نصوص أدبية

رجل يستعطف الكلمات! / محسن العوني

كما أحتاج الفرح لعلـّي أتقوّى على ندم تكاد مرارته تقتلني..أفزع إليك أيـّتها الكلمات.. يا ضمادة للروح.. يا سليلة الأنبياء والشهداء والصالحين.. فقد كنت متنفـّسا لصدورهم وملاذا لقلوبهم ومستودعا لما يجدون..أفزع إليك مستجيرا وأسألك أن توسّعي عليّ الأرجاء التي ضاقت وكادت تـُطبق على كياني وتأخذ أنفاسي.. أسترجع وجه أمّي تلك القريبة القريبة وأتذكـّر صورة أبي ذلك البعيد القريب..أستحضرهما وكأنـّي أودّعهما برهبة الفراق..كنت صغيرا وطائشا وغشيما ولم أكن أعرف..وكانت عائلتي رقيقة الحال وكنت متمرّدا على وضعي..تصوّر كنت أدفع والدتي بكلّ قسوة وكنت أخاطبها بطريقة أخجل منها الآن.. تصوّر وصل بي الأمر إلى حدّ رجم بيتنا بالحجارة في صباح العيد عندما وجدت نفسي في ملابسي القديمة بغير جديد ولا هدايا ولا لعب ولا حلوى من دون أطفال قريتي.. وهل أشد ّ من أن تكون صبيّا عاريا في عيد قريته.. طفل بغير طفولة..سُرقت منه فرحة العيد ومتعة لبس الجديد وأجواء الحبور والسرور؟!..

لقد حمّلوني بؤسا لم يكن قلبي يقوى على حمله مما دفعني في لحظة جنون وثورة إلى ذلك الصّنيع الذي يخجلني ويسبّب لي ألما لا أقدر على تحمله وأحيانا أقنع نفسي بأن ذلك الصبي لم يكن أنا ؟!..لقد كان ولدا آخر مختبئا في داخلي.. تصوّر والدتي التي أنجبتني ورعتني وأطعمتني دم قلبها.. أقابلها بكل ذلك العقوق؟! كم كنت شقيّا أعمى البصيرة.. إنـّي أدفع ثمن ذلك: أصعب دموع..كان والدي غائبا.. غيّب نفسه أم غيّبته الظروف..أم الأمران معا.. لست أدري.. لعلـّه اختار ذلك ووجده أسلم.. لست أدري.. لعل كبرياءه كان يمنعه من الحضور حتى لا نرى آثار الخيبة والانكسار في عينيه.. أبعده غيابه الذي سحقنا.. لو كان حاضرا لكنت إنسانا آخر  ولكنت وجدت في عينيه وصدره بعض ما يهديء من روعي وثورتي ويصالحني مع ذاتي وعائلتي وبلادي.. كانت والدتي تقول لي:«سيأتي وقت تتذكر فيه ما أقول لك وتندم على ما تفعل وستبكي بدموع تحرق القلب والجفن..؟!» صدقت يا من كنت أحنّ عليّ من نفسي.. أمّي، لقد رزقت بأبناء كم وددت لو كنت حاضرة فيرتمون في أحضانك ويقبّلونك ويعانقونك كما لم أكن أفعل.. يا أجمل الأمّهات.. لقد أطلقت اسمك على ابنتي الوحيدة أصغر الفلذات وأحبّهم..فليتك تغفرين لي..إنّ قلبي ينتفض كالطائر الذبيح.. لكنـّني كنت صغيرا وغشيما وطائشا وشقيّا وكانت ظروفنا قاسية كالحجارة التي كنت أقذف بها أو أشدّ قسوة.. إنـّما كنت أرجم الظروف التي لم تنصفنا أنا وأنت..لو تعلمين.. إنـّه الواقع.. إنـّها الحقيقة.. لم أكن قد بلغت من النـّضج ما يجعلني أدرك أني وإيّاك ضحايا واقع مرير.. كم كان جديرا بنا أن نمسح دموع بعضنا.. ولعلّ أبي ذلك البعيد القريب كان ضحيّة هو الآخر.. كان غائبا وكأنـّه يطلب الرزق في أقاصي الأرض أو كأنهم كلـّفوه بأن يذرع الأرجاء.. لقد كان غيابه هائلا وموجعا..

بعد هجرتي وضربي في الآفاق البعيدة وجدت نفسي تعود إلى منابعها ومنابتها وأدقّ تفاصيل ماضيها حتى أنـّي كنت أقضّي الساعات وأنا أسترجع الأوقات السعيدة القليلة التي قضّيتها مع أبي وأمّي وأنا أضع رأسي على ركبتها وهي تصبّ الشاي لوالدي أو تخاطبه بودّ أو يتحدّثان  عن مستقبلي وكان والدي يفكـّر في بناء دار كبيرة ننتقل إليها حين اكتمالها حتى تسهل عليّ  الدراسة لأنها قريبة من المدرسة وكنت كثيرا ما أذهب إلى قطعة الأرض التي ورثها والدي لأجمع الحجارة وأحلم ببيتنا الشامخ المشرف على القرية..كانت أحلاما صغيرة ممكنة التحقيق.. وكان تقلـّصها وجعا عميقا في النفس.. لقد بتّ أحبّ هؤلاء الذين يحبّبونني في بلادي ويذكـّروني بواسع رحمة الله وقبوله توبة من تاب وفرحه بذلك.. لأنهم إنـّما يصالحونني مع ماضيّ ويفتحون أمامي آفاق الأمل ويقيمون الجسور بيني وبيني وقد وجدت في كتاب الله عزّ وجلّ الكلمات التي كنت أبحث عنها وأفزع إليها أوقات الشدّة والأزمة وأعجب كيف كنت ضالا عنها..هكذا تحدث مهاجر ضرب طويلا في أرض الله وعاد محمّلا بذكرياته ومعايشاته وتجاربه تتملـّكه الرّغبة في أن يجدّد حياته كل يوم بعد أن تخلـّص من عقدة الذنب ومرارة الندم التي كادت تدمّر أعصابه وحياته.

 

محسن العوني

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1465 الخميس 22/07/2010)

 

في نصوص اليوم