نصوص أدبية

المُبجّل شاليط

قبل دقائق دلف أحدهما إلى داخل البيت، وأحضر جريدة ً مطوية ً بعناية ؛ وضعها أمام جاره وصديقه سليم الوزان قائلا ً :

- هنا ستجد المقالة .

في خلال نوبة الصمت، دخلت امرأة بدينة سمراء في نهاية الخمسينيات من عمرها، تصر وجهها وعنقها بلفاع أسود، فسدّ جسدها معظم فتحة باب الحجرة، ذهبت إلى مكان جلوسهما ناظرة إلى سليم الوزان وهتفت بلهجة لا تخلو من دعابة:

- قهوتك على الريحة .

حين كانت تضع أمامهما فنجاني القهوة ؛ لاحظت أن صمتهما يُضمر قلقا ً ما .

قالت :

- لم أعتد منكما هذا الهدوء الوقور أبدا ً !

أجاب زوجها أحمد اليافي :

- كنا نتكلم، وقبل دخولك نفد الكلام .

ثم خرجت فلاحقا صدى خروجها البطئ .

قال سليم الوزان :

- هل تذكر يوم استبدلوا بضعة جنود بأربعة آلآف أوأكثر من العسكريين والمدنيين؟

أجاب أحمد اليافي :

- أجل . وكان بعضها جثثا ً قديمة .

- هل حصل ذلك مرة واحدة؟

- لا لقد تكرر مرات عدّة .

عبر صرصار كبير باب الحجرة قادما ً من الداخل، وتقدّم نحوهما فأوحى منظره لأحمد اليافي برائحة ما، وحين نهض للتخلص منه تذكـّر أنه مهموم منذ بضعة أشهر بمشكلة أنابيب الصرف الصحي في البيت، إذ إنها أصبحت متآكلة تنز مياهً ثقيلة ً آسنة ً وروائح كريهة .

هتف سليمان الوزان :

- لا تقتله بحذائي؟ إنني أكره رائحة هذه الحشرة .

لكن أحمد اليافي سحقه بحذائه . وهو يختض ضاحكا ً، ثم أخرج من جيب قميصه منديلا ً ورقيا ً، وحمل الصرصار النافق وغادر المكان .

أدار سليم الوزان أنظاره في أرجاء الحجرة . الجدران صفر كابية ؛ بدا وكأنها لم تنعم برشة دهان منذ أمد بعيد، وحروف الجدران الدنيا الملامسة للأرضية مقصّفة

منخورة، شقوقها بائنة للعيان في أكثر من موضع، وملاط السقف مبقـّع بآثار نزف ٍ مائي قديم، وبعض أجزاء الطلاء تتدلى موشكة على السقوط، وثمة ستارة قصيرة قماشها رخيص مخرّم من دون بطانة أزيح نصفها الآن ؛ من أجل مرور الهواء والضوء عبر ظلفتي نافذة مفتوحتين خلفها تلوح أغصان شجرة برتقال ذاوية، غرست في المساحة الوحيدة الخالية في فناء البيت، كثيرا ً ما فكر – عند رؤيتها – بأنها تعاني ظمأ ً مستديما ً، وعلى الجدران لوحات وصور عائلية وكلمة ( عائدون ) مشغولة بخرز أخضر تبدو وكأنها مصنوعة بمزاج طفل . وعلى الجانب المقابل لنافذة الحجرة الوحيدة، رُكنت خزانة خشبية مملوءة بالكتب والمجلات والصحف، وفي مخيلته تداعت صور شتى تخصهما هما الاثنان - المدرسة الأبتدائية في يافا، وكارثة الأحتلال، وديار الشتات، ومخيم اللاجئين في البصرة، ثم دار الأقامة في بغداد منذ أوائل الخمسينيات . وتداعت أيضا ً شظايا من مهانة عمر قاحل أمده أحدى وسبعون سنة، توّجته مع كرّ السنين، أمراض السكري وضغط الدم، والرئتان المنخورتان بدخان السكائر الرخيصة .

عند عودة أحمد اليافي وجلوسه قبالته سأله :

- هل رأيت المقالة؟

- لا، ولكن ألم تفكر بعد بعمل شئ من أجل التمديدات الصحية في البيت .. انني متأكد من أن جميع الأنابيب منخورة وتالفة الآن .

- صحيح . وقد اقترحت ُ على صاحب المنزل بأن يعفيني من أجرة شهرين لكي أتمكن من استبدالهما، واصلاح ما أصادفه من خلل في المنظومة كلها . لكنه أبى .

أتما شرب القهوة منذ زمن، وأخذا يدخنان وهما سادران في نوبة صمت جديدة . كانت ساعة الغروب تهبط بينهما ؛ أحسا بها من خلال شحوب الضوء القادم من النافذة حين اشتبكا في حوار صامت أليم . وماتزال شاشة التلفاز تصدر وميضها المتخاطف على الجدار خلفهما، على أن حاجزا ً واحدا ً كان يمنعهما من تبادل الأحاديث، انه حاجز الرهبة من التورط في ذكر أي شئ عن المقالة التي قرأها أحمد اليافي صباح هذا اليوم في جريدة ( المكان )، وأراد أن يتسلى بصدمة اكتشاف مضمونها من قبل صديق طفولته وفتوته وشبابه وكهولته، ولكي يشاركه في التعرف على ذلك التحليل المنمق المذل الذي أثار حفيظته، مع أن ما تستلهمه المقالة بات أمرا ً متداولا ً، ولا تخلو منه نشرات الأخبار في المذياع أوفي التلفاز هذه الأيام . ثم سمعا صوت المرأة يأتي من الداخل :

- هل اعد لكما الشاي؟

أجاب أحمد اليافي :

- هيّا ولكن لاتخطئي في وضع السكر.

ثم التفت الى سليم الوزان وسأله :

- الا تشعر بالخجل؟ انهم يروّجون لاستبدال أسير واحد بألف سجين منـّا .

- الخجل . بلى هذا مانشعر به الآن !

- وماذا بشأن الحلم؟

- لمس سليم الوزان طرف الجريدة، التي ماتزال مطوّية أمامه، وبعد لحظة أبعدها بأطراف أصابعه وأشعل سيكارة ثم خفض رأسه مستغرقا ً في نوبة سعال قاسية، ولم ينبس بنت شفة .

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1504 الخميس 02/09/2010)

 

 

 

في نصوص اليوم