نصوص أدبية

خطوط بيضاء / حسين عجة

جهنم،

 صائمة أنا، لكن من خلفي ما زلت أسحبُ، في بغداد الصفراء، حزمة آهات غليظة، عشق  له سحنة مخاوفي، وجع خلفته لأولادي فوق الرابية. مذلةً.

تعال،

لا تأتي،

لتبقى حيث أنتَ، مع الرعية، صحراء التتر، غرب الشموس، جانب النباتات العملاقة، والشروخ الدامية، حقائب مهترأة، صوت مزيف يعكس عينيك على جدار كتحدي مع ساعات الفجر ودقاته قلبه الشائخةِ.

 عودة سنونو على ضفاف البحيرة،

ما كان ينشده صانعو الأمثال التليدةِ : لا يكفي سنونو واحد لقدوم الربيع. يكفني أنا ريش السنونو، لهفاته الحائرة، حتى تقام أعراسي، أزفُ كل ليلة أنفاسي البعيدةِ. راكضةً، عمياء، نحو الآبار المجدبةِ، عشنا الصغير، إبتسامتك، كذبك الذهبي، عناقك المُضيع، حضنك الخالي، نزيف قدميك، شهوتي، والخصام الأحمر الذي تركته من حول الموقدِ.

 

(2) احتلال

بالكاد نهضت، تطلعت بما تركته لي، هي، معلقاً قبالتي في الهواء، على لوحة بيضاء لا أدري متى جاءت واحتلت نافذتي الورقيةِ.

 

(3) رنين العمر

"نحن كائنات حنين"، قال شاعر في غربته، لذا سألت عنك عند البعض من الأصدقاء الذين يشبهونك بالعمر. يشبهوني بالعمر؟ منْ أنت؟ لمَ لا يأخذك الشوق لي أنا الذي لا أعرفك. حتى تستيقظ فيك رائحة النعناع وقصب الأهوار، هل مات ورحل هواك؟

بالكاد نهضت، تطلعتُ بما خطه لي، هو، مكتوباً في الهواء، على لوحة بيضاء لا أعرف كيف ومتى سرقت عافيتي.

 

(4) وميض

الثالثة صباحاً، روحي تجف، شعري يتساقط، فمي يحترق من الغضب على أولياء الأمر في باريس، بغتة يومض خط في حجرتي، على ذات اللوحة البيضاء، في الهواء، جاءت فجيعتها وندائتها البرقية : البارحة هزَ بابل تفجير عظيم، بالقرب من دارنا القديمة، مات فيه أحد أصدقاء شقيقي. في الرابعة عشرة من عمره، جميل، ذكي وصاحب مروة، خوش ولد. آسفة حبيبي على أرهاقك معي، النت يكاد يقتلني، ينهار ويغمى عليه في كل لحظة؛ أمي تصيح عليًّ لكي أعطي والدي الدواء. هل ما زلت تحب ثيابي السوداء، سحنتي المريضة، وحزني الدائم؟ قلت أجل، قلت كلا، قلت أنا على يقين، قلت لا أدري، قلت متى سأموت وتنطفأ معي شمعتي الحمقاء.

 

(5) خرافة

"مروع صوت البيضة المسلوقة فوق صفيح ساخن، بالنسبة لرأس جائع"، قال لي أحدهم وأنا على فراش الموت.

بالكاد تحركت، تطلعت، ثالثة، بما خلفه لي، هو، شاعر من العراق، مخطوطاً على ذات اللوحة البيضاء، في غرفة الفقراء، عند حافة الغياب. تجمدَ كل شيء. عادت مراهقتي بريشها وحكاياتها الخرافية. "اتعرفني الشوارع أكثر مما تعرفني أمي"؟ أتتذكر صديق السهر والكتب الرملية؟

هل كنت حقاً من رواد مقهى المعقدين وملهى ليالى الأنس؟

أصغيتُ.

وضعتُ يدي اليمنى على الجهة اليسرى من حيث تنبض وتضيع دقات الساعة والقلب.

تذكرت الرجل الذي غنى يوماً بالقرب من طاولتي :

"من أسفل السلم ناديتك يا رباه،

شعري يتساقط في الظلام،

روحي تجف كما يجف الحبر في الدواة،

رباه، كيف يجف الدم في العروق كما يجف الحبر في الدواة"!

نسيت ما تبقى من الحزن في فم داود، شاعر من العراق، لا أعرف متى جاء باللوحة البيضاء، كيف غزا الباحةِ، كيف أنشد مسافات العمر الطويل والضياع.

 

(6) صلاة

بعد ذلك، حطت من جديد على قضبان نافذتي، حمامة موشحة برماد القارات؛ حمامة هبطت مرة كورق الخريف في الرياح، من فوق منارة، ثم توضأت بكمية من الرمل أمامها، صلت بعجالة، تلَفتتْ وخيوط الإبتسامة ما زالت تظللُ محياها، من جميع الجهات، ثم عكفت جناحيها حتى تطير من فوق الفلك الغرقان، لكن ما أن أدارت رأسها نحو الشمال حتى تلقفت بالغبطة ذاتها رصاصة القناص.

 

(7) حمال

ظل شنيع على آلاف الأميال ما زال يلاحقني. لم أشتر بنفسي بطاقة الرحيل، في المقهى الذي تحدث عنها الشاعر من العراق، أتخيله بعمر الشباب، كنتُ أنا ورفيقي الحمال نتطلع دون زوغان إلى القبة الزرقاء، هو من أجل الرغيف وخير البلاد، وأنا لكي أمازح في جيوبي المحار، شيء كالؤلؤ المنثور، حروف أو تشكل ألوان.

نتطلع نحو القبة الزرقاء، لأنها كانت ملجأ للفقراء؛ كل يوم تنطفأ ثم تعاود كالزئبق الحضور. لم يرني أحد، في الكهف الذي كنت أقطنه بلا رفقة الحمال؛ لصوص المقهى وشرطته كانوا يظنونه، هو، من سجل اسمي في دفتر النفوس، بطاقة الأحوال الشخصية، أو منْ سطر حين كنت أغفو أنا وأسهو عن كل ما نشرته أو لم أنشره من وجع المنشار.

حين رحلت، بقى مثبتاً كالجذور هناك، بلا رغبة في الرحيل، رافضاً جميع الأوراق وما وعدته به السيدة من حصول محتمل لجواز سفر أخضر قد يقيه من أمطار الشمال.

أسرد ما يراه العالم من تغضن جبهتي،

من غضبي أو جلوسي الوادع مع المهاجرين من السنغال على شواطىء روما، جائعاً ومنحني الظهر عند تخوم مملكة البياض، النعاس ينهش خاصرتي، ومن حولي رهط من مافيا الأرخبيل.

هل تمتلكون أوراق؟

كلا.

من أين جئتم؟

من البحر.

وأنت هناك ما اسمك؟

حمال.

حمال ماذا؟

جوازات.

لمن تحمل تلك الجوازات؟

للمحترقين في القشلة، شعراء العراق.

بغتةً قال أحدهم لا تصدقوه. أنا الحمال جئتُ باحثاً عنه

كظله الذي لا ينعكس على واجهات الزجاج، حين تشرق الشمس، أنا هنا

وهو هناك.

بلا جواز.

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1488 الاحد 15/08/2010)

 

 

 

 

في نصوص اليوم