نصوص أدبية

من طقوســـــــــــ الفنان*

 كانت الغيوم تجري متسارعة فوق الهضاب الممتدة خارج النافذة من سياط النفخات الرياحية المجنونة، وكأنها تصرعلى الإطاحة بباب الكوخ. التي بدأت تختض بشكل مخيف وتعالى أزيزها منسابا بين عزف المزلاج الحديدي وإيقاعات طبول النافذة بائسة الأحكام . استفاق لحظة من ذهوله وعاد يجر حفرتي عينيه  بصمت الفراغ إلى داخل حجرته . وقد تغطت أرضيتها بلوحات ممزقة وأخرى غير مكتملة وقد تناثرت على الحواف وفي الزوايا . رفع رأسه نحو الجدار الوحيد الناجي من الانفطار الجدراني العام، وتكريما لاستثنائية تحمله، وشحهُ بلوحته التي ظلت زمنا طويل خارج شهوة التغير. انتصفت فيها تلك العجوز طاعنة السن ومرعبة التفاصيل حيث نقشت بتجاعيد وجهها الخريطة التاريخية بإبرازها الدقيق لمأساة البشرية مند أول طوفانها في بحر الحياة . وهي متشحة بالسواد ومرصعة ببشرة رمادية باهتة، افترشت تراب الأرض بينما اثنت قدميها ممسكة بإصرار عنيف عود الثقاب، وقد دفعت به إلى عمق فوهة سجارها.

 تسمر أخيرا إلى لوحته البكراء من أيام طويلة وهي ساكنة فوق محملها بوداعة الحمل الوليد . تنبه إلى السجار وكأنما سمع استغاثتها وتوسلهـــــــــا بإنهاء وظيفتها، فعاود إشعالها من جديد. سحب المنفضة القريبة أليه فتهاوت قطوفها متطاوحة إلى الأرض من شدة الازدحام . ثم قفزت القطوف ارتطاميًا بعيدا عن مكانها مستفزة بخبث باقي المنافض- التي تضج بها الحجرة -على المعارضة الطيرانية . وهبت فجأة ريحاً عاتية تسللت من بوابة ونافذة الكوخ بسهولة طايرت معها كميه كبيرة من موقده الذي لم يوقد من أسابيع رغم البرد القارص . لكنه يصر على التكاسل وليس في نيته اختراق وحدته وصمته من اجل أن ينزل من صومعته الجبلية لإحضار الحطب واستجلاب الدفئ ..

توقفت الرياح عن نفخها مستعيضة بالأمطار المنهمرة بعنف هيج جنون البرق والرعد . اللذان فشلا في إخراج الرسام من نضوب مخيلته المتحجرة بعد التصحر الطويل الذي فرض عليه أن يشعر بخفة وجوده التي لا تحتمل...

عاود النظر من جديد خارج نافذته مغيراً اتجاه شروده إلى الجهة المنظورة . كانت الشجرة التي تقع في أقصى اليمين منزوعة الأوراق بالكامل، وقد انكسرغصنا صلبا جديدا منها بفأس الرياح العاتية . نظر إلى اسفل جذعها فرأى الأوراق المصفرة الذابلة، وقد التاثت بالطين وعلى جانبها كان كلبه المحتضر متهاوياً داخل بيته الخشبي الصغير. بينما انطرحت قطعة من اللحم اليابس قبالته من أيام وابتدأ الآن يصدر نباحا يدل على مرض ثقيل الوطأة . حاول أخيرا كسر طوق الصمت داخل تهاوي اشيائة،رفع فرشاته المتيبسة منذ أيام حل شعراتها بالماء وامسك تشكيلته اللونية الجافة أيضا ودعك يبوستها بيبوسة فرشاته محاولا استعادة بقايا حياتها . وبذهن شارد ووجها بلا ملامح بدء يلطخ القماشة بالأسود الفاتر بمسافات سوداوية غير متماسكة ومشتتة المكان وكأنها قطرات مطر عابثتها الرياح . وخلل الفراغات بلون بني ادخله على شكل أشرطة متعرجة داخل فراغات السواد . ثم خطًا بمساحة إصبعين عرضا في أعلى اللوحة أصر بخلقه مزرقا . وبنفس المسافة باللون الأخضر فالرمادي حتى لامست أخر هذه الخيوط اللونية سطح أول البقع السوداء . غمس أخيرا فرشاه باللون الأحمر وظل يضرب بنقاط حمراء بين هذه الألوان .

كان الجرح الذي نقش في أعلى فخذه الأيمن نتيجة ضربة فأس طائشة وهو يحاول الاحتطاب قبل فترة طويلة قد التهب نتيجة الإهمال . إذ اكتفى الرسام بلفه بخرقه بالية جفت الدماء فوق سطحها وتوسع الجرح تحتها وهو لازال يصر على التغافل التام لعالم أشيائه . تمادى كثيرا في الكسل وحاول أن يطرد بأسه وسأمه بسأم الأشياء البشعة التي تحيط عالم حجرته واستغنى عن الاستحمام لأن البرد اكثر من أن يحتمل داخل حيز جدرانه. وعلى الرغم من انه ملتف ببطانيته الى أن البرد مارس عليه سطوته ومع كثرة اللفافات التبغية التي يستهلكها اصبح صدره يعزف ألحانا سعالية مرعبة مزدوجة البرد والدخان . ولخنق اخر أنفاس النشاط اعد لنفسه صحيفة معدنية استخدمها سابقا بصفة مخزن صغير للمادة التبغية ومع نفاذها صار يستخدمها لقضاء حاجته كي لا يضطر للذهاب إلى بيت الكنيف القذر. حيث سدت آلته التي تصرف المواد الغائطية الثقيلة والبولية ذات الرائحة الزنخة واصبحت رائحتها لا تطاق . فشعر بأن الصفيحة انظف منه بكثير وفوق ذ لك توفر له الجهد والوقت . لكنها تعط بالرائحة العطنة وقد زادت الآن لأنه استخدمها منذ وقت قصير..

سمع نبحة مرتجفة من كلبه الهرم تبعها بنبحة عالية اكثر ارتجافاً وبدأت نباحاته تتباطأ رويدا رويدا نحو هاوية الفراغ . أصاخ سمعه قليلا وعاد ناظرا من النافذة . كانت الأمطار قد توقفت خارجا ولف فضاء الحجرة سكون رطب . حيث البوابة تعبت من الرقص فقررت إنهاء الاختضاض وهز الطقطقات وكذلك فعلت النافذة . قال في نفسه بعد عدم سماعه لنبحة جديدة : وداعا يا صديقي الوفي لقد آن لك أن تنفق فوق ضفاف بحر الحياة بشراع الموت الغريب .

أعاد تسمره الى عمق لوحته شعر بذهول عجيب فقد الاتصال تماما بعالم أشيائه . أراد أن يضع إطارا للوحته غريبة المحتوى حرك فرشاته دون أن ينظر أليها فلا يزال مستغرقا في اللوحة. ومن غير أن يشعر غمسها بالصحيفة ورسم إطارا خرائياً. وبعد إنجازه التف في بطانيته وغط في نوما عميق وهو لا يزال جالسا أمام لوحته ....

 

 

 (وسيم بنيان)

26/1/2008

(زفارتة راوتر،لاهاي)

......................

*: هذه القصة ضمن مجموعة قصصية بنفس العنوان الرئيسي أعلاه، ستنشر تباعا.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1085  الاحد 21/06/2009)

 

 

في نصوص اليوم