نصوص أدبية

الســــــــر/ عبد الفتاح المطلبي

مطلقا العنان لشرطيه الداخلي الصارم ليجري دورة تفتيشية دقيقة يتفقد خلالها أدوات صبره وتحمله، يتحسس شرطيه الداخلي كل مكامن الخلل المحتملة وعندما يتأكد أن كل شيء في مكانه وإن التحصينات الكثيرة التي ترادفت كمتوالية من الجدران في فضاء نفسه المغلق، أنها لا زالت صامدة يواصل ارتشافه لشايه ببطيء ثم يتناول كتابا عن العشق كان قد أهداه له صديقه قبل أن يختفي ذلك الصديق في فجوة زمنية  ليس لها مكان، ذلك لأنه يعرف جيدا يوم اختفائه ولكنه يجهل مكان ذلك الإختفاء وهذا عادة يشمل جميع المختفين هذه الأيام، ينام مرخيا عضلات جسمه المشدودة طوال اليوم.

صباحا يتفقد عدة صبره سريعا ثم ينظر إلى سحنته التي تظهر في المرآة المعلقة  على الحائط جنب الباب الموارب قليلا، يقذف جسده إلى الشارع وقد عقد العزم على أن لا يُستفز أو ينهار إلا في بيته وفي حمامه الذي أطلق عليه اسم حمام الإنهيار، لذلك عندما قرر قبل أربعة أشهر  تشييده في الزاوية البعيدة من حديقة بيته الصغيرة حرص على أن يكون حماما مريحا يصلح للجلوس الطويل في حالة أزماته النفسية الحادةو حرص أن تكون نافذته الصغيرة محكمة الغلق وكذلك بابه الخشبي المؤطر بشريط من المطاط لمنع خروج أي صوت في حالة انهياره وهياجه المفاجيء الذي ربما تتخلله بعض كلمات اللعن والشتيمة الصريحة، أنتم لا تعرفون أسباب تحمله لنفقات مكلفة لمجرد بناء حمام إضافي في بيته لكنه فعل ذلك دون أن يتردد عندما شاهد التلفاز يعرض مراهقا ضئيلا يعترف أمام المحقق اللبق ويقول إن أباه كان يشتم الحزب والرئيس عندما يشاهده على الشاشة الصغيرة في البيت وفي نهاية كلام المراهق انبرى المحقق اللبيب يبين للشعب الع..ظيم كيف إن هذا الشعب الكر..يم بأطفاله وشيوخه وشبابه ونساءه يضحي بالغالي والرخيص من أجل سيادة الرئيس وذكّر المواطنين ب (حسن كرمود)  الرجل الذي سلم ابنه للسلطات لكي تعدمه لهروبه من الخدمة العسكرية، لحظتها  أصيب برعب شديد وأعطى لنفسه الحق ببناء حمامه الجديد،كان الرجل محقا في تحمل تكاليف بناء حمامه المريح الذي يصلح للجلوس طويلا يصرخ كيف يشاء بعيدا عن آذان أولاده الصغار،استمر هذا المونولوج الداخلي طوال الطريق إلى دائرته، اعتاد أن يسلم على بواب الدائرة بهدوء شديد يصطنعه اصطناعا  وهو يلاحظ قبل عشرين خطوة من الباب كيف إن بواب الدائرة يتفحصه بدقة، يفتش عن ثغرة أو حجر قد انهار من جدران صموده،كان بواب الدائرة رفيقا حزبيا من النوع الإستثنائي لم يألف الصلح مع ذاته رغم انتسابه لسلك الحزب من مدة قصيرة، يصل قريبا من البواب الجالس على كرسيه البلاستيكي،

- السلام عليكم .... يرد عليه البواب

-  ..كمُ.. السلا....و هو يلصق عينيه الفاحصتين على قفا الرجل،

-    كالعادة اتجه الىمنضدته  مباشرة  والتي كانت تتوسط الغرفة العارية من الستائر والمغطاة  زجاجات نافذتها بورق جريدة  الثورة المائل للصفرة والذي لا يحجب شيئا من نور الشمس، قرر هذا اليوم أن لا يستجيب

 لاستفزازات المدير المتكررة مهما قال ومهما فعل  خصوصا تلك الكلمات الخبيثة التي تحمل المعاني الخبيئة  بين طياتها، تفقد دفاعاته النفسية مجددا، راح يقلب بعض الأوراق  من تلك الكومة أمامه التي عليه أن   يصنفها  حسب مواضيعها ومرجعياتها، سمع طرقا خفيفا على الباب، مد البواب رأسه بعينيه الجاحظتين قائلا

-المدير يريدك...

-ها  المدير، نعم ...نعم

وقف على قدميه تفقد رباط حذائه، طرق الباب،

-تفضل استريح أستاذ

أصابه الذهول  لم يحصل أن عامله المدير  بهذا اللطف

-شكرا سيدي المدير.

دخل البواب حاملا صينية الشاي، قال المدير؛

-تفضل اشرب شايك وبعد إن فرغ من شرب الشاي قال  له المدير

-هذا طلب استدعاء من مديرية الأمن

- الأمن؟

-نعم الموضوع بسيط، استفسار وترجع

-همم...هممممم، أأذهب اليهم الآن؟

-لالا غدا الساعة الثامنة والنصف صباحا، أمام الملازم غازي ضابط أمن

المنشئات.

-حسنا سيدي، ودع المدير بابتسامة وادعة والتي تخفي ألما مريعا في أعماق روحه الوجلة والمتوجسة، راحت الأفكار تتساقط عليه  كأحجار ثقيلة، الأمر انتهى، فكر إنهم ربما كشفوا سره، آه اللعنه، رغم كل احتياطاته هاهم يكشفون سره، جلس على كرسيه واضعا رأسه بين راحتيه، راحت أفكاره تتناسل بشكل شيطاني عبر تلافيف مخه أيمكن إنهم قد سمعوا أفكاره  أيعقل أن تسمع الأفكار، كانت حرارة الغرفة لا تطاق في هذا اليوم التموزي المتطرف، شعر أن نعاسا يهوم على عينيه، آه يا إلهي، أنا نعسان، وتثائب بقوة،في اللحظة ذاتها كان بواب الدائرة في غرفة المدير

-لقد وضعت له حبة المنوم في الشاي سيدي المدير تماما كما أمرت  وقد شربه أمامك

- حسنا عندما ينام على طاولته إعلمني.

راح الرجل يغط في نوم عميق، رأى نفسه وهو موثق على كرسي في دائرة الأمن ورأى الملازم غازي وهو يكشف له أسراره واحدا، واحدا يستلها خيطا، خيطا من داخل روحه، في تلك اللحظة تحسس جدران صموده فوجد أنها قد انهارت، جأر صارخا،فليسقط الحزب، ليسقط الرئيس، أنا ...أنا، وراح يصرخ، أحس أن سائلا باردا قد بلل وجهه المتغضن، فتح عينيه، كان المدير بقف أمامه شامخا متطاولا،

- ها أستاذ؟، فكر إنهم ربما سمعوا صراخه  بشتم الرئيس وهو نائم، بقي حائرا،

- هي دائره، لو مستشفى، ( ليش نايم؟)، كان تقريع المدير قد نزل عليه كالماء البارد، آه الحمد لله لم يسمعوا

- أنا تعب ياسيادة المدير.

-تعبان( تروح تنام في بيتكم) هل فهمت، إنت مطرود، إيا ك أن تأتي للدائرة، هيا اذهب.

قذف بجسمه الى الشارع مهرولا الى بيته حيث حمامه المريح، غير مصدق إنهم لم يسمعوه وهو يشتم الرئيس في النوم، وفي غرفة المدير ضحك البواب عاليامع الرفيق المدير،

-  الم اقل لك؟ الأمر بسيط للغاية، كان علينا فعل لاذلك منذ زمن بعيد، شكرا لأفكارك، سأكافئك.

لا ياسيادة المدير، أنا بخدمة الحزب,

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1470 الثلاثاء 27/07/2010)

 

 

في نصوص اليوم