نصوص أدبية

ثياب عنقودية / حسين عجة

لتنظر لتعثر خطوات الخارطة، وستفهم لماذا بَقيتُ طيلة الليل ساهراً بالقرب من البحيرة؛ هناك امرأة كانت تريد شرب ماء عكر، هي وأطفالها الثلاثة، حين شرعوا بقطع الطرق ومداخلها المرئية بالكاد.

في قربتي لم تكن سوى بضعة قطرات رفعتها نحو شفافهم المشققة ورعب عيونهم في وضح النهار؛ سيدتي ما الذي حل بكم في مطلع هذا القرن، أين أب الأولاد أو الجار يقاسمكم فواكه الصيف؟

محى الصمت دفاتر الفراق التي كتبتها بيدها قبل أن يقطعها منجل الأعداء؛ حاول ولدها الأصغر، وحده من بين أشقته كان قد دخل مدرسة القضاء على الأمية، الدمدمة بحروف مبتورة، مقطعة الأوصال هي الأخرى، حتى يمرر نحوي بضعة أشعة من الفجيعةِ. كان بلداً يحمينا، مهما كانت سعة الثقوب في جيوبه المترامية، قالت السيدة وبحة صوتها، الغريبة عن تلفتاتي المذعورة، قد جلبت كالمرآة أمام عيني المطفأةِ طفولتي بعري طينها ولعثمتها الرفيقةِ.

لا تتحركوا من هنا، سأرجع حالاً ومعي بغلة تناطح وعورة الدرب، بدل سيارات الإسعاف الحكومية، وسترون كيف تترجرج وتطفح المياه من صفائحها المعدنية، ولكِ، سيدتي، لن أنسى شراء ثوباً ووشاحاً ربما، عوضاً عن ملابسك الجليلة التي تقاسمتها، قطعة بعد قطعة، ضباع البلاد الهائجة، لكي تكون مخدةً وثيرة لمساند ظهورهم المعقوفةِ، قرون غضاضة قديمة.

 

(2)

كان جمال المكاتب، شعر النساء الأشقر، الدولارات الخضراء، والرطين بلغة أخرى غير العربية، ما أغوى علية القوم على منح الغزاة صكاً على بياض. حين قلت أنا كلا، والقاعة مكتظة بالشهود، كان صدى كلماتي يرتد عليَّ وكأن الجدران التي يرتطمُ بها صوتي قد غلفها بناة المستقبل بقطع ثقيلة من الفلين. تعالى الضحك والشماتةِ العريقةِ. حدثنا حينها، نحن أبناء الجالية، الرجل الذي كان يجلس وراء الطاولة كضيف، وهو من أبناء بلدين، عن ضعف النقاط في المنطقة : الحرب قائمة لا محال، إذا لم يكن اليوم فغداً، علينا الركض للمشاركة بغنائمها الطرية : الكعكة. للمرة الأولى، رأيتُ وسمعتُ أحدهم يطلق اسم العجين على الوطن. لن يسقط الطاغية من تلقاء نفسه. كانت تلك مسرة النقاش الوحيدة والتي لم تدم طويلاً، فيما فاجأ منظم الحفلة الجميع بأعلانه : أنتهى وقت القاعة المؤجرة.

 

(3)

مفتاح العشق لقاء، هوة تفصل ما بين ضفتين لقيطتين من صنع الطبيعة تعبرهما الصدفة. رددتُ على مخيلتها الجامحة، متى؟ هنا في نفس الموقع الذي سلبنا الكسوة، الإناء الذي كنا نشرب منه المياه العكرة، والحلوى التي كنا نطعم منها الأطفال قبل أن تداهمهم الأشباح في الغرف الموصدةِ.

رَفعَتْ هي، حين كنتُ منغمراً بقطع أوراق الماضي، تشذيبها، ورمي الفواصل الشاحبة عن أغصانها، من تحت الغطاء الذي يستر حسنها، أقمار عينيها والتفاتة عنقها، متى سيعود البكاء الصافي لعيني، متى ستأخذنا لنزهة لا تحاصرها خوذ رمادية، مللتُ من شحة المياه، مللت من تراكم العفن في ذاكرتي، مللت من النعوش تحتوي الشارع والمنزل، مللت من قحط الكلمات الحبيبة.

تكلمتُ للحظات مع خيوط جبهتها المغضنةِ، فتحت لها ثانية راحتي لكي تتنفس، ضممتها إلى الوبر الأبيض الذي أجتاح في الغربةِ قصائدي؛ خذي الصينية الأكبر، لتبحثي في زوايا الدار عن شمعة، عن عود ثقاب، عن لوحة خشب نائمة تحت شجرة النبق، لنبتسم سوية، ما أن تدق صفارات الإنذار، ولنخرج المزهريات الموروثة من النفق والأسوار التي طوقوا بها غفلةً ساحة عشقنا، المراسلات الضاحكة بيننا؛ بعجالة لنذهب إلى الحانوت الأخضر ونحمل بين أحضاننا ذات ثياب العيد الملونة، حتى لو مطرت السماء من فوق أرواحنا رصاصها المذوب وقنابلها العنقودية.

    

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1478 الخميس 05/08/2010)

 

 

في نصوص اليوم