نصوص أدبية

مياه ضحلة / عبد الفتاح المطلبي

رؤوسنا الصغيرة أثناء طوافنا على حافات المياه في النهر الذي بدأ يغور ويضمحل مع مرور الأيام أن هناك من منع تدفق المياه إلى النهربسبب الحروب ومشاكل الأستحواذ والعدوان بين البشر الذين يسكنون قريبا منا على اليابسة، إذ اضطر الناس لكريه وتنظيف قاعه بين آونة وأخرى ومشاكل أخرى تتعلق بالجيوبوليتك والسياسات الإقتصادية بين بلدان الشراكة في النهر،و طبعا نحن الأسماك نشكل أحد مكونات تلك السياسات لذلك فالأمر الآن على المحك إذ انحسر النهر ولم يتبق لنا إلا بركة صغيرة في وسط النهر الذي جفَ سريعا ولكننا عندما كنا نعيش جميعنا في النهر كبيرنا وصغيرنا، كل يعرف حدوده ومنطقة أمنه، لا يعقل أن يذهب صغارنا إلى العمق حيث الكبار هناك لا يتورعون عن ابتلاع أيا كان، فالنهر مناطق نفوذ ومحميات، أحيانا يفاجأ الجميع بعدو غاشم مشترك فنسلك جميعا، صغارا وكبارا طرق الهرب لآنها الوسيلة الوحيدة للبقاء لذلك لا منجى إلا بالوصول إلى الأماكن التي لا يستطيع ذلك الخطر الداهم الوصول إليها، أحيانا نتقبل الأمر عندما يُبتلع بعضنا ويهرب الباقون، نحن الصغار لا نسبح في النهر فرادى، ذلك يشكل خطرا علينا، بعض الأفاعي لا تفضل ابتلاعنا وتبحث عن ضفادعَ سمينة تلتهما بروية، كل تلك أخطارُ صغيرة بالنسبة لنا إذ أن الخطر الأكبر هم كبارنا نعم كبارنا فهم يبتلعون الصغار بشهية وشراهة قل مثيلُها ولا يتذكرون أبدا إنهم كانوا في يوم ما صغارا مثلنا لذلك فنحن الصغار نتجول كجماعات في المياه الضحلة على شواطيء النهر حيث لا يستطيع الكبار الوصول إلينا بسبب حجومهم، هذه المرة يقال إن سدا عملاقا بناه الأتراك وأخر بناه  السوريون منعا الماء عن دجلة تماما، شركاؤنا وأعداؤنا البشر على ضفتي دجلة مشغولون بحروبهم فيما بينهم ولا يهمهم موت النهر الذي إذا خنقه الأقوياء متنا جميعا نحن وهم،، الآن لا ندري ماذا نفعل وقد انسحب ماء النهر ولم يعد هناك متسع للهروب، نحن الآن نعيش في بقايا مياه منسحبة من النهر، الذي جفَ، إنها بركة ليست بالكبيرة، لقد كنا نقطع حافاتها سباحة بسرعة كبيرة،لها حافات ضحلة تنحدر قليلا  قليلا نحو العمق وعمقها لم يكن كافيا ليختفي فيه الكبار طويلا وهذا الصيف اللاهب قد بدأ يضيق من حدودها  سريعا ويقلل من عمقها، في البداية تملكنا نحن الصغار رعب لا يوصف لمجرد كوننا نعيش مع الكبار في هذه البركة الصغيرة لذلك ترانا دائمي الهروب والتجوال، وعلى حافات البركة هناك أيدي صغار البشر تتخطفنا وأحيانا تنجح في ذلك لكننا أسرع منهم وأكثر انزلاقا وتملصا إلا إن جلّ خوفنا من كبارنا الذين  هم في العمق، وبما إنهم في عمق البركة  فإنهم لا يشعرون بالخطر لذا تراهم يهاجموننا باستمرار ويبتلعون بعضنا وعندما يفعلون ذلك ينكشفون لأناس  كانوا دائما  واقفين على حافات البركة بشباكهم ينتظرون (لبطة) كبيرة تغريهم بإلقاء شباكهم في البركة  إلا أن كبارنا لا يعون ذلك ولم تستطع نواياهم الشرسة واستسهالهم لأبتلاعنا أن تنبههم للخطر الدائم الواقف ليس بعيدا عنهم على حافات البركة  لذلك فهم  أحيانا يجازفون بإظهار زعانف أذنابهم الكبيرة في لبطة كبيرة فوق سطح الماء ولم نكن نحن السبب في ذلك ولكنهم كانوا لا يفقهون شيئا من أولوياتهم، يعجزون عن رؤية الوضع كما هو فوق  لذلك فقد ألقيت  شباك الواقفين من كبار البشرو أطبقت على جميع مياه البركة حيث لا مناص من العلوق في الشبكة المحكمة  التي كانت عيونها كبيرة لا تصطادنا نحن الصغار إلا نادراو هكذا أخذ الكبار الذين كانو يبتلعوننا أخذة واحدة ونجونا من خطرهم رغم أنهم أسماك مثلنا  تماما بل هم آباؤنا وأمهاتنا وعشيرتنا ولكنهم كانوا يبتلعوننا دون أن يفهموا طبيعة علاقتنا بهم إنهم أغبياء، نعم مجرد أغبياء ليسوا كمثل البشر الذين اصطادوهم وبعض منا نحن الصغار معهم  لقد أعادو الصغار العالقين في الشبكة إلى البركة فهم يعتقدون إننا لا نساوي شيئا، كان فرحا لا يوصف احتفلنا تلك الليلة بعيد الخلاص من الكبار الشرسين وبأن البركة التي كانت  تضيق علينا باستمرارو يقل الهواء الذائب فيها هي لنا وحدنا نحن الصغار  المسالمون ونمنا تلك الليلة بهدوء شامل وبأماكن أكثر عمقا ودون وجل أو خوف  وعندما مرت أيام قلائل وأصبحت البركة  صغيرة جاء جيش من صغار البشر وهم يعلمون جيدا إننا في البركة، كانوا يفكرون بخبث  لكننا كنا نغوص بعيدا في عمق البركة حيث لا يروننا ولا يستطيعون صيدنا إلا أنهم كانوا أكثر سوءا في نواياهم  من كبارهم، لقد تصرفوا بخبث هائل، نزلوا جميعا إلى البركة  بأقدامهم الصغيرة العارية ثم خاضوا في الماء وأثاروا الرمل والطين، أصبحت البركة بلون أحمر داكن فلم نعد نرى بعضنا ولما كثر الطين الممتزج بماء البركة لم نجد هواء لغلاصمنا الصغيرة لنتنفسه لقد أجبرنا على الطفو إلى السطح حيث نستطيع أن نتنفس قليلا من الهواء الجوي الملامس لسطح الماء  وأفواهنا الصغيرة تتحرك بانتظام  مفتوحة .. مغلقة .. مفتوحة..مغلقة.....نريد أن نتنفس وبغير ذلك نموت لذلك لم نعد نفكر بهم عند لحظة الإختناق وكانت رؤوسنا الصغيرة كلها  ظاهرة فوق سطح الماء الغريني، راح صغار البشر الذين يمتلكون خبثا أكثر بكثير من كبارهم يلتقطوننا واحدا واحدا  بأصابعهم الصغيرة والقوية  وحيث أننا كائنات صامتة لا نصرخ ولا نحتج  كانت الأمور تجري بانتظام وبهدوء شامل إلا من جلبة صائدينا الصغار وعندما أوشك  صغار البشر أن يقضوا علينا وحين أوشكت البركة الصغيرة أن تضمحل  هدر الماء من حولنا وجرفنا بعيدا حيث لا يستطيع الصغار ولا الكبار أن ينالوا منا وكان ماء جديدا، لقد فتح السد الذي كان يحجز ماء النهر ولكننا لم نكن فرحين لقد ذهب منا الكثير وفي الصيف القادم سيسدون النهر من جديد وسنكون نحن الكبار وسنجد صغارا مثلنا لنبتلعهم وسنجد كبارا من البشر يتصيدوننا وسيجد صغارنا الفرحون صغارا من البشر ليعكروا ماء بركتهم ويتصيدونهم واحدا واحدا ..ثم يفيض النهر من جديد .

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1467 السبت 24/07/2010)

 

في نصوص اليوم