نصوص أدبية

التيتوي / سلام كاظم فرج...

... كنت اعلم ان الرياح ستداعب صرحي.. وان الورود ستنمو بعد الف عام....... وسينساني الصغار.. وسأنام بسلام.......... (سلام........)

...............................

............................

..........................

أبو جبار الرجل القادم من ناحية البحاركان أسمه (فيصلا.) ولكن.....

 في ناحية اليوسفية لا أحد يعرفه إلا بكنيته..  اتخذ من بيع البطاطا وبيع الخضار الطازجة مهنة .. سحنته تميل إلى السمرة القاتمة.. قليل الكلام كأنه مريض.. يشكو من مرض مزمن في جيوبه الأنفية.. ولأنني  أعاني من ذات المرض أصبحت صديقه فكنت أحدثه عن قطرة الاوفتاميزن (ن)..أخبرني بصوت نحيل أن مرضه بدأ يزحف إلى قلبه.. وأخبرني إن الألف دينار سعر قطرة الأنف يؤثر على ميزانيته.. وان مردود ربحه من البيع يستنزفه إيجار  قطعة الأرض العارية التي اتخذها مكانا للبيع .. ولأنني لم أكن أفضل منه حالا ..

 فضلت ان لا أفتح الموضوع ثانية.. وكنت أحدثه  عن قرارات مجلس الأمن المرتقبة برفع الحصار....

.......................

 كان يجيد الاستماع لكنه لا يجيد الكلام.. فهو يميل إلى هز رأسه.. وأحيانا يرفعه إلى السماء كأنه يستدعيها ويرجوها.. يداه  نافرتا الأوردة  تشيان انه قد طعن في السن..  حين اقدم له سيكارة كان يشكرني  بوضع يده على صدره علامة الامتنان والرفض..

 زوجه ام جبار تساعده احيانا في البيع .. بل الاحرى  بشراء الخضار من البساتين القريبة باسعار بخسة كانت كأنها تستجديها من اصحاب المزارع.. هي أصغر منه سنا..

 واكثر كلاما وحيوية.. بل تميل الى الثرثرة.. كثيرة الشكوى.. لكنها تؤمن ان الله سيعيد الامور الى نصابها وسوف يعيدهم الى عزهم وهنائتهم ومجدهم.. هنالك عند اقاصي البصرة حيث البساتين .. بساتينهم الأكثر ألفة.. وعطاء..

...................

 

  أعتاد ابو جبار الهرم ان يصطحب معه جهاز راديو هرما مثله.. واطيء الصوت مثله..  يشغله عندما يخف الزحام وتخفت الاصوات... وتصبح الشمس عمودية ويقترب موعد الصلاة... كنت أمازحه وأسأله ماذا في جعبة راديوك.. ابا جبار من أخبار؟؟ فكان يبتسم ابتسامة باهتة.. ويقلب شفتيه امتعاضا.. ويرفع رأسه للسماء.. كأنه يسألها المدد..

........

.........

 بمرور الايام أصبحنا أصدقاء... وحين تغيبت عنه اسبوعا كا ملا علم من زوجه الثرثارة التي علمت من زوجي الثرثارة اني مريض.. فا جأني دخوله علي مصطحبا بعض فاكهة وطماطة وبطاطا مما بقي من بيع يومه ذاك..

 لا أخفيكم اني فرحت فرحا طاغيا  بمجيئه..  وأحسست ان ثلثي مرضي قد تلاشيا..قال لي بصوت واهن.. انا المريض... لا أنت.. ورفع رأسه للسماء..

 غلب علي المزاح فقلت له.. ابا جبار دع عنك الاحتيال.. انت شاب جسور وفي الملمات فاتك.. لكنك تمثل علينا وعلى أم جبار لتخفي مغامراتك.. قلبي يقول لي انك رجل فاتك لهج في الحب..

 انفرجت اساريره.. وضحك عن اسنان تهدم بعضها واسود بعضها.. وسمعت ضحكة منه كأنها نهنهة...

 قالت زوجه التي رافقته في العيادة حدثه عن حبيبتك اليهودية... حدثه عن عذاب القلب..

 حدثه عن الاهات.. حدثه عن الكتب التي انهكت ثروتنا.. حدثه عن البساتين الاليفة التي ضيعتها سوالفك المكسرة!!.. حدثه عن ماتيلدا.. وعن الاعتقالات.. حدثه عن المظاهرات التي كنت تقودها.. حدثه عن بدر السياب الذي كان صديقك.. حدثه عن جيكور وسعدي يوسف... حدثه عن حميد بخش والحزب... حدثه عن البعثيين..  حدثه عن القادسية التي دمرت بساتيننا واحرقت مزارعنا  وهججت بقرنا ونعجاتنا.. و دجاجنا... وشتت اولادنا..

 عند ذاك قال لها بصوت هامس خافت.. عيب يا امرأة.. الرجل مريض .........

...............

..............

 بعد ان انهت أم جبار شقشقتها.. أحسست ان الثلث المتبقي من مرضي قد تلاشى ايضا..

 فقمت من فراشي وعانقت ابا جبار  وقبلته.. وانتابني احساس اني قد عثرت على كنز ثمين.... قلت له .. انا اخوك أبا جبار... وأم جبار قلبها ابيض .. ولولا أحساسها الصادق اننا اخوة لما  نفضت كل المعلومات الخطيرة...

..........

.......

 علمت من زوجي الثرثارة انها وأم جبار قد تكاشفتا باسرار قديمة عن زوجيهما.. ووجدتا انهما يشتركان بتاريخ متماثل... لذلك لم تجد ام جبار بأسا في كشف المستور في زمن ... يؤدي كشف المستور فيه الى نهاية وخيمة مالها قرار..

.........

..........

 هامش عرضي..قد تلومني نفسي قبل ان يلومني أحد حين أنعت أم جبار بالثرثارة.. لم تكن أم جبار ثرثارة بالمعنى المتعارف عليه... بل هي ثرثارة بالمعنى السلطوي السائد في نظام مرعب... وكان السلطويون ينعتون المتكلم بالحقيقة ثرثارا.......هنا السارد يمدح زوجه ويمدح ام جبار.... 

 هامش عرضي ثان.. لولا الهامش العرضي الاول لما استطاع أحد من فهم ذلك... وتلك مشكلة لغوية عويصة..

 هامش عرضي ثالث....... انتهت القصة لكن ابا جبار حدثني في ساعة صفا وقد عدته يوما لمرض ألم به.. عن عشقه لفتاة يهودية زاملها في ثانوية العشار المسائية... وتحدث عن شغفها به.. واتفاقهما على الحب الابدي .. وحدثني عن الورود المتبادلة والرسائل الوردية والقصائد والكتب الغرامية والسياسية..!!

 ما تيلدا بقية من بقايا  العطر في الذاكرة.. وقد رحل  ابناء عمومتها جلهم.... تعودت ان تلبس الشال وتتدثر بالرقة والعفة والجمال.. لكنه الحب الذي أضحى محال.. احبت فيصلا بصدق واحبها فيصل بصدق.. فكيف السبيل للوصال.. كان ابو جبار يثرثر..

كنا نأخذ زاوية من زوايا الصف في استراحة مابين الدروس. اناجيها وتناجيني.... واحدثها عن صديقي بدر السياب.. ابن مدينتي.. وتحدثني عن بدر طويق قريبتها وزميلة السياب... فكنت اقول .. ويجمعنا البدران..ما تيلدا بقية من بقايا العوائل اليهودية  العراقية التي آثرت البقاء في العراق... ولم تتأثر بدعاوى هرتزل.. ولا بدعاوى هرتزل المضاد..

 قلت له... ابا جبار .. انت كارثة............. من يصدق ان ابا جبار الصامت يملك كل  هذا العمق وهذه الذكريات.... كأنني ذكرته.. رجع ينظر الى السماء.. ورجع صوته  للهمس..

دعاني ابو ما تيلدا... السيد يوسف  من خلال ابنته لوليمة غداء.. فارتديت اكثر ملابسي اناقة...وكان اليوم يوم جمعة... لمحت في عينيه ومضة حزن..لكنها آثر ان يخفيها.. ونحن نتناول الشاي.. قال لي.. ولدي فيصل انت ولد دمث الاخلاق وقد حدثتني تيلدا عنك كثيرا.. وعرفت انكما متحابان.. وانا لا إعتراض عندي.. لكن للتقاليد أحكام.. وللتأريخ أحكام.. ونحن على وشك ان نغادر.. والشكوك تحوم حول اليهود... ويشهد الله انا أحب البصرة و أحب المكوث فيها واتمنى ان ادفن فيها. لكن الامور تسير... عكس ما نشتهي.. لاحبا بابنتي فقط ولكن حبا بك انت ايضا.. لاتدعا الحب ينمو بينكما اكثر.. وتفارقا على محبة... سأنقل ابنتي الى مدرسة أخرى...  وإن كنت أفضل ان تنتقل انت.. لانك ذكر.. وتتحمل مشاق المواصلات...

عندها بكى ابو جبار.. وقال قلت له ياعم.. الامتحانات على الابواب.. لكني أعاهدك عهد شرف اني لن احدثها ولن التقيها حتى يفتح الله علينا وعليكم ...........

 من يومها يقول ابو جبار........... تعودت ان انظر الى السماء وأطلب المدد مزيدا من الصبر.........

 اما حديث التيتوي.......... فهي أحبولة أخرى نعتني بها رفاقي........ حين كنت أختلف معهم في التحليل لمسار الاحداث.. وتلك قصة ليست مهمة......... لكني أحتاج الى قطرة ميتافيزون (ن).. لأني أشعر انني سوف اتوقف عن التنفس...

 هامش أخير.. أقترح بعض الاخوة على ابي جبار ان تعالجه أمرأة مكشوف عنها الحجاب.. لديها القدرة على شفاء المرضى مجانا.. وقد صعدت بكلتي قدميها على صدره لانتزاع الشياطين من صدره... وكنت انا من بين الذين شاركوا في تشييع جنازته في اليوم التالي..

 هامش ما بعد الأخير.. لحد الان لم استطع ان افهم كيف يمكن لرجل تيتوي ...............

.................

...........................

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1462 الاثنين 19/07/2010)

 

 

في نصوص اليوم