نصوص أدبية

عندما أكلني الذئب

(الطواريء) والتي يميزها قانون الحرب الذي يزيح كل ما كتب من قوانين ليتفرد وحده في البلاد يجيز سجن الجندي المتغيب ومن ثم إعدامه إذا تغيب لمدة عشرة أيام بدون أعذار قانونية، هذا اليوم هوالأخير من إجازتي الدورية التي مرت كالحلم،اليوم الأخير من الإجازة يبدأ بالتهام ساعاته ودقائفه وثوانيه بوحشية كبيرة غير مبال بقلبي المعصورو كأنني قد فارقت عزيزا إلى الأبد، لذلك لا تفريط بساعة واحدة من اليوم الأخير، وحدتي العسكرية في جبهة القتال تبعد كثيرا عن المدينة التي أقطنها وعلي أن أجري حسابي بحيث أصل لوحدتي قبل التعداد الصباحي الذي من بعده أُعد من الغائبين وعند ذلك علي أن آتي بالخبر اليقين لعريف الفصيل كما فعل الهدهد حين تفقد النبي سليمان وجوده (مالي لا أرى الهدهد) أم إنه من الغائبين وأنا شخصيا لست أملك قدرات ذاك الهدهد لذلك علي أن أدبر أمري، ولكي أفعل ذلك لا بد لي أن أستغل الليل للإلتحاق بوحدتي العسكرية ويحتم علي ذلك اجتياز ذلك الطريق الموحش عند انتصاف الليل وبعد ذلك لا يبقى إلا خمسة عشر كيلومترا تقلني تلك السيارات الواقفة ليلا ونهارا من أجل نقل الجنودإلى مواقعهم وكان الوقت شتاء باردا تتخلله رياح باردة متقلبة ليس لها وجهة معينة، وها أنا أخطو بحذر فوق هذا الدرب الموحش المقفر ليختصر لي الطريق إلى المفرق حيث تتواجد سيارات نقل الجنود، لم أكد أسير بضع أمتار حتى خيل لي أنني أسمع هسهسة من حولي فتوقفت محدّقا في ظلام كثيف،قطعت أنفاسي وحركتي ورحت أنصت وديجور الليل يلفني وهمسات الريح الباردة تتخطف أذني، وقفت في مكاني لا أقدم رجلا ولا أؤخر أخرى، لا ألتفت يمينا  ولا شمالا، أتوجس خوفا حيث لا أستطيع رؤية أصابعي، رحت أواسي نفسي، قلت الأمر طبيعي فالمرء يخاف مما يجهل،ها أنا أجهل كل ما حولي لا ضوء يبدد هذه الظلمة، رحت أبحث في جيوبي عن أي شيء يساعدني على مواجهة هذا الظلام، آه، وجدت علبة ثقاب،أشعلت عودا منها لكنه لم يكد يطلق أنفاسه حتى خنقته كف الريح،و كأنها تترصده ريح لا وجهة لها تحيط بي كما تفعل الظلمة ذلك، أخرجت عود ثقاب آخر وغيرت اتجاهي، أشعلت العود لكن ريحا أطفأته، وهكذا رحت أدور حول محوري لعلي أتفادى إتجاه الريح لكنني لم أُفلح، لقد أفزعني اكتشافي أن الريح تدور حولي وتحاصرني كما يفعل الظلام وأزعجني أن العيدان احترقت كلها ولم يبق منها شيء ، وقفت للحظة أتفقد أوضاعي فلم أجد إلا خيوط الوهم تغزو كياني الملتبس وهكذا صرت أسمع أصواتا تأتي بها الريح من كل جانب وعندما أتفرس بأعماق الظلام، أرى مخلوقات تتقافز أمامي وعلى جنبي، كان الدرب محاذيا لسور بستان كثيف، راحت الأفكار تهاجم خيالي وانسربت صور شتى تسيل من حولي لذئاب شرسة ومخلوقات مبهمة، عند ذاك لم أجرؤ على التقدم مترا واحدا، نسيت الهدهد ونسيت العريف وتعداده، ذاك خطر بعيد وما أنا فيه من خطر قريب هو المهم، قررت البقاء حيث أنا حتى انبلاج الفجر، رحت أحدق عميقا في الظلام فأرى مخلوقات الظلمة كيف ما اتجهت تدخل إلى عيني بأشكال مختلفة، لكنني رأيت بشكل أكيد من خلال العتمة عينين بحلقتين صفراوين حولهما وهما تقدحان، كانتا أمامي مباشرة على يمين الطريق، في تلك اللحظة علمت أن قلبي لم يكذب علي وإن عيني لم تتوهما وإن حدسي في محله وها هما العينان تقدحان في الظلام ورحت أتخيل نيوب الذئب الحادة وهي تمزق لحمي البائس وتدفعه إلى معدته الجائعة فيقشعر جلد رأسي ،و ها هما العينان ترقبانني وتترصدان حركتي مستعينة بعصف الريح الباردة والظلام الذي وسق كل شيء حتى تغلغل لأعماق روحي المتوجسة، لم يكن بمقدوري أن أتحرك بأي اتجاه فلو هربت بعيدا نحو الجهة المعاكسة فلربما كانت تلكما العينين تنتظران حركتي كي تشرعا بمهاجمتي من الخلف، ماذا أفعل، انحشرت هذه الجملة في رأسي وراحت تقفز ..ماذا أفعل.. ماذا أفعل ...و على رنة ترداد هاتين الكلمتين مصحوبتين بخوفي وتوجسي واستطالة لحظة الترقب، هوم على نعاس رحت أقاومه بكل ما أستطيع لكنه غلبني وسحب يقظتي خيطا خيطا حتى صرت في قبضته ولم أعلم بعد ذلك حتى صحوت على هزات عنيفة كادت تخلع كتفي...،: استيقظ هل تشكو من شيء، انتبهت الىإنني كنت أجلس متقرفصا أحتضن حقيبة سفري مسندا ظهري إلى حائط البستان وقد نمت نوما عميقاو كان الفجر في أول أنفاسه والغبش ينتشر على وجه الأرض....

قال هل أنت تعب؟

قلت : لا

قال : لماذا تنام في الدرب؟

لم أجبه لكنني نظرت بكل الإتجاهات أبحث عن موقع تلكما العينين بيد أنني لم أكن متأكدا من الإتجاهات، لقد ضاعت، راحت عيناي تجوسان المكان وما حوله لم أجد إلاقطعة من قميص نسائي ممزق على حافة الدرب كان على حاشية صدر القميص زرّان من الزجاج اللآمع حولهما غطارين من المعدن الأصفر البرّاق، تناولت قطعة القميص الممزق دسستها في حقيبة سفري قلت هذا هو الذئب، بدا الحارس مبهوتا عندما رحت أسير بخطوات بطيئة وواثقة نحو الطريق العام حيث تمر السيارات.

 

 

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1503 الاربعاء 01/09/2010)

 

 

 

 

في نصوص اليوم