذا تكلم بنبرات مواسية

وإن كانت بلحن لم تكن فحواه خافية:

"مرحباً أيها العجوز! هل قلبت عطر سيدك!؟"

*    *        *

 

فحمل قياسه غاية في البعد

وهكذا يفعل أكثر من نصف العالم المجاور

فهم يقولون إن مثل هذه الأشياء موجودة أو غير موجودة

وبالتجربة وحدها يقررون

فالملائكة الخالدون الذين يسكنون

فوق السدم

لا يراهم إلاّ القلة

لكن وجودهم لا يمكن أن ينكر

ومن الشيئين المعروضين أمام أنظارهم

لا يزال الناس يقبلون الخطأ ويرفضون الصواب.

*    *        *

 

فعلى نفس الزهرة تقتات حشرتان

متساويتان بالشكل واللون وقوة الجناح

لكن هذه تجلب العسل للقفير

بينما لا تحمل تلك إلا اللسع

وكذلك تنبع من نفس الضفة ساقيتان

وهما تأخذان الماء من نفس النهر

ولكن عندما تجلب الأشهر الفصول المتغيرة

تمتلئ قصبات إحداهما بالسكر

بينما تبقى الأخرى فارغة تماماً.

*    *        *

 

وتبدو التربة للعيان واحدة سواء كانت غنية أم فقيرة

وقد يتشابه رجلان بمظهرهما الخارجي

ولكن قد يكون أحدهما ملاكاً أو صديقاً

بينما يكون الآخر شيطاناً أو عدواً لدوداً

وقد ينساب في نفس الوادي جدولان

ويجري ماؤهما بنفس النقاوة

ولكن من يتذوقهما وحده يعرف

أيهما العذب وأيهما المر

فلا قيمة لما يتراءى من جميع الأشياء تحت الشمس.

*    *        *

 

وعندما تمتحن معجزات نبي

ستهزم كيد الساحر

ومع ذلك تستقر دعاوى كل منهما على حد سواء

وهي تتعارض مع تجربتنا

وتحبط مشاعرنا الإنسانية الناقصة

فعندما كانت حرية بني إسرائيل على المحك

يلقى موسى عصاه دفاعاً عنهم

وكذلك يتناول سحرة فرعون البارعون عصيَّهم

فلم يكن ثمة فرق حتى تصبح عصاه أفعى.

*    *        *

 

وانظر كيف يقلد القرد الماهر

كل إنسان يراه عرضاً

وتراود الأوهام عقله المغرور:

"أقوم بهذا العمل مثله تماماً"

وهكذا غالباً ما يجثو المذنب على ركبتيه

ويرفع في المسجد شكواه الحزينة

حتى يتراءى في عينيه

بأنه ليس أقل مثقال ذرة من القديس المتواضع

أجل! ويصدق العالم هجومه المنافق.

*    *        *

 

رأيت رجلاً قد استلقى لينام

جنب نار في إحدى ليالي الشتاء الباردة

وواعجبا! لقد قفزت جمرة متقدة

من الموقد وحطت على شفتيه

فأجفل فجأة فزعاً

ولفظها ودمدم عالياً بألم

ودون أن يراها ابتلع ذلك المخلوق البائس

الجمرات تباعاً

لكن الأولى التي أحرقته رسخت وجودها بشكل جلي.

*    *        *

 

فلكي يحفظ الجسد مما يؤذي ويقتل

يستخدم الخالق الحكيم شعور الألم هذا

وقد ثبتت أحزان النفس المختلفة وآلامها أخيرا

إنها سلم نحو المباهج

وفي الألم الدنيوي ينقذ هذا الألم المعذَّبَ

ويجعل أولئك الأطباء الحاذقون الجسد معافى

ولكن عندما يدمر الحزن القاهر دِعَتنا

نفرّ إلى من يشفي الروح

والذي يحمل الحياة والموت بقدرته الفائقة.

*    *        *

 

يصلح الأطباء ما قد أصيب

ليريحوا المرضى من الألم الراهن

ويقلب الله الصرح المتفتت

لكي يشيده مرة أخرى

وكأنّ رجلاً قلب مسكنه

ووجد كنزاً حيث انتصب الكوخ

لكي يبني به قصراً

وكذلك عندما تنظف قاع النهر فانك تكبح الطوفان

ولكي تشفي الجرح تقشر اللحم الملطخ بالدم

*    *        *

 

ولكن كيف سنعّرف المطلق؟

كيف سنثبت كل وجه غض متغير

يطير إلى الأبد عبر نظرنا المرتبك

ويجعلنا منبهرين عندما نحدّق ومصابين بالدوار؟

ولكن غالباً ما يختبر الصياد بندائه

ليجلب الصقر الضال في متناول يديه

وهكذا عندما يتجول الناس في دروب الحياة الملتوية

قد يردد الدرويش كذلك الكلام البشري

وبمجرد كلمات فانية يعلم الحقائق الخالدة.

*    *        *

 

وأنت يا من تبحث عن الحقيقة

كن حذراً من المعلمين الكذابين

الذين ينتحلون اسم الدرويش ويرتدون اللباس الصوفي

لا لشيء إلا لكي يخفوا ذنبهم الباطني وعارهم

مثل مسيلمة الكذاب الذي تجرأ على الادعاء

بالكرامات التي لا يستحقها إلا النبي محمد

حتى جاء الجزاء في زمن الله

تعرف الخمرة الجيدة من الرديئة برائحتها

وفي النتائج وحدها

يظهر الصدق من الكذب.

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1459 الجمعة 16/07/2010)

 

في نصوص اليوم