نصوص أدبية

تأملات قطة / حميد الحريزي

قبل وصوله للدار ابتاع ابو لطيف كميةً من ( الحرش) السمك الصغير من السوق قدمه للقطة الصغيرة، الضيفة الجديدة التي انضمت الى بقية أنواع الحيوانات الأليفة الاخرى في البيت، الحمام، وطيور الحب، ونوع نادر من الدجاج

-تجمع الصغار ( لطيف) وإخوانه وأخواته فرحين متحلقين حول القطة التي أسموها (سمورة)

-... وقفت خجلة بين الصغار وقد ملأت خياشيمها رائحة السمك غذائها المحبب

-أكلي ... أكلي (سمورة) أنتي اليوم خطار عدنه .

-ورغم توجيهها اللوم لأبي (لطيف) بسبب جلبه للقطة  تبسمت أم (لطيف) مجبرة،وهي تسمع وترى،حركات ودعوات أطفالها للقطة،.

فمن الصعوبة ان تبنى علاقة صداقة ومودة بين ربة البيت وبين القطط ... التي مهما حاولت السيطرة على غرائزها ....... أمام أي طعام مكشوف كالسمك او اللحم ... او أي شيء اخر فلابد لها ان تضعف يوما وتمد يدها لتخطف  مما تحب .

لا تريد ربة البيت ان تسمع المثل المشهور (رزق البزاز ين عله المدعثرات) حين تخطف القطة شيئاً من الطعام ويكشف الأمر بين أفراد العائلة وخصوصا الزوج والعمة والحماة ...فيقع اللوم عليها لإهمالها...

المهم أصبحت (سمورة) احدى أفراد العائلة، ادخلها الصغار الحمام، غسلت لأكثر من مرة بالشامبو، جفف فرائها (بالفير) الكهربائي ...

اختصم الأخوة و الأخوات حول عمن يكون قيما على القطة، قالت البنات إنها قطة وهي نصيبنا نحن البنات، ولا يجوز ان تربى الأنثى في حضن ذكر .

أفحمت هذه الحجة اعتراضات الإخوة الذكور وأذعنوا لتسليمها لأختهم الكبيرة (زينب) .

برعت زينب وأخواتها في مداراة ورعاية ( سمورة) ... البسنها صدرية موردة جميلة ... وضعت في رقبتها قلادة من الخرز الملون ...وسمحت لها زينب بان تشاركها الفراش

تجلس (سمورة) في إحدى زوايا غرفة الطعام وعيونها تستدير مع حركات أيادي أفراد العائلة وهم يتناولون  وجبات الطعام، تترقب ما يفيض من الأطباق من عظام لحم الماشية والدجاج او السمك  الذي لا ينافسه سوى لحم الفأر كغذاء مفضل لدى القطط ...

تمتلئ بالبهجة عند رؤيتها وجود نوع معين من الأسماك وخصوصا البحرية،ربت البيت ترمي رؤوس الأسماك البحرية وأذنابها ل ( سمورة) لأنهم لا ياكلونها في البيت ...فتصبح من حصتها،غالبا ما كانت تدعو  عددا من قطط الجيران لمشاركتها وجبة سمكية دسمه، تتلوها فترة من اللعب والمرح القططي الشيق يجري على البساط الأخضر لحديقة أربابها .لم ينافسها على هذه العظام السمكية سوى الحاج (منعم) شقيق ابو لطيف عند زيارته لبيت أخيه،وخلاف عادتها في المواء الهادئ واللحس المحبب والدوران الطفو لي حول أفراد العائلة... كان مواء سمورة هذه المرة  أشبه بالصرخة اثار استغراب أفراد العائلة، ... لم تحتمل ما فعله الحاج عندما اخذ (يمصمص) عظام السمك ... قائلا لأفراد العائلة :- كان والدي يقول من يأكل السمك ولم (يمصمص) العظام كأنه لم يأكل شيئاً، ولم يكتفي بهذا بل هشم رأس السمكة تحت أسنانه مدعيا إنها أطيب ما في السمك

ميوووووووووووووو ... ماذا يفعل هذا ... لعنة الله عليك فما أبقيت لي من السمك شيئا ينفع...

وكيف سيكون حالي لو انس أفراد العائلة طريقة الحاج في أكل السمك وأصبحت عادة متوطنة عندهم ...

تركت أكلها زينب وربتت على رأس ( سمورة ) مستفسرة عما أصابها، يعلو صوت مواءها المجروح وهي تراقب الحاج منهمكا (بمصمصة) العظام ...

رمى لها الحاج بعظمة القحف بعد ان (مصمصها)..!

تلقفتها (سمورة) بيديها الأماميتين  وما ان قضمتها حتى تقيأتها،وقد تملكها الرعب :- ما هذا اننا لا نأكل لحم الإنسان، فما بال هذا يطعمني طقم أسنانه!!! غادرة غرفة الطعام  مستاءة متجه نحو حديقة المنزل...

تكرر فعل الاستياء والهرب،كلما دخل الحاج  دار أخيه.

مما سبب فتوراً واكتئابا للأطفال كلما زارهم عمهم لان (سمورة) لا تطيق رؤيته ... وحرمت على نفسها دخول غرفة الطعام او الاستقبال  .

 كما ضاعف قلق سموره  على مصدر غذائها المفضل  ان ربة البيت عدواً لدوداً للفئران ... بمهارة مجرب تزرع زوايا الدار ... وفوهات الحفر حتى في الحديقة بقطع من الورق المقوى المشبعة بنوع من لاصق كثيف  خاص باصطياد الفئران تضع قطعة من اللحم وقطعة من الجبن وسط  هذا اللاصق لاستدراج الفئران  أليه.

   بعد ان أفلتت الفار من ضربات (عل) أم لطيف  واختبأت في جحر لها  قرب مدخل المطبخ،كعادتها وضعت أم (لطيف) قطعة من الورق المقوى المشبعة باللاصق  المجبن، وجلست  في ركن صالة الجلوس  ترقب  ما يحدث بصمت مطبق لكي لا يفوتها سماع صوت الفار وهو يكافح للخلاص بعد ان وقع في المحظور....

اتخذت (سموره) وضع الترقب بالقرب من الجحر الذي كانت تشم منه رائحة الفأر التي أسكرتها وهي تتأمل طعم مضغها  لحما طازجا طريا شهيا مضافا الى متعة صيد الفئران التي لم تعادلها متعة أخرى بالنسبة لجنس القطط، وتعويضا لما فاتها من وجبة السمك اللذيذ بسبب  وجود الحاج على المائدة.

... سآخذ موضعا على جانب الحفرة في الناحية المعاكسة لقطعة المقوى المجبنة...وعندها سوف لن يفلت مني الفأر لحظة خروجه من جحره -هكذا أخذت تكلم نفسها  راسمة خطتها المحكمة  للظفر  في وليمة فأريه...تعوضها عما فاتها من عظام السمك- فان تورطت الفارة وحاولت المشي على المقوى لالتهام قطعة اللحم او قطعة الجبن ،أباغتها بالهجوم وأطبق عليها مخالبي قبل ان تقع في فخ اللاصق، بعد قليل انتظار أخذت رائحة الفار تصبح أكثر قوة وكثافة  مقتربة من انف (سموره)،

نعم أنها تقترب ..تقتتتتتتتتتتتترب..

هيا ..هيا  تقدم أيها الفار اللذيذ تقدم اخرج من جحرك، فأم (لطيف) أعدت لك طبقا شهيا من الجبن واللحم....

بانت شعيرات لوا مسه من فتحة الجحر ومن ثم بان بوزه المخروطي الناعم الشهي... وفي قفزة مفاجئة سقط الفار في المحظور اللاصق...ويصويصوصصصص. أم لطيف تشعر بالانتشاء والانتصار على الفار اللعين الذي اقلق راحتها خلال الأيام الماضية.

بهستيرية وارتباك اخذ الفار يحاول ان يخلص أرجله من ورقة المقوى المكسوة باللاصق، فيجذبها نحوه بشدة اكبر، سحب  اللاصق بطن ورقبة الفأر، أصيب الرأس بالتشنج وانعدام المرونة في الحركة، حاول ان يدور الفار راسه في محاولة للإفلات فعلق (بوزه)  ولوا مسه بلاصق  وهي  بتماس مع قطعة الجبن ولكن.....

تزداد قوة التصاقه وشله لحركتها كلما حاولت الإفلات او التخلص من هذا المطب المميت ... فلم يبقى غير ذنبها طليق الحركة خارج مربع اللاصق، وحركة عينيها،ارتعدت فرائص الفار المشلول وكاد ان يشهق شهقة الموت رعبا وهو يرى وقوف القطة على مقربة منه متخذة وضع الهجوم عليه لازدراده دون أن يستطيع الهرب ...فهمد جسد الفار وسكنت حركات ذنبه وأغمض عينيه متظاهرا بالموت...عسى ان تتركه القطه وعسى ان يأتي الفرج....!!!!

 أما  (سموره) تسمرت في مكانها وقدميها الأماميين. معلقان في الهواء تأهبا للإطباق على الصيد الثمين...

ما هذا الذي يحصل لي يا ألهي ... كيف لي ان امسك أعصابي وأنا أرى فأراً شهياً ممتلئي الجسم ممدداً أمام ناظري ولا يقوى على الحراك ... ماذا سيحصل لي لو إني لم امسك نفسي في اللحظة الأخيرة لأهجم على الفأرة... لو لا ان تنقذني حاسة شمي  اللاصق التي تقرفني رائحته.في حين اجتذب الفار إليه؟؟؟- 

- ما أخبث الإنسان ؟؟

كيف أتصور نفسي وقد التصق (بوزي) وشعيرات شواربي في هذا اللاصق اللعين ...

هل ستقطع ( زينب) شواربي وبالتالي يختل توازني ولا أتمكن من السير بانتظام  فأصبح موضوعا للضحك والسخرية .

وماذا سيحصل لو التصقت مخالبي وأقدامي الأمامية هل سيسلخ جلدي كطريقة وحيدة لخلاصي من هذا اللاصق الخطير ... ستفرح أم (لطيف) طبعاً لو حدث هذا لي ،تكون قد  اصطادت عصفورين بحجر واحد، ولكن ما يؤلمني حال زينب وأختها وإخوتها وهم يشاهدونني بمثل هذا المشهد... فأر، وجبن، وقط.... لم يستطع ان يطال كل منهم الآخر ولا يستطيع ان يتركه.... أي شرك عجيب  هذا؟؟؟؟

ما ألعنك أيها الإنسان ... انك شيطاننا الوحيد الذي نراه كل ساعة ... هل ترى شيطانك أنت؟؟؟

تقدمت أم لطيف لتلتقط (الورق المقوى) بأطراف أصابعها  بعد ان لفتها حول جسد الفارة كأنها تكفنها ثم رمتها في مقبرة الفضلات  . شيعتها (سموره) بنظرات حزينة متا لمه  ثم قفزت فوق سياج الدار، التفتت التفاتة سريعة نحو الأطفال  اللذين أقرفهم المشهد وكأنها تودعهم الوداع الأخير، ثم قفزت للخارج ليتلقفها الشارع ،تاركة وراءها قطعة لحم  رمتها لها (زينب) لحظة رمي أمها للفار في حاوية  الا زبال.

تموز -2010

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1489 الاثنين 16/08/2010)

 

في نصوص اليوم