نصوص أدبية

شذرات رماد / حسين عجة

قصبة في نعاس ميسان، عند شاطيء دجلة، مقابل المركب الغرقان حين كان غرين النهر يتمازح مع محار الرماد والغبطة، جنيات البحر وأسماك الغربة التي لا تنام ولا ترقد.

كانت تهم في السباحة عارية كما خلقها مسير الأكوان، زهرة عباد شمس تدور، تتلفت كلما دار وتلفتَ بذخ السماء، في الشروق والكسوف، عند صلاة الفجر والغروب؛ جرة فخار، كرستال حر وخالص كطلعة الأطفال في عيد الفطور والعيد الأكبر.

خبز ساخن، لفات صمون، عطر نعناع، ما زلتُ أشوف يدها ممدودة نحو فوهة التنور.

تغيرت عذوبة الصيف، نسائمه العليلة فوق السطوح، أغاني الحمري والصبور في الأهوار، جاء برد شباط، جلة تكسر العظم، كما كان يحلو لها تسمية الأشياء، ضاحكة، في باحة الدار من صخب الأولاد، مجانين ينزلون ويصعدون طوابق الخوف من الأمتحان، آخر السنة، نهاية العام، بكالوريا الحصبة والجدري، فيزياء الخردة، محفوظات أبي العتاهية السكران،

جغرافية القحط ومناخات الصحراء، جبر الخوارزمي المؤرق بقطر المربع وضلع المثلث المكسور، تاريخ التتر، هولاكو وغزوات نابليون، وثالثة الأثافي : كيمياء القدر الساخن والبخار في بيت واط، سقوط التفاحة من غصنها، نزهة نيوتن ورهطه، جاذبية الأرض وما خلقت لشعوب المعمورة من أحلام صوب الأفلاك المنسية، وأثير الساعة الخامسة والعشرين من العذاب.

في مخيلتي، حين تغادر حوزتي شامتةً ذاكرة الأعمار، أراك تطرق الباب، برقة، تعبر المجاز الطويل، تقول مساء الخير أو صباحه للقاطنين معي في منازل الفقراء، تجلس تحت شجرة الليمون الذابلة، قبالتي، وما بين الجد والمزح تكتب على صبورة خشب سوداء : سنكون من كبار علماء القرن القادم.

 

(2)

أما زلت في الليل المدلهم، مع الضباع تمزق لحم الوطن الواحد، تتذكر ثانوية العمارة، شارع المعارف، محلة المحمودية وحوانيت الصابئة الملائكية؟ رزاق على ضفة الروح الضائعة، تحوم من حول شيخوختي أشكال الفتوة، تلك التي غازلتنا بلغاتها ولهجاتها الفضية الكريمة، حين كان الصمت يملأ بحيرات العالم ويسهر حارساً على كنوز أسماكها وحكاياتها الملونة.

رزاق أين الغرين، ماذا فعلوا بالملح والزاد، بالعشرة والمقاهي الصاخبة، عطر مساءاتها وزوايها الأدبية، عندما كنتَ تعبر جسر الكحلاء، المشرح، قادماً والقصائد كجرس المحار الحي تلهث في جيوبك عطية، هدية للتو تلقفتها من فهوة التنور السخية؟ آه أكتب والنفس المقطوع في القطب الشمالي ينزع لحاء أصابعي المجمدة، في الصيف، في غرفة الخدم، في الطابق العاشر، في مدينة الأنوار المطفية في عيني الساهرة.  رزاق، تخيل ثلاثة عقود عبرت وميسان مشدودة على خاصرتي، كما تشد امرأة سوداء، أفريقية المنبع رضيعها خلف ظهرها بصرة قماش بهية الطلعة والمشية، ثم تجوب مدن المعمورة غزالة تركض في الحقول المهجورة.

 

(3)

بيانو يشرع بالعزف في عزلتي

ورق أبيض تتعانق على رمل سواحله

شيخوختي وفتوتي، ذات الجرة الفخارية

المتمايلة كخصر والدتي، حاملاً في شهرها الثامن،

ودجلة الشتاء المعربد، الغرين، عباد الشمس والإلتفاتة

الناعسة، ميسان وجسورها المعلقة بحبال مخيلتي، كلها

لملمتها بعجالة قبل آذان الفجر، إليك سيحملها بريد الغربة

إذ ما بقيت يد تضع من فوق المغلف الطابع، إذا ما بقيت يد

تتلقف كراحة يديك هدايا التنور المشتعل.

ولا تظل مخفية تحت هالة من النسيان والبرد القادم.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1473 الجمعة 30/07/2010)

 

 

 

في نصوص اليوم